محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2016/11/01
الكاتب
ستيفن فيزون

بحسب نظرية العقد الاجتماعي الكلاسيكية، التي فسّرها توماس هوبز في القرن السابع عشر، فإنَّ البشر بدؤوا بشكل غير منظّم سياسيًا، في ما يسمى «حالة الطبيعة»، وتمَّ تكوين المجتمع من خلال أناس أبرموا، إما صراحة أو ضمنًا، عقدًا أعلنوا بموجبه قبولهم للعيش معًا في وئام لتحقيق المنفعة المشتركة. يسعى منظرو العقد الاجتماعي إلى إظهار السبب في أنْ يوافق شخص عقلاني طوعًا على التخلي عن حرية غير محدودة في حالة الطبيعة وقبول الحرية المقيَّدة التي يقتضيها المجتمع المدني.

يتفق هؤلاء المنظرون على أنَّ الأفراد صنعوا هذا التبادل من أجل ضمان، أو على الأقل تعزيز، قدرتهم على البقاء على قيد الحياة. ولكنَّ هؤلاء المنظرين يعرّفون البقاء بصورة محدودة للغاية بأنّه «دفاع عن الحياة والممتلكات».

يعرِّف منظرو العقد الاجتماعي البقاء بأنّه دفاع عن الحياة والممتلكات، فأريد أن أجادل أن شروط أي عقد اجتماعي يجب أن تشمل توفير المأكل والملبس، والمأوى.

أريد أن أجادل هنا أنَّ شروط أي عقد اجتماعي يجب توسيعها لتشمل توفير المأكل والملبس، والمأوى؛ لأنَّ هذه الأشياء ضرورية أيضًا للبقاء على قيد الحياة. وأنا أزعم أنَّ أي دولة تفشل في توفير هذه الأشياء، أو توفير العمل على الأقل، وتنفي أي التزام بتقديم أي منهما، تفقد سلطتها الأخلاقية للحُكم على الوسائل التي يستخدمها المواطنون للبقاء على قيد الحياة. وكما سأوضح، وفقًا للشروط التي عبَّرت عنها نظرية العقد الاجتماعي الكلاسيكية فإنَّ المواطن المحروم من هذه الأشياء ومن العمل الذي من المفترض أن توفره له الدولة هو مواطن حر يفعل ما يحلو له، خارج حدود الحالة المتعاقد عليها، وبالتالي يمتلك إيذانًا بالسرقة.

إنَّ النظرية القائلة بأنَّ العقد الاجتماعي هو أصل وأساس المجتمع هي نظرية مثيرة للجدل، ولكنَّ النسخة التي طورها جون لوك في مقالته الثانية من كتاب «في الحكم المدني» الموسومة بعنوان «نشأة الحكم المدني الصحيح ومداه وغايته» (1689) أثَّرت على الآباء المؤسسين [في أمريكا]، وتكمن في صميم إعلان الاستقلال [الأمريكي 1776].

هذا الشكل من أشكال العقد الاجتماعي يشرح كيف تمتلك الدولة سلطة شرعية بمباركة من الشعب. لذلك فإنَّ مفهوم العقد الاجتماعي منسوج في النظام السياسي الذي يعيش فيه مواطنو الولايات المتحدة، على الرغم من أنّه لا يوجد أي مواطن كان طرفًا في أي عقد اجتماعي. ويمكن المحاججة أيضًا بأنَّ شكلًا من أشكال الاتفاق الضمني للانصياع لقوانين الدولة يقوم به كل مَن يريد أن يتمتع بفوائد العيش داخل أي دولة. إنَّ فهم العقد الاجتماعي بهذه الطريقة قد يبدو معقولًا للغاية؛ فهذا يساعد المواطن، من حيث المبدأ، على قبول متطلبات الدولة، على الرغم من أنَّ العقد لا يرقى إلى مستوى وعوده.


