قطعت نصف هذه الولاية لأكون هنا وأستكشف هذه الأرض. أرجح أن بعضكم قد سمع بعض الإشاعات المبالغ فيها حول نواياي لذا ظننت أنكم قد تحبذون سماعها مني. هذا هو وجهي، وليس بسر عظيم. أنا رجل نفط، سيداتي وسادتي.
دانيال بلاينفيو- من الفيلم

هكذا يتحدث دانيال بلاينفيو/ دانيال دي لويس، الشخصية الرئيسية في فيلم بول توماس أندرسون (There Will Be Blood- سوف يكون هناك دماء) بصوته العميق، السلطوي والواثق من نفسه. يصف روجر أيبرت في مراجعته للفيلم الطريقة التي يتحدث بها بلاينفيو: لا أحد يتحدث على هذا النحو المباشر والصريح دون أن يكون مخادعًا.

هذا ليس وجهي وليس بسر عظيم! في الحقيقة يمكننا أن نصف بلاينفيو بانعدام صفات كثيرة، ليس من بينها الغموض بكل تأكيد.

في مديح الغموض

 

ينتمي الفيلم الخامس في مسيرة «أندرسون» إلى ما يسمى بأفلام دراسة الشخصية (character case study). في مثل هذه الأفلام يصبح كل شيء تابعًا للشخصية الرئيسية ويكتسب قيمته من قدرته على إضاءة ملامح الشخصية ورصد الأفكار والمشاعر التي تسيطر عليها. تحدد طبيعة الشخصية الرئيسية مسار السرد.

بنى أندرسون شخصية بلاينفيو اعتمادًا على واحدة من شخصيات رواية أبتون سنكلير (oil) والتي يعتبر الفيلم اقتباسًا حرًا عنها بالإضافة لاعتماده على شخصية حقيقية تتقاطع تفاصيل حياتها مع حياة بلاينفيو وهو تايكون النفط (إدوارد دوهيني). منزل بلاينفيو الذي يظهر في المشاهد الأخيرة من الفيلم هو نفسه منزل دوهيني.

يحاول أندرسون عبر فيلمه خلق بورتريه سينمائي بأبعاد ملحمية لشخصية دانييل بلاينفيو. ما يجعل هذا الفيلم من أفضل أفلام هذه الفئة هو اللمسة الواقعية في مقاربة مفهوم الذات في مقابل اللمسة الهوليودية التي اعتدنا عليها كتقليد في رسم الشخصيات السينمائية. لا توجد في الواقع شخصيات بهذا الوضوح والتحديد الهوليودي، من منا يفهم طبيعة نواياه على نحو واضح؟

كما في بقية أفلامه، يحافظ أندرسون دائمًا على قدر من غموض شخصياته بحجب الكثير من المعلومات عنا. يظهر بلاينفيو تقريبًا في كل مشاهد الفيلم، يلقي بظله على كل شيء ومع ذلك تظل شخصيته تعانق غموضها كقدر مكتوب من البداية للنهاية.

بلاينفيو رجل صامت، مسور بعزلة فرضها على نفسه، يتخفى من ذاته ومن الآخرين. يحاكي السرد في الفيلم طباع هذه الشخصية فهو أقرب إلى قفزات تتبع شخصية بلاينفيو في الزمن متعمدًا إخفاء جزء كبير من حكايته ليحرمنا بذلك من الولوج لمملكة الداخل ويبقى بلاينفيو أقرب لذات تقاوم فك تشفيرها.

 بالإمكان تحميل شخصية بلاينفيو بمجازات عدة، قد تراه كتعبير عن مولد الرأسمالية الحديثة مطلع القرن العشرين بنهمها الكانيبالي أو عن الحلم الأمريكي في واحد من أكثر تجلياته ظلمة ووحشية لكنه يظل غامضًا كذات مفردة.

نص سينمائي مضاد للسيكولوجي

 

يبدو فهم شخصية بلاينفيو مهمة صعبة خاصة في نص سينمائي يبدو مضادًا للسيكولوجي (anti- psychological)، فهو محروم من الحياة الداخلية لا يتحدث إلا نادرًا عن أفكاره ومشاعره، لا نعرف شيئًا عن ماضيه أو تاريخه الشخصي سوى عبر شذرات يبوح بها في لحظات نادرة للشخص الذي ينتحل شخصية أخيه/ هنري. حتى خلال هذه المرات القليلة التي كان فيها منفتحًا يرد على أسئلة هنري: لا أحب تفسير نفسي، أو لا أحب الحديث عن تلك الأمور. كيف يمكن فهم شخصية مكتوبة على هذا النحو؟ كيف نتقصى ملامح روحه؟

يتحدث ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية” عن الطريقة التي يمكن بها إدراك ذوات الشخصيات عبر النصوص التي تعتمد مقاربة غير سيكولوجية لها ويجيب عن طريق الفعل، عبر كل فعل تمارسه الشخصية تتميز عن البقية وتصير فردًا، تكشف شيئًا من صورتها الخاصة. فهم الفعل في مثل هذه النصوص على أنه اللوحة الذاتية للفاعل.

