يسأل سائل: طالما استدل المتدينون بما نراه في الكون من أشكال الحيوانات وأنواعها وتناسق أعضائها على أنها مخلوقة خلقها الله، ثم فسرت البيولوجيا التطورية أسباب تعقد الحيوانات وتنوع أجزائها ووجودها على هذه الصورة تفسيرًا علميًّا من غير الحاجة إلى افتراض مؤثرات غيبية، ألا يدل ذلك على نقض مبدأ الخلق؟ أليس الوجود البيولوجي قد طور نفسه على قاعدة التطور وبقاء الأقوى من غير احتياج إلى افتراض خالق وخلق؟

نقول: الحق أن ها هنا سؤالين:

السؤال الأول هو: هل يعارض تطور الكائنات أن تكون مخلوقة؟ بمعنى أنه هل الخلق والتطور متعارضان فينبغي أن تكون الحيوانات: إما متطورة، وإما مخلوقة؟ وهذا هو موضوع هذه المقالة.

والسؤال الثاني هو: هل أغنتنا النظرية عن الحاجة للإله؟ هل بينت النظرية قيام الكون بنفسه (أو قيام الكائنات الحية بنفسها) وعدم احتياجها إلى موجِد خالق؟ وهذا هو موضوع المقالة القادمة.

سبب المشكلة

سؤال هذا السائل ينطلق من سياق معين، وهو أن كثيرًا من المتدينين، لا سيما من المسيحيين ومن بعض المسلمين كذلك، يعتقدون أن ظاهرة الحياة في الكائنات الحيَّة هي سرٌّ إلهيٌّ لا يمكن تفسيره بالقوانين العادية الكونية. وأن كثيرًا من الملاحدة يحسبون أن مجرد تفسير ظاهرة كونية معينة تفسيرًا سببيًّا عاديًّا، مساويًّا لقيامه بنفسه وعدم احتياجه إلى خالق مؤثر.

فهذا هيوجنز عالم البيولوجي (1696م) يقول إن هناك «معجزة إلهية» في الكائنات الحية أكثر من تلك التي في الأجرام الفضائية، وإننا نجد «أصابع الإله» في الكائنات الحية أكثر مما نجدها في الأجسام الفضائية. وليس ذلك إلا أن موضوع الأحياء كان مجهولًا معقدًا في عصره بخلاف علم الفلك الذي تقدم بشكل أكبر، فأسند جهله بتفاصيل الأحياء لفعل الإله، ثم إننا لما اقتربنا من فهم قوانين الأحياء – وكانت نظرية التطور – تخلينا عن التفسير الغيبي.

يقول هيوجنز:

I suppose nobody will deny but that there’s somewhat more of Contrivance, somewhat more of Miracle in the production and growth of Plants and Animals than in lifeless heaps of inanimate Bodies… For the finger of God, and the Wisdom of Divine Providence, is in them much more clearly manifested than in the other. [أ]

وترجمة كلامه بالعربية: أفترض أن أحدًا لن ينكر أن هناك اختراعًا، أو معجزة أكبر، في إنتاج ونمو النباتات والحيوانات أكثر منها في أكوام من الأجرام الصماء.. فإن أصابع الإله، وحكمة العناية الإلهية في الأولى أكثر منها في الثانية.

ومثل هذا يقولون فيه: هو تجلٍ لفكرة «إله الفجوات» الذي نحيل عليه كل جهل نجهله عن الكون. ولكن قد يقال إن إلزام ديجراس تايسون لهم بأنهم يقولون بـ «إله الفجوات» أصلًا غير لازم، وإنهم ما كانوا إلا منبهرين بخلق الله، مشاهدين لدقة صنعه وعظمته، وعبروا عن ذلك بما عبروا.

وعلى كل، نحن نناقش أصل الفكرة ونعرضها كما يستدل بها أصحابها. فهذا بيان الإشكال وسنشرع الآن في حلِّه إن شاء الله.

السببية العادية والمقتضى العقلي

لو ذهبت لطبيب تسأله: ما الذي أمرضني؟ فأجابك الطبيب: الله كتب عليك المرض. فإن جواب هذا الطبيب صحيح، لكنه ليس جوابًا عمَّا تسأل عنه.

