بدأ التنظير للتنمية منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وإن كان لم ينل زخمه ويبدأ بجذب الأضواء وممارسة قدر من التأثير سوى بعد الحرب العالمية الثانية مع بداية موجة التحرر الوطني وظهور مشكلة البلدان المُستقلة حديثًا، وقد كانت النظريات الأولى وعلى مدى عقدين لاحقين نظريات برجوازية ينتجها أكاديميو البلدان المتقدمة ويصدّرونها للمستعمرات السابقة، وكانت بطبيعة الحال تنتمي في معظمها للخط الكمي اليميني، مع تطور محدود باتجاه الخط الكيفي منذ منتصف الستينيات مع تكشّف النتائج العملية البائسة لاتباع تلك النظريات والإستراتيجيات.


مراحل تطور نظريات التنمية

وهكذا تمحورت نظريات التنمية في الخمسينات [1] حول هدف تنمية الناتج المحلي الإجمالي GDP، وكان أشهرها نظرية الدفعة القوية لروزنشتين ورودان الهادفة لتحقيق التصنيع من خلال دفعة قوية من الاستثمارات تكسر دائرة الركود التي ينحبس فيها الاقتصاد المتخلف، والنمو المتوازن لراجنار نيركسه الهادفة لنمو متوازن للاقتصاد بكافة قطاعاته، ونظرية الإقلاع ضمن مراحل مُحددة للنمو الاقتصادي للمؤرخ الاقتصادي والت ويتمان روستو، الذي أنجز نظريته تلك بناءً على طلب المخابرات المركزية الأمريكية، كمحاولة لمواجهة التصور الماركسي الستاليني الكلاسيكي الخاص بالانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ثم للاشتراكية فالشيوعية، وقد حددها روستو بخمس مراحل متعاقبة، تبدأ بمرحلة المجتمع التقليدي فمرحلة التمهيد للانطلاق ثم مرحلة الانطلاق وصولاً لمرحلة السير نحو النضج وحتى مرحلة الاستهلاك الجماعي الواسع، ونظرية هارفي ليبنشتين عن الحد الأدنى الضروري من الجهد التنموي التي تشبه نظرية الدفعة القوية، ونظرية معيار الاستثمار الكلي الضروري بتنوعاتها التي تؤكد على الدور المحوري للاستثمار في تحقيق النمو الاقتصادي.

وكان أشهر النماذج التطبيقية لهذه النظريات هو نموذج هارود– دومار الذي كان بطبيعة الحال نموذجًا كمّيًا شديد التبسيط، يربط النمو مباشرةً بالادخار ومعامل رأس المال، والذي يتجسّد على مستوى السياسات والإستراتيجيات في استثمار في التصنيع ورأس المال الاجتماعي SOC والبنية التحتية، ضمن سياسات تجارية تهدف لإحلال الواردات، وسياسات اقتصادية ديموغرافية تفضّل القطاع الحضري على القطاع الريفي.

نظريات التنمية في الستينات، فقد اتسع أفقها ليشمل مزيدًا من المتغيرات والأبعاد الكمية، كما تطورت لتأخذ بعضًا من البعد الكيفي الهيكلي في الاعتبار.

أما نظريات التنمية في الستينات [2]، فقد اتسع أفقها ليشمل مزيدًا من المتغيرات والأبعاد الكمية، كما تطورت لتأخذ بعضًا من البعد الكيفي الهيكلي في الاعتبار، وهكذا اتسع أفق أهدافها ليشمل إلى جانب تنمية الناتج المحلي الإجمالي هدف التشغيل وتوفير فرص العمل وهدف تحقيق التوازن الخارجي في ميزان المدفوعات؛ فكان أن ظهرت نظرية الثنائية الاقتصادية في أولى تجليّاتها على يد أول منظريها السير آرثر لويس صاحب نظرية فائض العمل الزراعي، وزاد الجدل بين نظريات النمو المتوازن بريادة رجنار نيركسه ونظريات النمو غير المتوازن بريادة ألبرت هيرشمان، وبدأ النظر للتنمية كعملية تراكمية من السببيات المُتداعمة المُتشابكة، ثم الاتجاه لتحليل أنماط ومسارات النمو في أعمال كولين كلارك وسيمون كوزنتس وويتمان روستو وألكسندر جرينشينكرون، وبداية الاهتمام المركّز بالعلاقات الدولية وآثارها على البلدان المتخلفة من خلال دراسات هانز سنجر وراؤول بريبش عن توزيع المكاسب الدولية من التجارة والاستثمار، وما تلاه من الانتباه لعديد من الأبعاد والعوامل الهامة في عملية التنمية، كالارتباطات الأمامية والخلفية بين القطاعات الاقتصادية ورأس المال البشري واختيارات التكنولوجيا وأسعار الظل والحماية الجمركية الفعلية والدور المحوري لقطاع الزراعة في التنمية.