إعادة النظر في العقد الاجتماعي

تتفق نظريات العقد الاجتماعي الكلاسيكية التي وضعها توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو في تبصُّراتها، على أنَّ البشر كانوا يعيشون في حالة طبيعة ما قبل مجتمعية. في حالة الطبيعة ليس هناك ممتلكات خاصة ولا حكومة، ليس هناك سلطة خارجية يضطر الفرد إلى الامتثال لها، فهو حر في انتزاع ما يشاء من الطبيعة. تتميَّز حالة الطبيعة بحق الفرد في أن يفعل ما يشاء، لاسيما في المسائل المتعلقة بالحفاظ على الذات.

وكما يحاجج هوبز، نظرًا إلى أنَّ البشر نفعيِّون بطبيعتهم ويتصارعون على وسائل البقاء على قيد الحياة، وأنَّه في حالة الطبيعة ليس هناك قوة لإجبارهم على التعاون، فإنَّ الصراع أمر لا مناص منه، وحالة الطبيعة هي في الواقع حالة حرب، أو هي دائمًا عُرضة للتدهور ومن ثمَّ الوصول إلى حالة حرب. في هذه الحالة يجب على الفرد مكافحة العناصر المُعادية وكذلك الغرباء المسلَّحين، ولذلك فإنَّ الحياة في حالة الطبيعة غير مستقرة ومحفوفة بالمخاطر. يهرب الناس من هذا المأزق من خلال عقد اجتماعي يَعِد بتحسين قدرة الفرد على البقاء على قيد الحياة.

إذا رفضت الدولة توفير المأكل والملبس والمأوى، فإن الدولة لم تَعُد لديها الشرعية لإصدار الحكم على الوسائل التي يستخدمها الأفراد للحفاظ على حياتهم.

يعترف العقد بأنَّ الفرد يمتلك الحق الطبيعي في البقاء على قيد الحياة، وهذا حق كونيّ وغير قابل للمصادرة. وفقًا لبنود العقد الاجتماعي، يوافق كل عضو على التنازل عن حقه أو حقها الطبيعي في استخدام أي وسيلة تُعدّ ضرورية ومفيدة للدفاع عن الحياة والممتلكات، وتتولى الدولة مسؤولية حماية شعبها وممتلكاتهم، وتتلقى السلطة من الشعب لأداء هذا الواجب.

وإذا أردنا أن ندعم هذا العقد، يجب أن نكون قادرين على التأكد من أنَّ الفرد قد توصل إلى اتفاق جيِّد لنفسه في مقايضة الحرية الطبيعية بالأمن الذي توفره الدولة. وفي ظلّ أنَّ بقاء الفرد كان الدافع الوحيد للتنازل عن سلطته وقبول سلطة الدولة، وحتى يصب هذا التنازل في مصلحته، يجب أن يكون قادرًا على البقاء على قيد الحياة في مجتمع مدني أكثر من قدرته على البقاء في حالة الطبيعة. في الواقع، يجب زيادة أو تعزيز فرص الفرد في البقاء على قيد الحياة لدرجة أن يتم تعويضه عن فقدان حريته الطبيعية بأن يفعل ما يشاء، وأن يأخذ ما يشاء دون مراعاة للآخرين.

ومع ذلك، نظرًا لأنَّ العقد الاجتماعي يعترف بالحق الطبيعي للفرد في البقاء على قيد الحياة، وأنّ الفرد لا يستطيع البقاء على قيد الحياة دون المأكل والملبس والمأوى، فمن الواضح أن شروط أي عقد اجتماعي مُلزِم لا يمكن أن تقتصر على حماية الأشخاص والممتلكات، كما هو الحال في النسخ الكلاسيكية للنظرية، ولكن يجب أن تشمل توفير المأكل والملبس والمأوى، أو العمل للحصول عليها. وإذا رفضت الدولة تقديم هذه الضروريات، يجب على الفرد أن يحتفظ بنفس الحقوق التي كان ليحظى بها في حال اقتصر دور الدولة على حماية الأشخاص والممتلكات فقط.