يعتقد المؤمن أن الله خالق كل شيء، وأن الكون محتاج إلى الإله في كل أحواله، وقد بينَّا ذلك في مقالة سابقة وشرحنا وجه احتياج الكون إلى خالق، فلتراجع هناك. ولكن ما يغفل عنه الناس كثيرًا أن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر على كل شيء، قد أراد أن يجري الخلق على وفق قانون من الأسباب والمسببات، وعلاقات مطردة دائمة بين أمور، لكي تنتظم حياة الإنسان، ولكي يكون الكون مسخرًا له قابلًا لأن يفهمه ويتعامل معه.

فإن الله سبحانه هو خالق الشبع، ولكن خلقه تعالى للشبع يحصل عند تناول الإنسان للطعام. نعم، قد كان الله تعالى قادرًا على ألا يربط خلق الشبع في الإنسان بشيء، فيأكل الإنسان مرة ويشبع ويأكل أخرى ولا يشبع، ويجري مرة فيشبع، وينام مرة فلا يشبع، ثم يقف في الشمس فيشبع. وهكذا بلا نظام ولا قانون ولا اطراد. كان ذلك ممكنًا من حيث القدرة الإلهية. ولكن الله تعالى لم يرد ذلك، بل أراد أن تجري مسألة الشبع على وفق قانون، خلق للإنسان فيه الطعام، وخلق له الجهاز الهضمي، وخلق جسمه بحيث يفرز إنزيمات معينة عند الجوع والشبع، وطريقة معينة لتكسير الطعام وتحليله وهضمه وإخراجه، وهذا القانون مطرد مستمر يجري خلق الله تعالى كل مرة على وفقه.

وهذا القانون يمكن للإنسان أن يفهمه ويستفيد منه ويتعامل مع جسده ومع الكون على أساسه. وهذا القانون، ويسمَّى في التراث الإسلامي بــ «العادة المطَّردة» أو «السببية العاديَّة»، يجري في كل خلق الله تعالى. وقد كتبنا مقالة سابقة كاملة في هذا الموضوع، وننقل منها على سبيل المثال قول الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه «الفروق»:

بل يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله تعالى في تصرفاته في خلقه وربطه المسببات بالأسباب في الدنيا والآخرة مع إمكان صدورها عن قدرته بغير تلك الأسباب أو بغير سبب البتة، بل رتب الله تعالى مملكته على نظام ووضعها على قانون قضاه وقدره (لا يسأل عما يفعل). فإذا سأل الداعي من الله تعالى تغيير مملكته ونقض نظامه وسلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئًا الأدب عليه عز وجل. [1]

فالمثال المذكور عن سؤالك للطبيب عن سبب المرض وجوابه لك بأن الله هو الذي كتب المرض عليك هو جواب عن سؤال آخر غير سؤالك.

أنت لا تسأل عن المقتضي العقلي لوجود الكون واحتياجه إلى الخالق، بل تسأل عن السبب العادي الذي أدى إلى وجود المرض في جسدي، (كفيروس معين أو نقص في المناعة أو اضطراب في كيمياء الجسم مثلًا). فهذا الفصل بين الأسباب والقوانين الكونية وبين المقتضيات العقلية الوجودية هو فصل مهم. فالكون إنما يفسر ما فيه من علاقات العلومُ التجريبية، ولا يوجد ما يسمى بالتدخل الإلهي بمعنى: أن الله أحد الأسباب الكونية كالشمس مثلًا، بل الله تعالى هو مسبِّب الأسباب وهو خالق كل شيء، وقد أراد أن يجري خلقه على هذه القواعد والقوانين التي تفسرها العلوم.

الاتجاهات المختلفة عن اتجاه نظرية التطور

إلى الآن لا توجد نظرية كاملة تحل محل نظرية التطور، مما أعطى النظرية ثباتها العلمي. فهي نظرية لم يتم نقضها، لها قدرة جيدة على التنبؤ والتفسير، فمن ثَم هي النظرية العلمية المعتمدة في الكشف عن السببية العادية في الكون في هذا المجال.

ويقابل نظرية التطور المشهورة اتجاهات أخرى:

اتجاه من لا يبحث في هذه السببية أصلًا

بعضهم يقول بأن الله تعالى هو خالق المخلوقات على صورتها، ولا يخوضون أصلًا في الجواب على سؤال: ما هي عادة الله في خلق المخلوقات الحية؟ يعني هل تتبع المخلوقات الحية نظامًا ما؟ فهم كمن سئل عن النظام السببي في كيف يعمل الهاتف أو التلفاز فيقول: الله يخلقه. فمنهجهم هذا ليس منهجًا لفهم السببية العادية التي تعرف بالمشاهدة والتكرار، وتخوض في فهمها النظريات العلمية، فجوابهم من هذه الناحية جواب غير علمي، وفيه خلط بين جهات النظر.

