لا يزال الجدل محتدمًا حول طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، كما أن جدلًا خاصًا يدور حول تلك العلاقة على المستوى الإعلامي، ومدى استخدام كل من الدولة والمجتمع للإعلام لتحقيق أهدافه.

فالدولة تختلف بحسب المنظور (Perspectivism) الذي نستخدمه لفهمها، حيث يؤكد هيجل أنها تنشأ عن دافع أخلاقي عضوي، بينما اعتبرها هوبز وشميت قائمة على القانون الطبيعي، وقال ماركس إنها ناتجة عن السيطرة الاقتصادية لطبقة على طبقة أخرى، كما نظر إليها كلسن بوصفها ظاهرة قانونية بالأساس، بينما اعتبر جرامشي أنها نظام للهيمنة.[1]

أما المجتمع المدني فاعتبر توماس هوبز في منتصف القرن الـ 17 أنه يُنظَّم سياسيًا عن طريق الدولة القائمة على فكرة التعاقد، بينما اعتبر جون لوك أنه مُنظَّم بشكل طبيعي وهو فوق الدولة، أما روسو في القرن الـ18 فاعتبر أن المجتمع المدني هو المجتمع صاحب السيادة، وهو قادر على تشكيل إرادة عامة يتماهى فيها الحاكمون والمحكومون، بينما رأى مونتسكيو أن المجتمع المدني يأتي في سياق البحث عن البنى الأرستقراطية الوسيطة المعترف بها من السلطة، أما هيجل فاعتبر أن المجتمع المدني هو حالة بين الأسرة والدولة فهو يتوسطهما ويفصل بينهما في الوقت ذاته، وبدوره شدد توكفيل على دور المنظمات المدنية الفاعلة في نطاق الدولة بالمعنى الضيق، بينما قفز جرامشي على التعريف الماركسي للمجتمع المدني كمجتمع برجوازي وجعله النطاق الذي تتم فيه الهيمنة الثقافية، وهي تختلف عن عملية السيطرة التي تميز المجال السياسي.[2]

وأيًا ما كان المدخل الذي سننظر به للدولة، خاصة إذا اعتبرنا أنها «فاعل له مصالح خاصة لا تعكس بالضرورة مصالح المجتمع المدني»[3]، وأيًا ما كان منظورنا للمجتمع المدني، خاصة إذا اعتبرنا أنه «القطاع الثالث من قطاعات المجتمع الذي يختلف عن الحكومة وقطاع الأعمال»[4]، فإن المفكرين والباحثين اتفقوا على أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع مدني قوي وفعال بدون وجود إعلام حر يستطيع الوصول إلى الجمهور والتعبير عن آرائه.

وهنا يظهر سؤال مهم حول حجم تأثير الدولة على الإعلام واستخدامه كوسيلة للهيمنة والغرس الثقافي، والطريقة التي يستخدم بها المجتمع المدني وسائل الإعلام في خدمة أهدافه باعتبارها وسائل مراقبة ونقد واستقصاء. وبصيغة أخرى: أيهما يسيطر على الإعلام بشكل أكبر، الدولة أم المجتمع؟ وفي هذا الشأن تنقسم نظريات الإعلام إلى قسمين رئيسيين، يفترض الأول أن الدولة أو النظام الحاكم مسيطر تمامًا على المجتمع ويملك قدرة عالية على توجيهه من خلال الإعلام، بينما يفترض القسم الثاني من النظريات الإعلامية أن الجمهور والمجتمع المدني هو من يصنع المحتوى ويسيطر عليه بشكل أكبر من النظام. وتحاول هذه المقالة تلخيص الاتجاهين النظريين والترجيح بينهما.