يوافق هوبز، ولوك، وروسو على أنّه إذا فشل الكومنولث في أداء دوره في توفير الأمن، يتم فسخ العقد. وبالتالي يعود الفرد إلى حالة الطبيعة التي يضطر فيها إلى الاعتماد على نفسه، ومن ثمَّ فهو مُخوَّل لاستخدام أي وسيلة يراها ضرورية ومفيدة لضمان بقائه على قيد الحياة، وهو الحَكَم الوحيد الذي يقرر ما هو ضروري ومفيد.

إنَّ موافقة الدولة على تقديم خدمات البقاء على قيد الحياة لأعضائها لا يعني بالضرورة أنَّ العضو لم يعد مخوَّلًا لممارسة حقوقه الطبيعية لضمان بقائه. لذلك إذا رفضت الدولة توفير المأكل والملبس والمأوى، وتنصلت أيضًا من أي التزام لتوفير فرص العمل، تاركةً الأفراد يوفرون ضروريات المعيشة أو يبحثون عن عمل بأنفسهم، فإنَّ الفرد قد تُرِك ليعيل نفسه، والدولة لم تَعُد لديها السلطة الشرعية لإصدار الحكم على الوسائل التي يستخدمها الأفراد السابقون المسؤولون الآن عن بقائهم على قيد الحياة، حتى لو كانت تلك الوسائل من ضمن التي تحظرها قوانين الدولة.

الآن، إذا كانت الظروف في حالة الطبيعة تقتضي أنّه يمكن الحصول على المأكل والملبس والمأوى من خلال مثابرة استثنائية من قِبل أشخاص عاديين، وإذا كانت الحواجز التي تحول دون الحصول على ذلك تهديدات خطيرة مستمرة لحياة الأفراد وممتلكاتهم من قِبل أشخاص آخرين، فإنَّ زيادة أو تعزيز حماية الأرواح والممتلكات من قِبل الدولة تبدو كافية لتمكين الأفراد من البقاء على قيد الحياة من خلال جهودهم الذاتية.

ولكن إذا ظلَّت الحياة في كل من حالة الطبيعة والمجتمع المدني نضالًا مستمرًا للحفاظ على تدفق وافر للضروريات المادية، فإنَّ زيادة الأمن في حد ذاته لا يحسِّن الأوضاع إلى درجة أنّه من الأفضل للفرد أن يكون قادرًا على البقاء على قيد الحياة. في الواقع، الفرد ليس أفضل حالًا مما كان عليه في حالة الطبيعة؛ لأنَّه من خلال قبول شروط العقد الاجتماعي كان قد تنازل عن حريته في التصرف كما يشاء في مقابل الأمن الذي لا يقدِّم أي ضمانات تحمي الفرد من الجوع أو التجمد حتى الموت. لذلك فإنّه اتفاق سيئ بين الفرد والدولة.

تتفق نظريات العقد الاجتماعي الكلاسيكية على أنَّ الحياة في حالة الطبيعة كانت في حقيقتها صراعًا مستمرًا، لذلك يجب علينا النظر في ما إذا كان النضال لا يزال مستمرًّا في ظلّ العقد الاجتماعي.

إذا كانت الطريقة الوحيدة للحصول على ضروريات الحياة بالنسبة للغالبية الساحقة من أفراد الدولة هي بيع ثمرة جهدهم في السوق، فإنَّ الحياة، إذن، بالنسبة للغالبية الساحقة تبقى نضالًا مستمرًا من أجل البقاء؛ لأنَّ أي وقت يكون فيه الفرد دون عمل يكون فيه دون وسائل للبقاء على قيد الحياة كذلك. وفي إطار هذا النظام، يخضع الأفراد لزعزعة الدورات الاقتصادية للازدهار والركود، مع التضخم الدوري الذي يرتبط بها والبطالة. الأفراد خاضعون أيضًا لسلطة هؤلاء الذين يقررون ما إذا كانوا يحصلون على فرص العمل، ويجب عليهم الانصياع لأي معايير تحددها طبقة أصحاب العمل. تضع هذه الظروف الأفراد في تنافس دائم على الوظائف. وحالما يتم الحصول على وظيفة، يبقى الموظف في حالة من عدم الاستقرار (التزعزع) المقلق، مدركًا انتهاء العمل في أي وقت. الفرد عُرضة للخطر لاسيما إذا كانت الدولة لا توفّر سوى شبكة أمان اجتماعي ضعيفة، أو لا توفر شيئًا على الإطلاق.