وأشهر النماذج التطبيقية التي تم تطويرها في إطار هذه النظريات كان نموذج الفجوتين الداخلية والخارجية، وبداية تطبيق نموذج المدخلات والمخرجات لواسيلي ليونتيف، كذا نموذج التوازن العام البسيط، وتطبيقات البرمجة الخطية في الاقتصاد، وذلك في إطار سياسات وإستراتيجيات تعمل على إحلال الواردات والتخطيط القطاعي وضمان التوازن بين قطاعي الزراعة والصناعة وإصلاح الأسعار والمالية العامة وتعزيز الصادرات والاستفادة من المساعدات الأجنبية ومحاولة التكامل الإقليمي.

ثم أتت نظريات التنمية في السبعينات [3] لتشمل إلى جانب الأهداف السابقة لنظريات عقد الستينات أهداف تحسين توزيع الدخل وخفض مستويات الفقر، لتتفكك النظريات الشاملة، وتبدأ الاجتهادات النظرية تركز في أغلبها على أبعاد متفرقة من المشكلة التنموية، فتظهر مقترحات الاهتمام بالمناطق الريفية التقليدية والقطاع غير الرسمي والهجرة من الريف إلى المدينة ومعايير الاستثمار سوسيواقتصاديًا (أي استبطان أبعاده الاجتماعية) وضرورة اختيار التكنولوجيا المناسبة للبيئة المحلية والاهتمام بالعلاقات التبادلية بين الناتج والدخل والتشغيل والتوزيع والفقر.

وهو ما أنتج نماذج الأهداف المتعددة والنماذج القطاعية ومحاولات بناء نماذج التوازن العام المُحوسبة CGE، وسياسات وإستراتيجيات التنمية الريفية المتكاملة والتشغيل الشامل وربط النمو بإعادة التوزيع والتركيز على الحاجات الأساسية. وقد انشق على هذا التيار من النظريات بعض الاقتصاديين الراديكاليين كأندريه جوندر فرانك وسمير أمين وغيرهما، فأنتجوا نظريات يسارية في التنمية كنظرية تنمية التخلف ونظرية المراكز والأطراف، تحمّل النظام الرأسمالي المسئولية عن التخلف، وتطرح مقترحات تتراوح ما بين مداخل إصلاحية تتجسد في إعادة توزيع الأصول الاقتصادية، ومداخل جماعية ثورية تنحو لفك الارتباط بالنظام الرأسمالي والاتجاه للاشتراكية، مما سنفصّله بصورة أكبر في مقال آخر.

وحلّت نظريات التنمية في الثمانينات [4] في سياق انقلاب يميني عالمي لتتطبّع في معظمها بذلك الطابع، فكانت أهدافها التثبيت الانكماشي للاقتصادات ولو على حساب هدف التشغيل، وتحقيق التوازن الخارجي تجاريًا والداخلي نقديًا وماليًا ولو على حساب التوازن العيني، وفرض أجندة التكيّف الهيكلي بتقليص الطلب والتركيز على رفع مستويات الكفاءة الداخلية، فكانت نظريات النمو الباطني، والاقتصاد المؤسسي الجديد، وتأكيد الاعتماد على السوق الحرة ورفض التدخل الحكومي، ودراسة العلاقات المتبادلة بين رأس المال البشري ونقل التكنولوجيا، كذا تشابك أسواق عوامل الإنتاج، والاهتمام بتحليل وقياس السياسات ونتائجها. واعتمدت هذه النظريات تطبيقات نماذج التوازن العام المُحوسبة، خصوصًا على سياسات التكيف الهيكلي، كذا اتجهت لدراسة آثار السياسات المالية والتجارية على النمو، ودفعت بطبيعة الحال باتجاه التثبيت والتكيف الهيكلي، وللاعتماد على السوق والتوجّه للخارج والخصخصة وتقليص دور الحكومة في الاقتصاد.

واستمرت نظريات التنمية في التسعينات [5] على نفس نهج سابقتها في الثمانينات من التركيز على هدف التكيف الهيكلي وتحرير التجارة، مع بعض الترشيد بالاهتمام بخفض الفقر والحكم الصالح وبناء المؤسسات، من خلال دراسة دور المؤسسات في تحديد مسار التنمية، ودراسة العلاقة بين الحكومة والسوق ودور كل منهما في الاقتصاد، ودراسة دور رأس المال الاجتماعي كعامل مُكمل للنمو الاقتصادي، والاهتمام باقتصاديات الفساد.