نظريات سيطرة الدولة على الإعلام

في النصف الأول من القرن العشرين، ظهرت نظريات التأثير الواسع لوسائل الإعلام التي كانت مملوكة للدولة، أو على الأقل، كانت جزءًا من النظام السياسي والاقتصادي القائم، مثل نظريات: «الرصاصة السحرية»، «الاعتماد»، «الغرس الثقافي» و«ترتيب الأولويات»، ولاحقًا ظهرت نظرية «دوامة الصمت». وهذا النوع من النظريات يؤكد جزئيتين: الأولى أن وسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على التأثير، والثانية أنها جزء من النظام السياسي الاقتصادي القائم.

وتعد نظرية الاعتماد المتبادل بين وسائل الإعلام والنظم الاجتماعية (Mass Media Dependency) أبرز النظريات التي تدعم هذا الاتجاه، وتفترض النظرية أن وسائل الإعلام تمثل مصدرًا للمعلومات التي يعتمد عليها الأفراد والمجموعات والمنظمات والنظم الاجتماعية لتحقيق أهدافهم، وعلاقة الاعتماد هذه ليست ذات اتجاه واحد، فوسائل الإعلام ليست قوية تمامًا، حيث تعتمد بدورها على موارد تتحكم فيها النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى لكي تمارس عملها بكفاءة، ويمكن وصف ذلك بمفهوم «الاعتماد المتبادل»[5]. وفي كتابه «تحول السلطة»، يؤكد الكاتب الأمريكي ألفن توفلر على أهمية المعرفة كمكون أساسي من مكونات السلطة، فيقول إن عناصر السلطة تكمن في المال والقوة والمعلومة.[6]

وبدوره قام هارولد لازويل – صاحب نموذج الاتصال الشهير المبني على الأسئلة الخمسة The “5W” Model – بتقديم نظرية الحقنة تحت الجلد hypodermic needle أو الرصاصة السحرية magic bullet، التي تفترض أن الجمهور يستقبل كل شيء ويتقبله دون تفكير أو نقد، فشبَّه الرسالة بالرصاصة التي تصل إلى هدفها بشكل مباشر أو بالمحلول الذي يحقن به الوريد ويصل خلال لحظات إلى كل أطراف الجسم عبر الدورة الدموية.[7]

ومن النظريات المؤكِّدة على الدور القوي لوسائل الإعلام في التأثير على الجمهور، نظرية الغرس الثقافي (Cultivation theory)، ويفترض فيها العالم جورج جربنر أن الأفراد الذين يتعرضون لمشاهدة وسائل الإعلام، وخاصة التليفزيون، بدرجة كثيفة، يدركون الواقع الاجتماعي بشكل مختلف عن نظرائهم من ذوي المشاهدة المنخفضة. وتشير النظرية إلى أن وسائل الإعلام تغرس القيم داخل الأفراد بشكل تدريجي ويومي حتى يتراكم لديه كم كبير من الرسائل التي تؤثر فيه بشكل كبير على المدى البعيد.[8]

وتأتي نظرية دوامة الصمت Spiral Of silence لتضيف إلى نظرية الغرس الثقافي، فتفترض أنه في حال تبني وسائل الاتصال المؤثرة وخاصة التلفزيون لاتجاهات أو آراء محددة والتركيز عليها لفترة كافية، فإن أغلبية المتلقين ستتأثر بها، وبذلك يتشكل الرأي العام في المجتمع وفق الاتجاهات والآراء والأفكار التي تتبناها وسائل الاتصال نحو قضية أو شخصية معينة، أما الأفراد الذين يختلفون مع هذه التوجهات فإنهم يلتزمون الصمت لتجنب الصدام مع الجماعات الكبيرة المؤيدة، ويفضلون عدم التصريح بآرائهم، بينما يصرح المؤيدون بأفكارهم ويفاخرون بها، وبذلك تظهر آثار لولبية تميل نحو الجانب السائد بفعل وسائل الاتصال، ولا تعبر عن المواقف والآراء الحقيقية لجماهير المجتمع.[9]