ازدواجية المعايير

يؤكِّد المدافعون عن قرار الدولة باعتبار حماية الأشخاص والممتلكات كأساسيات في حين ترك الأفراد بمفردهم دون مساعدة عندما يتعلق الأمر بالمأكل والملبس والمأوى، على أنَّ المجتمع ليس مُلزمًا بتوفير السلع المادية للبقاء على قيد الحياة، ولكنه ملزم بخلق وفرض الشروط التي تسمح للأفراد بتوفير هذه السلع بأنفسهم؛ إنّه مجتمع الفرصة وليس دولة الرفاه. وبمجرد توفير الأمن للأرواح والممتلكات، كما يزعمون، يكون المجتمع قد أدى واجبه: الناس الآن أحرار للعيش كما يشاؤون دون خوف من أي هجوم.

وبالرغم من ذلك، لا يسعنا إلَّا أن نلاحظ أنَّ مجتمع الفرصة لا يتخذ نفس الموقف تجاه حماية الأشخاص والممتلكات مثل موقفه تجاه الحصول على المأكل والملبس والمأوى. إنَّ مجتمع الفرصة لا يخلق ولا يفرض الشروط التي تسمح للأفراد بتوفير الحماية لأنفسهم وممتلكاتهم. ويقول بدلا من ذلك: «لا تتولَّ زمام الأمور بنفسك، لا تلجأ إلى الوسائل اللازمة لحماية نفسك وممتلكاتك، ولكن تنازل عن سلطتك إلينا، وعلى الرغم من أنَّنا لا نستطيع أن نضمن لك أنك لن تتعرض للأذى أو للسرقة، إلَّا أننا سنبذل كل جهد ممكن بحسن نية للدفاع عن حياتك وممتلكاتك. أنت ستكون أفضل حالًا، ونحن سنصبح كذلك».

إن الدولة من خلال توفير الحماية للأشخاص والسلع الأساسية، تقدِّم بديلًا للعنف كان موجودًا في حالة الطبيعة.

وبالرغم من أننا نعترف بأهمية حماية الأشخاص والممتلكات للبقاء على قيد الحياة، إلَّا أنَّ مجتمع الفرصة سيختار دور الميسِّر بدلًا من توفير تلك الأشياء من أجل أن يصبح أكثر اتساقًا وتماسكًا. وكأن لسان حال هذا المجتمع: «نحن لا نقبل أنَّه من واجبنا الدفاع عن حياتكم وحماية ممتلكاتكم. والحكومة سوف تسهل الجهود التي تبذلونها لتأمين مجموعة متنوعة من الأسلّحة والتدريب للدفاع عن النفس. ومن خلال توفير الأسلّحة والتدريب، تخلق الحكومة الظروف التي تسمح لكل فرد بالدفاع عن نفسه».

ولكنَّ واضعي هذا البيان يجب أن يعترفوا أنَّ هذا الشرط يشبه حالة الطبيعة. هنا تمَّ الاتفاق على أنّه إذا كان الفرد هو وحده المسؤول عن سلامته الشخصية، فلا يمكن توقع أن يمتنع عن اتخاذ جميع الوسائل التي يراها ضرورية ومفيدة للدفاع عن النفس. ولكن في هذه الحالة، ما هو الهدف من العقد الاجتماعي؟

وعلى العكس من ذلك، فإنَّ العقد الاجتماعي قد يتخذ نفس النهج تجاه المأكل والملبس والمأوى كما هو الحال تجاه حماية الأشخاص والممتلكات. ولذلك يمكن للحكومة أن تقول: «لا تتولَّ زمام الأمور بنفسك، لا تلجأ إلى الوسائل اللازمة لتوفير السلع المادية، ولكن تنازل عن سلطتك إلينا، وعلى الرغم من أنَّنا لا نستطيع أن نضمن لك أنك لن تكون من دون مأكل وملبس ومأوى كافٍ، إلَّا أننا سنبذل كل جهد ممكن بحسن نية لتزويدك بهذه الضروريات. أنت ستكون أفضل حالًا، وجميع أفراد المجتمع كذلك».