وقد أنتجت هذه النظريات مجموعة من التكنيكات البحثية كدراسة مصادر النمو الاقتصادي ونماذج انحداره الإحصائية ومحاولة تحديد الإنتاجية الكلية للعوامل TFP والاستمرار في دراسة آثار التكيف الهيكلي من خلال نماذج التوازن العام المُحوسبة، كما استمرت في ترويج سياسات وإستراتيجيات التثبيت والتكيف الهيكلي والاعتماد على السوق والتوجّه للخارج والتحرير الاقتصادي، مع إضافة أهداف خفض الفقر ورفع مستويات الرفاهية السوسيواقتصادية اتساقًا مع ما أضافته من أهداف على ما سبق ذكره.

أما نظريات تنمية الألفية الجديدة فقد اتجهت لمراجعة ونقد توافق واشنطن الذي تجسّد في برامج التثبيت والتكيف الهيكلي، وللاهتمام بالتنمية البشرية وخفض مستويات الفقر والتفاوت والهشاشة السوسيواقتصادية، كذا وضعت أهدافًا إنمائية للألفية إلى جانب ما سبق ذكره من أهداف لسالفتها من نظريات التسعينات.

وطوّرت لتحقيق هذه الأهداف دراسات الاقتصاد السياسي للتنمية وبحث أدوار المؤسسات في الاقتصاد بعامة وفي التنمية بخاصة، كذا دراسات التوازن المتعدد والفقر متعدد الأبعاد، وترابطات النمو والتفاوت والفقر كما سجّلتها التجربة التاريخية للنصف الثاني من القرن العشرين، ووظفت كل هذا في البحث عن إستراتيجية تنمية داعمة للفقراء أو إستراتيجيات نمو احتوائي، لكن في إطار التأكيد على العولمة كإستراتيجية تنمية.


نظرة نقدية لنظريات التنمية

استمرت نظريات التنمية في التسعينات على نفس نهج سابقتها في الثمانينات من التركيز على هدف التكيف الهيكلي وتحرير التجارة، مع بعض الترشيد بالاهتمام بخفض الفقر والحكم الصالح وبناء المؤسسات.

ويُلاحظ على نظريات التنمية تطورها كما سبق ذكره منذ منتصف الستينات باتجاه رؤية أكثر واقعية تحاول أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية للبلدان النامية وطبيعة هياكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، كذا تبنيها رؤية أكثر إنسانية تحاول استيعاب الأهداف الاجتماعية كعلاج لفشلها في إنجاز التنمية نفسها، ومنهجيًا يمكن القول بأنها تطورت – بانشقاقات بالطبع – من اتجاهات النماذج والمؤشرات (طابع اقتصادي)، إلى اتجاه تطوري مُحدث (طابع اقتصادي اجتماعي)، واتجاه انتشاري (طابع اجتماعي ثقافي)، واتجاه سيكولوجي (طابع اجتماعي نفسي)، واتجاه مكانة دولية (طابع اقتصاد-سياسي دولي)[6] .

بعض المنظرين رأى أن الفكر التنموي الرأسمالي يعاني من إشكالية مفادها انحراف المقاصد المُعلنة عن جوهرها، باقترانها بقانون التطور اللامتكافئ الذي يشترطه التقدم الرأسمالي على مستوى الكم.

وكان ذلك تحت ضغط واقع فشل تلك الاجتهادات ومنافسة النظريات اليسارية، وفي قلبها الماركسية الجديدة، التي بدأت تشير بقوة لهذه العوامل ولدورها في إفشال أي تنمية تستهدفها البلدان المتخلفة، كذا لدور هيكل الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي يعمّق الاستقطاب بين المراكز الرأسمالية المتقدمة والأطراف التابعة المتخلفة، فينمي ويطوّر الأولى ويُفقر ويعمّق تخلف الثانية.

لكن هذا لم يغيّر من الطابع المنهجي الأساسي للنظرية الاقتصادية الاجتماعية العامة السائدة، فقد أخذت بهذه العوامل بشكل عشوائي ومُفكك وليس منظومي، كما نظرت لها بشكل سطحي وضيق الأفق في حدود المصالح الرأسمالية التي تؤيدها، بحيث ظلت منهجيًا وفي مُجملها نظرية تطورية محافظة؛ وهكذا ظلت محتفظةً بدرجات متفاوتة بالسمات الرئيسية لعلم الاقتصاد الغربي كما أجملها الدكتور رمزي زكي، وهى [7]:

* إسقاط العلاقات الاجتماعية من التحليل والنظر إليها على أنها تقع خارج مجال علم الاقتصاد.