 

ما  الذي تقوله أفعال بلاينفيو عن نفسه؟

نشاهده للمرة الأولى في قاع بئر عميق ووجهه غارق في الظلال. ربما ليس هناك شيء أكثر تعبيرًا عن الوحدة من رجل بمفرده في قاع بئر وسط صحراء شاسعة. كل رجال “أندرسون” وحيدون. شخصيات مسكونة بالوحدة سواء بين الناس أو بعيدًا عنهم.

بداية منذ هذه اللحظة كل شيء يفعله بلاينفيو يضيء شيئًا من شخصيته، يختل توازنه ليسقط داخل البئر وتنكسر ساقه، ربما نتساءل كيف سينجو هذا الرجل وحده في هذا المكان؟ 

لكن رجلنا غير مشغول بذلك، نراه قبل أن يتسلق البئر يحمل معه عينة من الحجارة من أجل تحليلها. إنه يؤمن تمامًا أنه سينجو، نراه خارج البئر على ظهره بساق مكسورة عبر حجارة الصحراء القاسية قبل أن تتحرك الكاميرا لترينا المسافة المفترض أن يقطعها على هذه الحال. هذا رجل ذو إرادة حديدية، لا شيء بإمكانه أن يوقفه عن مسعاه.

نشاهده في المشهد التالي داخل أحد المعامل أثناء تحليل عينات الحجارة، ينام على ظهره وقد جبر ساقه المكسور، يراقب الجميع بعينين مفتوحتين، إنه لا يثق في أحد. يقول لهنري لاحقًا: إنني أرى أسوأ ما في الناس.

التنقيب عن رغبة بلاينفيو، عن معنى الرحلة

 

الفيلم رحلة صعود شاقة وبلاينفيو مستنفد فيها تمامًا جسدًا وروحًا. من رجل وحيد في قعر بئر يسعى وراء الثروة بكل ما أوتي من طاقة إلى “تايكون” أكثر وحدة يسكن قصرًا.  مع تقدم السرد يزداد عزلة وتوحشًا، يتلاشى تمامًا كل ما هو إنساني تحت جلد هذه الشخصية. كل ما بقي مرارة وغضب. 

المنزل الذي يسكنه أقرب إلى مقبرة، نصب موحش بلا حياة ولا وسائل للراحة. نراه يطلق الرصاص على صناديق خشبية داخل البيت كما لو كان في رحلة صيد في الصحراء، يتحرك في العتمة كشبح بثقوب في حذائه، وملابس متسخة وبظهر محدودب يمنحه مظهرًا حيوانيًا. نراه ينام على الأرضية الخشبية لقاعة البولينج -كما كان ينام في خيمته بالصحراء محاطًا ببقايا الخمر والطعام. تبدو محصلة الثروة في النهاية بلا قيمة بالنسبة له. هل كانت الثروة هي كل ما يسعى في أثره؟ ما الذي يرغب فيه بلاينفيو حقًا؟  

هناك مشهد بعد منتصف الفيلم بقليل يعرض أحد الأثرياء عليه أن يشتري منه آبار النفط التي اكتشفها مقابل أن يجعله مليونيرًا، لكن بلاينفيو يجيب بجملة تثير دهشة محدثه ودهشتنا أيضًا: وما الذي سأفعله بنفسي حينئذ؟ تبدو رحلة الصعود وحمى السعي هي ما يدفعه للأمام. تبدو الرحلة في مجملها ضربًا من الاستحواذ يشوش به بلاينفيو على رغبة سرية يحاول نسيانها أو الهرب منها. 

في نفس المشهد، يرد محدثه على سؤاله: يمكنك الاعتناء بابنك. وهنا يجن جنون بلاينفيو. يخبره هل أخبرتني للتو كيف أدبر شؤون عائلتي؟ ذات ليلة سأتسلل إلى بيتك وأذبحك!