وبدلًا من ذلك، يتخذ العقد الاجتماعي موقفًا خاصًا فيما يتعلق بالمأكل والملبس والمأوى مغايرًا لموقفه فيما يتعلق بحماية الأشخاص والممتلكات. وتقول الحكومة: «نحن لا نقبل أنّه من واجبنا أن نقدم لكم المأكل والملبس والمأوى. هذه المسؤولية تقع على عاتق كل فرد. وعن طريق منع السرقة والقتل، تخلق الدولة الظروف التي تسمح لكل فرد بالسعي للحصول على المأكل والملبس والمأوى بنفسه».

ولكنَّ واضعي هذا الموقف يجب أن يدركوا أنَّ هذا الشرط يشبه حالة الطبيعة بطرق عديدة، ويجب أن يتفقوا على أنّه طالما أنَّ الفرد هو المسؤول الوحيد عن بقائه على قيد الحياة، فإنّه قد يلجأ إلى كل الوسائل التي يراها ضرورية ومفيدة لذلك، بما في ذلك السرقة والقتل. بعبارة أخرى، سلطة الحكومة لتنظيم سلوك الأفراد تعتمد على قبولها مسؤولية توفير السلع المادية لتمكين بقائهم على قيد الحياة. وينبغي أن تعترف الحكومة أنّه ليس هناك فائدة تعود على المجتمع ولا الفرد عندما يتم توظيف أي من أو جميع الوسائل اللازمة لتأمين هذه الحاجات.

الشخص اليائس من الحياة الذي يفتقر إلى المأكل والمأوى قد يميل إلى استخدام أي أو جميع الوسائل اللازمة للحصول على تلك الحاجات، لا سيما إذا كانت الخيارات المتاحة هي إما أن يموت بسلام أو أن يأخذ كل ما يحتاج إليه بالقوة. إن الدولة، من خلال توفير الحماية للأشخاص والسلع الأساسية، تقدِّم بديلًا للعنف كان موجودًا في حالة الطبيعة للأفراد الأقل قدرة على حماية حياتهم وممتلكاتهم بأنفسهم. ومع ذلك، من خلال عدم توفير المأكل والملبس والمأوى، لا تقدم الدولة بديلًا للعنف للفرد الذي لا يمكنه الحصول على تلك الضروريات بطريقة أخرى.

وبالنظر إلى أنَّ الغرض من تجميع الناس لقوتهم كان لمكافحة القوى التي تجعل البقاء محفوفًا بالمخاطر في حالة الطبيعة، كان من الممكن أن يخلق العقد الاجتماعي كومنولث – مجتمع من أجل الصالح العام – يتحد فيه الأفراد، ومن خلال جهدهم الجماعي يوفرون وينتجون ويوزعون ضروريات الحياة: المأكل والملبس والمأوى، وكذلك توفير الأمن للأشخاص والممتلكات.

بيدَ أنَّ العقود الاجتماعية الأصلية كانت مُعدَّة لغرض ردع العنف والسرقة مع إبقاء المنافسة الشرسة للحصول على السلع المادية. وفي ظلَّ هذا الظرف، فإنَّ الانتقال من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني يعني تحويل الطبيعة إلى ممتلكات، وهنا لم يعد الفرد قادرًا ببساطة على انتزاع ما يحتاج إليه من الطبيعة. وإذا ظلَّت المنافسة هي الوسيلة الوحيدة لموت أو بقاء الأفراد على قيد الحياة، فإنَّ هذا العقد الاجتماعي يخلق حوافزَ للأفراد لكسب مزايا على حساب أفراد آخرين.