وبدورها تفترض نظرية ترتيب الأولويات (Agenda-setting) أن وسائل الإعلام لا تخبرك كيف تفكر، ولكن في ماذا تفكر، حيث تهتم بزيارة الرئيس أكثر من اهتمامها بمجاعة في أحد الأقاليم مثلا، وبهذا فهي لها تأثير كبير على اتجاهات الجمهور ويمكنها أن توجهه كيفما أرادت.[10]

وفي ذات الاتجاه تأتي نظرية التأطير الإعلامي (Framing Theory) لتشير إلى أن القائم بالاتصال الإعلامي يركز على بعض جوانب القضية التي يتناولها ويغفل جوانب أخرى، انطلاقًا من خلفياته الثقافية والسياسية والدينية والقيمية، بطريقة تجعل الجمهور المتلقي يتقبلها كما يريد المرسل وليس حسب قناعاته ومرجعياته.[11]


نظريات سيطرة المجتمع (الجمهور)

وهذا النوع من النظريات يفترض أن المجتمع له دور كبير في تحديد نوعية وأشكال الرسائل التي يتم بثها عبر وسائل الإعلام، حيث تفترض نظرية الاستخدامات والإشباعات Uses and Gratifications أن الجماهير فعالة في انتقائها للرسائل، حيث يتجه الجمهور إلى وسيلة الإعلام التي تقدم له المحتوى الذي يريد أن يسمعه (ما يطلبه المستمعون)، ولهذا فإن أي وسيلة إعلامية تسعى للوصول إلى جمهور معين، فإن عليها أن تقدم الرسائل التي ترضي هذا الجمهور.[12]

وفي منتصف أربعينيات القرن الماضي خرج كل من كاتز وليزرسفيلد بنظرية الاستقبال على مرحلتين Two step flow، والتي تفترض أن الأشخاص يحددون اختياراتهم على مرحلتين، حيث يكون «قادة الرأي» رأيًا إزاء قضية بعينها، ثم يتبناه المحيطون بهم من الأفراد العاديين. وهي نظرية تنتمي إلى مدرسة التأثير المحدود لوسائل الإعلام، وتفترض أن الاتصال الشخصي أكثر تأثيرًا من نظيره الجماهيري.[13]


نظريات التأثير الانتقائي

وبين هذين النوعين الأساسيين من النظريات يوجد نوع ثالث يفترض أن الجمهور ليس كتلة واحدة، وأنه يستقبل الرسالة الإعلامية بطرق مختلفة بحسب:

1. التركيبة السكانية: القدرة الاستهلاكية، المستوى التعليمي، الطبقة الاجتماعية، العمر، الجندر.

2. الجوانب النفسية: ويتم فيها التركيز على الصفات النفسية للجمهور.

3. العلاقات الاجتماعية: ومدى ارتباط الفرد بتكتلات مثل والعائلة، الاتحادات، والنوادي.

وهذا الاتجاه يلخصه عالم الاتصال الأمريكي برنارد برسلون بقوله: «إن بعض أنواع الاتصال في بعض القضايا تؤثر بشكل ما في اتجاهات بعض المتلقين في ظروف معينة»[14].

وبدوره يقدم لنا يورجن هابرماس نظرة مركبة حول القضية، فبالرغم من الأهمية البالغة التي يعطيها للمجال العام (Public Sphere) ولتأثير الجمهور في هذا المجال وتأثيره في وسائل الإعلام، فإنه يرى في الوقت ذاته أن البرجوازية أثرت من خلال وسائل الإعلام على طبيعة الرأي العام، وذلك بعدما تسببت في «تسميم وتمييع» الفضاء العام.[15]


الإنترنت: ما قبله وما بعده

عند تناولنا لعلاقة كل من الدولة والمجتمع بالإعلام، يمكننا تقسيم وجهات النظر في هذه القضية إلى نوعين: يرى الأول أن وسائل الإعلام تخدم الأنظمة القائمة التي تستخدمها لإيصال الرسائل التي تنتجها وتسعى من خلالها للسيطرة على الجماهير (نظريات الرصاصة السحرية والاعتماد والغرس الثقافي وترتيب الأولويات ودوامة الصمت)، بينما يرى الاتجاه الآخر أن وسائل الإعلام يتم استخدامها أيضًا من قبل الجمهور ومؤسسات المجتمع المدني، وأن الرسائل لا تسيل في اتجاه واحد دائمًا (نظريات الاستخدامات والإشباعات والاستقبال على مرحلتين).