اتجاه التصميم الذكي، Intelligent Design

وهناك فريق آخر لا يمانع أن يكون قد خلق الله المخلوقات تابعة لنظام التطور الذي تفسره النظرية، ولكنه يأتي في مسائل معينة، ويقول: نعم قد فسرت النظرية كذا وكذا، ولكن هناك أمورًا هي خلق الله، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا طبيعيًّا Cannot Be Explained Naturalistically، فيقومون بوصف ما فيه صعوبة أو عجز عن الوصول لجواب فيه بأنه: «خلق الله» مدعين أن هذا التعقيد لا يمكن أن ينتج عن نظام سببي. وهذه من الأفكار الأساسية فيما يسمَّى بالتصميم الذكي أو الــ Intelligent Design في فكر التخليقيين المسيحيين في الغرب.

إن من أكثر القضايا الفلسفية حضورًا في صراع الدارونية والرافضين لها من المؤلهين هي قضية «إله الفجوات». وحاصل القول أن الفريق المؤله – أي المؤمن بوجود إله – يأتي لمسائل معينة ويقول إن الطبيعة لا يمكن أن تفعلها لأنها صعبة أو دقيقة، أو غير ذلك. ومن أمثلة ذلك الانفجار الكيمبري Cambrian explosion مثلًا، أو كيف للطفرات العشوائية أن تنتج المعلومات المطلوبة للهياكل البيولوجية المعقدة كالــ Bacterial flagella مثلًا [ب].

ثم يقول الفريق اللاديني العلمي: اكتشفنا مع الوقت كيف أن الطبيعة فعلته! إذن هذا ليس فعل الإله، وقد ألجأكم الجهل إلى ملء الفجوات هذه بإدخال «الإله» في المعادلة، ونحن سعينا السعي الحقيقي لمعرفة الحقيقة! وFlagella كذلك تفسرها النظرية الطبيعية.

يجعل الفريق الأول: الله خالق أمور؛ لأننا عجزنا عن فهم السببية العادية.

ويجعل الفريق الثاني: معرفة السببية العادية دليلًا على أنها ليست من فعل الله!

ومن ثم يصارع الفريقُ الأول نظريةَ التطور أو يضيف عليها أمورًا «تُدخل فعل الله في المعادلة»، ويناصر الفريقُ الثاني نظريةَ التطور، ظانًّا أنها «تخرج فعل الله من المعادلة»!

فعلى هذا: النظرية التخليقية Creationism، في الحقيقة فيها خلط كبير، ومثلها نظرية ID, intelligent design، التي كأنها تجعل للطبيعة فعلًا مستقلًّا، ثم الطبيعة تعجز، فالله تعالى وقتها هو الذي يفعل ما عجزت عنه الطبيعة بقوانينها! وكل هذا لا يصح، فلا الطبيعة تفعل ولا يوجد شيء في الكون إلا وهو فعل لله تعالى كله! ففيها كذلك خلط بين جهات النظر.

ولذلك ففي قضية Kitzmiller v. Dover Area School District في أمريكا وهي حادثة شهيرة حكمت المحكمة فيها بمنع شرح النظرية التخليقية creationism لطلبة المدارس على أنها نظرية علمية، لأنها ليست نظرية علمية مبنية على النظر والمشاهدة، تساعد على التنبؤ وتفسير الظواهر والمشاهدات.

ونحن نقول: البحث في السببية العادية والعلاقات الكونية بين الأشياء هو دور العلوم التجريبية، وليس بحثًا دينيًّا ولا فلسفيًّا. فالوجود الكوني الممكن مفتقر افتقارًا ذاتيًّا إلى خالق، ويبقى النظر في كيفية جريان الأحداث الكونية على وفق قانون ما من قوانين الطبيعة هو بحث في فعل هذا الخالق الذي أراد أن يجري خلقه على وفق نظام يمكن للإنسان فهمه واستثماره. فالجهات منفكَّة بين البحث عن الأسباب وبين افتقارها في حصولها إلى مسبب الأسباب!