هذا العقد يفيد الفرد الراغب في أكثر من حصة متساوية من السلع المادية، هذا الفرد الذي من خلال الكفاءة والحالة المزاجية مستعد وراغب وقادر على الانخراط في نضال تدافع عنه الدولة من أجل البقاء. لقد استبدل حالة يمكن لآخرين اغتنام الفائض في حاجاته بحالة أخرى تدافع فيها الدولة، قولًا وفعلًا، عن ممتلكاته وثروته المتراكمة. لقد استبدل ساحة تكون فيها «القوة والاحتيال من الفضائل الكاردينالية»، كما حاجج هوبز، بساحة أخرى يكون فيها الدهاء والمكر من الصفات الشخصية المفيدة.

هذا العقد لا يفيد الفرد الذي ليس لديه أيَّة ممتلكات. هذا الفرد لم يكتسب حماية ممتلكاته، لأنه ليس لديه أي ممتلكات بالأساس، بل خسر أيضًا الوصول إلى كل السلع المادية الطبيعية التي ادعى أفراد آخرون أنها ملكًا لهم. كما أنَّ العقد لا يفيد الفرد، الذي هو من خلال الكفاءة والحالة المزاجية، أقل استعدادًا ورغبةً وقدرةً على الانخراط في صراع تنافسيّ من أجل البقاء. صحيح أنّه كان عليه التنافس في حالة الطبيعة، ولكنَّ هذا الصراع كان مع الطبيعة ذاتها، وأحيانًا مع الأفراد الآخرين الذين ليس لديهم الحق في امتلاك ضرورات البقاء على قيد الحياة الذي كان يمتلكها. والآن يجب عليه الصراع ضد كل من الطبيعة وضد أولئك الذين يراكمون الممتلكات تحت حماية الدولة. لذلك فإنَّ العقد الاجتماعي لا يفيد الفرد الذي لا يرغب في أكثر من حصة متساوية من الثروة المادية. لقد استبدل هذا الفرد حالة كان يمكن أن يكون فيها راضيًا بالحد الأدنى اللازم للعيش بحالة أخرى يجب عليه فيها أن يواكب الآخرين خشية أن يستخدموا ثرائهم ضده.

ولذلك يجدر بالفرد دون ممتلكات ثمينة أو نزعة اكتسابيّة أن يرفض العقد الاجتماعي. ولكن إذا كان يوافق على هذا الميثاق، فإنّه لا يزال غير ملزم بالخضوع لسلطة الدولة في المسائل المتعلقة ببقائه والتي لا يشملها العقد، وخاصة فيما يتعلق بسعيه للحصول على المأكل والملبس والمأوى. يوافق الفرد على التنازل عن سلطته للدفاع عن نفسه وممتلكاته باستخدام أي وسيلة يراها ضرورية ومفيدة؛ لأن الحماية التي توفرها الدولة أفضل من الحماية التي يوفرها لنفسه. وبالمثل، فإنّه يجب أن لا يوافق على التنازل عن سلطته للحصول على الضروريات المادية ما لم تكون ضرورات الحياة التي تقدمها الدولة أفضل من تلك التي يستطيع توفيرها لنفسه. ومن الواضح أنَّه إذا لم توفر الدولة هذه الضروريات، وتنصلت من أي التزام للقيام بذلك، يجدر بالفرد عدم التنازل عن سلطته الفردية وحقه الطبيعي للحصول عليها.


حالة تناظر

أنا أسلِّم بأنَّ العلاقة بين الكومنولث والفرد بموجب العقد الاجتماعي تشبه العلاقة بين الأب والأم وابنتهم البالغة بمجرد أن تعيش في منزلهم مرة أخرى. خارج المنزل، واجهت الابنة الصراع التنافسي من أجل البقاء، وبعد أن أمضت عدة سنوات من حرية العيش بمفردها في مدينة خطيرة، خلُصت إلى أنَّ احتمالات بقائها على قيد الحياة أكبر بكثير في منزل والديها. يمكنهم فرض حظر تجول وغيره من القيود التي لا تُفرَض عادة على البالغين، وتلتزم الابنة بطاعة والديها لأنهما تقبلا تحمل مسؤولية رعايتها. وعلى الرغم من أنها إنسانة بالغة وحرة، إلَّا أنها تسمح لوالديها بتنظيم سلوكها في مقابل توفير المأكل والملبس والمأوى.