* التخلي عن النظرية الموضوعية في القيمة والاعتماد على النظرية الذاتية التي تفسّر القيمة بالندرة والمنفعة.

* النظر إلى الرأسمالية على أنها نظام يمثل نهاية المطاف ونهاية ما يجود به التاريخ من نظم.

* الاعتماد بشكل رئيسي على التجريد في التحليل، المُمثل في أدوات التحليل الحدي.

* تحوّل علم الاقتصاد إلى علم لتفسير سلوك المستهلك وسلوك المنتج (على مستوى التحليل الوحدي)، ولتفسير شروط التوازن العام (على مستوى التحليل الكلي).

* الإبقاء على ما تضمنته نظرية النفقات النسبية في تفسير قيام التجارة الدولية وتقسيم العمل الدولي.

وقد أجمل الدكتور عبد الجبار العبيدي القول بأن الفكر التنموي الرأسمالي «يعاني من إشكالية مفادها انحراف المقاصد المُعلنة عن جوهرها، باقترانها بقانون التطور اللامتكافئ الذي يشترطه التقدم الرأسمالي على مستوى الكم، وبالأزمات والدورات الاقتصادية التي تتطلب وجود كيانات مفتوحة/مُستباحة على مستوى الكيف؛ لذا فإن الإعلان عن التنمية منذ عام 1945م من قبل الرئيس الأمريكي ترومان لم يكن القصد من ورائه رفع إمكانية التطور للمُستعمرات، بقدر ما كان محاولة لتوظيفها بكفاءة في ظل المنظومة الرأسمالية، وبالذات بعد فض ارتباطها (طلاقها) مع الاستعمار القديم بهدف تهيئتها للقيام بوظيفة امتصاص أزمات النظام، ولعبها دور سوق خلفية (مرحلة إستراتيجية إحلال الواردات في الستينات)، وسوق أمامية (مرحلة التصنيع للتصدير في السبعينات) وسوق سفسطائية (مرحلة التنمية البشرية في الثمانينات)، ومنعًا مُؤدلجًا (مرحلة الحاجات الأساسية والتنمية البشرية المُستدامة في الفترة اللاحقة) من خلال توجيه الموارد بعيدًا عن أي جهد تنموي، بل تكريس الطابع الخاميّ وتوظيفه بالمُجمل (GNP) لالتهام المُخرجات التي تقذف بها الرأسمالية في طورها الجديد (المُصاب بأزمة مُستعصية مُقيمة منذ أكثر من ربع قرن»[8].


[1] هيثم محمد علي حامد، نظريات التنمية المعاصرة..دراسة نقدية في ضوء المنظور الحضاري الاسلامي، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة أم درمان الإسلامية، 2012م.[2] هيثم محمد علي حامد، نظريات التنمية المعاصرة..دراسة نقدية في ضوء المنظور الحضاري الاسلامي، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة أم درمان الإسلامية، 2012م.- Matthias P. Altmann, Contextual Development Economics..A Holistic Approach to the Understanding of Economic Activity in Low-Income Countries, New York, NY: Springer New York, 2011.[3] Amitava Krishna Dutt & Jaime Ros, International handbook of development economics, 2 V, Edward Elgar Publishing Limited, 2008.- Matthias P. Altmann, Contextual Development Economics..A Holistic Approach to the Understanding of Economic Activity in Low-Income Countries, New York, NY: Springer New York, 2011.[4] George Mavrotas & Anthony Shorrocks (editors), Advancing development: core themes in global economics, United Nations University, Palgrave Macmillan UK , 2007.- Richard Peet & Elaine Hartwick, Theories of development: contentions, arguments, alternatives, 2nd ed., The Guilford Press, 2009.[5] George Mavrotas & Anthony Shorrocks (editors), Advancing development: core themes in global economics, United Nations University, Palgrave Macmillan UK, 2007.-Richard Peet & Elaine Hartwick, Theories of development: contentions, arguments, alternatives, 2nd ed., The Guilford Press, 2009.[6] د. السيد الحسيني، التنمية والتخلف..دراسة تاريخية بنائية، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1982م.[7] د. رمزي زكي، فكر الأزمة..دراسة في أزمة علم الاقتصاد الرأسمالي والفكر التنموي الغربي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1987م، ص 74، 75.[8] د. عبد الجبار محمود العبيدي، التنمية البشرية المُستدامة..طروحات العولمة وطروحات الاستقلال (دراسة نقدية)، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية، المجلد 14، ع49، سنة 2008م.