فمن ثم ليس ثمة قيود على العالم الذي يبحث عن عمر الكون، أو عن تطور الكائنات، أو في علم الحفريات، أو يبني على كل ذلك تكنولوجيا حيوية أو دوائية تفيد حياة البشر على كوكبنا الصغير.

ما هو الخلق

في هذا السياق نحتاج إلى تحرير مفهوم في غاية الأهمية وهو: ما هو الخلق!

في الرواية الجديدة للروائي دان براون «Origin» يحكي أن «اكتشاف سبب عادي ما» سيكون قاصمًا لظهر الدين! يقول بطل الرواية مخاطبًا رجال الدين الكبار في العالم:

Kirsch glanced around the ancient repository of sacred texts. It will not shak your foundations. It will shatter them

وبعد قراءة الرواية يتبين للقارئ أن هذا الاكتشاف الذي سينقض أركان الدين هو أن تطلع تجربة Nirenberg and Matthaei صحيحة، والتي يلزم عليها أن نواة الحياة يمكن أن تنتج عبر تفاعلات كيميائية معينة.

هذا، وغاية ما يلزم عليها: أن الله تعالى قد خلق الحياة تبعًا لنظام سببي معين ليس أكثر! فإن خلق الحياة، وخلق أي جماد، كلاهما من حيث كونهما أموراً ممكنة الوجود حادثة، متساوية تمامًا بالنسبة للقدرة الإلهية. وكل شيء في الكون، كل إنسان وحيوان وجماد، كل فعل للإنسان هو خلق الله وإيجاده، {والله خلقكم وما تعملون} وقد شرحنا هذا بتفصيل في المقالات السابقة.

فليس في هذه التجربة أصلًا ما له علاقة بالخلق! ذلك لأن الخلق هو: الإيجاد من عدم.

والإله هو: واجب الوجود الذي يستغني عن كل ما سواه ويفتقر إليه كل ما عداه، الذي لا يتصور في العقل عدمه.

فما أبعد من ظن أنه لو عرف شيئًا من السببية التي يجري عليها الكون أنه يكون هكذا قد (خلق شيئًا! أو عرف كيف الخلق) أو لا حاجة لإله! فمعرفة السبب الدنيوي يكون بالنظر في الطبيعة بالحواس، ومعرفة المؤثر الحقيقي يكون بالنظر العقلي في الموجود من حيث ما هو موجود. فالله تعالى خالق كل شيء، وخلقه لكل شيء هو على نظام سببي عادي، كله من خلقه وفعله!

وفي الختام، فخلاصة ما أردنا قوله في هذا المقال:

أن أحد أسباب الصراع في الغرب بين التطوريين من جهة والمتدينين التخليقيين من جهة أخرى يرجع إلى فكرة إله الفجوات، فالتخليقي يجعل الله خالقًا أمورًا لأننا عجزنا عن فهم أسبابها الكونية، والملحد التطوري يحسب أن معرفة السببية العادية دليلًا على أنها ليست من فعل الله! وقد بينا أن هذا الصراع لا يلزمنا لاعتقادنا أن الله تعالى قد قضت إرادته أن يجري خلقه على وفق نظام من الأسباب، وأن فهم هذا النظام ومعرفة هذه العلاقات الكونية هو شأن العلوم التجريبية، وأن الله حاضر فيما نعلم لا فقط فيما نجهل، وأن الخلق هو الإيجاد من عدم، وتكلمنا في هذه الحلقة عن أشهر المواقف المختلفة عن نظرية التطور وبينا موقفنا منها.

هوامش

[أ] ذكره نيل دجراس تايسون في محاضرة له شهيرة، يضرب فيها أمثلة عملية عن كيف أن «إله الفجوات» كان مانعًا حقيقيًّا لبعض كبار العلماء من الكشف عن الحقائق! ولو أنهم ما لجؤوا إلى «الله» كجواب لكانوا قد وصلوا إلى النتائج العلمية التي جاء من بعدهم بها، بعد أن سلك الطريق الحقيقي إلى الوصول إلى الحقائق!

[ب] Random mutations cannot generate the genetic information required for irreducibly complex structures الطفرات العشوائية لا يمكن أن تنتج المعلومات الجينية المطلوبة للهياكل البيولوجية المعقدة.

المراجع
  1. أنوار البروق في أنواء الفروق للإمام شهاب الدين القرافي 4/270 ط. عالم الكتب