ويبدو أنَّ الابنة أبرمت اتفاقًا جيّدًا لنفسها هنا؛ لأنها قادرة على البقاء على قيد الحياة مع دعم والديها أكثر من قدرتها على البقاء بمفردها. كما أبرم الوالدان اتفاقًا جيدًا كذلك – سوف يقدمان الدعم، ولكن في مقابل استعادة السلطة على ابنتهما، وإنقاذ أنفسهما من القلق عليها. وإذا قررا طردها من المنزل، نظرًا لأنّه حق لهما، ستكون الابنة بمفردها لإعالة نفسها مرة أخرى، وهنا لن يكون للوالدين أي سلطة على ابنتهما، وهي لن تكون ملزمة بطاعتهما. إذا حدث وأن سرقت الابنة المأكل، أو المال لشراء المأكل، أو حتى سرقت الملابس، أو اقتحمت المنزل بحثًا عن مأوى، فإنَّ والديها فقدا سلطتهما الأخلاقية للحكم على تصرفات ابنتهما للبقاء على قيد الحياة.

دعونا نأخذ الأمور خطوة أخرى إلى الأمام، ونتخيَّل أنَّ الابنة، راغبةً عن الدخول في صراع تنافسيّ من أجل البقاء على قيد الحياة خارج المنزل، تعرض القيام بالأعمال المنزلية في مقابل ضروريات الحياة التي تحصل عليها. يرفض الوالدان هذا العرض، ولكن ليس لأنّه لا يوجد عمل يتعيَّن القيام به. في الواقع، يرى الوالدان أنّه ليس من مسؤوليتهما توفير العمل لابنتهما – دورهما هو إعدادها لإعالة نفسها خارج المنزل. هنا يبدو لسان حال الوالدين: «نحن لن نوفر لكِ ضروريات المعيشة، ولن نوفر العمل أيضًا. يجب أن تبحثي بنفسك وتجدي العمل المناسب، وإذا كنتِ لا تستطيعين ذلك، فهذا سيئ للغاية بالنسبة لكِ». لذلك فإذا عملت الابنة في نادٍ للتعري، أو تاجرت في المخدرات، أو سرقت ما تحتاجه من أجل البقاء، فإنَّ والديها قد تنازلا عن سلطتهما الأبوية والأخلاقية للحكم على تصرفات ابنتهم.


الخلاصة

إذا ظلَّت المنافسة هي الوسيلة الوحيدة لموت أو بقاء الأفراد، فإنَّ هذا العقد الاجتماعي يخلق حوافزَ للأفراد لكسب مزايا على حساب أفراد آخرين.

يجب أن يوفر العقد الاجتماعي الملزِم أخلاقيًا جميع وسائل الحصول على المأكل والملبس والمأوى. الدولة التي تصرّ على أنَّ دورها ليس توفير هذه الضروريات، ولكن مجرد تسهيل وسائل للأفراد لتأمينها، يمكنها القيام بذلك عن طريق توفير فرص العمل أو الدخل. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ السبب الوحيد، على ما يبدو، لحرمان الدولة الغنية أفرادها من ضروريات المعيشة أو العمل الحكومي هو إصرار يتطلب من الأغلبية البحث عن العمل وإبقائهم في صراع دائم من أجل البقاء.

في الواقع، الدولة هي التي طردت ابنتها من المنزل، ويجب عليها الآن إعالة نفسها. ولكن مع القيام بذلك، مثل الوالدين في حالة التناظر، تفقد الدولة سلطتها الأخلاقية للحكم على تصرفات أفرادها السابقين للبقاء على قيد الحياة. وفقًا لأحكام العقد الاجتماعي، يحتفظ أو يستعيد هؤلاء الأفراد السابقين حقهم في كل شيء، ولديهم ما يسوّغ اللجوء إلى جميع الوسائل التي يرونها ضرورية ومفيدة للحصول على ما يحتاجون من أجل البقاء، ووحدهم مَن يقررون ما هو ضروري ومفيد أيضًا. لقد أصبح لديهم رخصة للسرقة.