لكن الواقع أن علاقة الإعلام بكل من الدولة والمجتمع انقسمت إلى مرحلتين: الأولى تعود إلى ما قبل ظهور الإنترنت، وشهد سيطرة نسبية للدولة على الإعلام بحكم أن الوسيلة المستخدمة في إيصال الرسائل الإعلامية كانت تحت سيطرة الأنظمة غالبًا (صحف، إذاعة، تلفزيون… إلخ)، والثانية جاءت بعد ظهور الإنترنت، وخاصة مواقع التواصل، وشهدت تفوقًا نسبيًا للجماهير ومؤسسات المجتمع المدني على حساب هيمنة الدولة، بحكم أن كل مؤسسة أو حتى شخص أصبح يمتلك منصته الإعلامية الخاصة مما أدى إلى تراجع الفروق بين السلطة والمجتمع بشكل كبير. وهذا يعيدنا إلى نظرية الحتمية التكنولوجية لمارشال ماكلوهان، والتي أكد فيها أن الرسالة هي الوسيلة، وأن أي اختلاف في الوسيلة الإعلامية يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في الرسالة.

كما أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت العديد من الجماعات المتخيلة بين الجماهير المشتركة في الاهتمامات، فأعادت جزءا لا يستهان به من الروابط التي كانت موجودة بين أفراد المجتمع في الماضي ثم جاءت الدولة الحديثة وحاولت تفكيكها كالروابط القبلية والعرقية والدينية. ويذهب الباحث إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي – بسبب ما تملكه من تكنولوجيا – جعلت الروابط بين الجماعات المتخيلة المختلفة أقوى مما كانت عليه في الماضي.

الهوامش:-

[1] وائل حلاق، الدولة المستحيلة (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014، ط1)، ص59.[2] عزمي بشارة، المجتمع المدني.. دراسة نقدية ( الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ط 6)، ص 268. [3] Karen Barkey and Sunita Parikh, “Comparative Perspectives on the State” Annual Review of Sociology, vol. 17, no.1 (August 1991), pp. 524-525.[4] UN definition of civil society )goo.gl/acMQ29.([5] Defleur, M.L. & Ball-Rokeach, S.J., Theories of Mass Communication, N.Y., Longman Inc, 4th ed, 1989, Pp. 240-253.[6] Toffler, Alvin, Power shift: Knowledge, Wealth, and Power at the Edge of the 21st Century,( New York: Bantam Books), 1990.[7] مكاوي،حسن، ليلى حسين السيد.الاتصال ونظرياته المعاصرة.القاهرة: الدار المصرية اللبنانية،2009 .[8] Gerbner, G. & Gross, L.(1976). Living with television: The violence profile. Journal of Communication, 26(2), 172-199.[9] Noelle-Neumann, E. (1984). The Spiral of Silence: Public Opinion — Our social skin. Chicago: University of Chicago.[10] Maxwell E. McCombs; Donald L. Shaw.” The Agenda-Setting Function of Mass Media”. The Public Opinion Quarterly, Vol. 36, No. 2. (Summer, 1972), pp. 176-187 [11] Goffman E.(1974) “Frame Analysis”. Boston: Northeastern university press.[12] James W. Tankard Jr. (2001) Communication Theories . Longman, pp. 293-302 [13] Katz, E., & Lazarsfeld, P. (1955), Personal Influence, New York: The Free Press.[14] Berelson, B. (1959). “The state of communication research”. Public Opinion Quarterly. 23 (1): 1–2.[15] Jürgen Habermas, The structural transformation of the public sphere, Translated by Tomas Burger with Ferderick Lawrence, (1991). 167