الرغبة كما يرى المحلل النفسي الكبير (جاك لاكان) شيء بالغ الغرابة، تتشوه وتتحول طيلة الوقت. شيء ممض في غموضه وبعده عن التحقق يتم إزاحته طيلة الوقت من المتن نحو الهوامش وفي التفاصيل الصغيرة شيء يمكن قراءته فقط بين السطور.

حنين سري لفكرة العائلة

 

هناك دائمًا في سينما أندرسون ما يشير بإصبع الاتهام إلى العائلة، فشخصياته دائمًا قادمة من عائلات محطمة.  العائلة مصدر جرح مفتوح لهم، يفرون من العائلة بنفس قدر حنينهم إلى فكرتها. هذا التناقض يحكم كل شخصياته إذ تسعى دائمًا لشيء هربت منه من البداية. في المرات القليلة التي يحكي فيها بلاينفيو عن نفسه يخبر هنري على شاطئ البحر عن بيت في البلدة التي نشأ فيها كان يراه أجمل بيت في العالم راوده حلم امتلاكه أن ينام فيه ويأكل وينجب أطفالًا يمرحون في جنباته. يقول له هنري يمكنك أن تبني ما تشاء الآن، يسأله إن كان سيبني بيته على شاكلة هذا البيت، فيخبره بلاينفيو: “إذا رأيته الآن، سيصيبني الغثيان”

تناقض مشاعره تجاه هذا الحلم الطفولي له علاقة بعلاقته بوالده والعائلة التي جاء منها. نعرف أنه ترك البيت ولم يعد له أبدًا دون أن نعرف السبب. رغم عاطفته الصادقة تجاه ابنه بالتبني لا توجد له أي علاقة بامرأة. إنه لا يسعى نحو تكوين عائلته الخاصة وان كان يحن إلى دور الأب. في السيناريو هناك مشهد محذوف يخبر فيه أخاه بأنه يعاني من عجز جنسي. يبدو الأمر بالنسبة لي نفسيًا تمامًا: إنه يخاف من فكرة العائلة قدر حنينه إليها وبالتالي العجز هنا هو حل حاسم لهذا التناقض المحتدم داخله.

بلاينفيو الذي يبدو من الخارج كشخصية صلبة وخشنة يبدو هشًا تمامًا حين يتعلق الأمر بالعائلة، فأكثر لحظات تتجلى فيها هشاشة بلاينفيو الداخلية ذات صلة مباشرة بفكرة العائلة: وداع ابنه بالتبني في القطار، نراه يهرب من لحظة الوداع، لا ينظر خلفه، إنه يهرب من هذا الجانب العاطفي منه الذي يدفنه عميقًا في ذاته، ثم اللحظة التي يكتشف فيها أن هنري ليس أخاه وأن أخاه الحقيفي مات بالسل. حين يرى صوره أخيه الحقيقي المخبأة في يومياته نراه يبكي منهارًا.

تبدو أكثر اللحظات إحراجًا لبلاينفيو في مشهد تعميده حين يجبره ايلاى صانداي/ بول دانو أن يكرر أمام الجميع أنه تخلى عن ابنه.

بلاينفيو شخص مصاب بالبارانويا، متشكك ويرى الأسوأ دائمًا في الآخرين ومع ذلك يأخذ هنري تحت جناحه ويدمجه مباشرة معه في العمل دون استقصاء لحكايته، يقول له: وجودك هنا منحني نفسًا ثانيًا للحياة. يشبع هنري حنين بلاينفيو إلى العائلة بعد الاغتراب الناشئ بينه وبين ابنه بالتبني بعد صممه. إنه لا يشعر بالأمان إلا ربما في وجود شخص من دمه، يبدو قتله لهنري هو نوع من الغضب وكأنه فتح نفسه وعواطفه لشخص ليس من دمه، بل من هؤلاء الناس الذين يكرههم. يبدو بلاينفيو في دوامة صعوده نحو الثروة والسلطة كشخص هارب لأنه خائف من مواجهة قلبه الهش وحزنه المدفون تحت طبقات من البارانويا والغضب والكراهية.

قرب النهاية، يخبره ابنه بالتبني وشريكه أنه سينفصل عنه ويبدأ عمله الخاص. هنا يخرجه بلاينفيو من دائرة العائلة إلى دائرة الناس وكأنما تستيقظ بارانويا بلاينفيو فجأة تجاهه وحينئذ يخبره ولأول مرة أنه لقيط. أنت منافس لي إذن، لا يوجد شيء فيك مني. بينما نشاهده يهبط سلمًا ومحاطًا بقضبان سجنه الذاتي يستعيد ذكرى مع ابنه، الفرق في الإضاءة بين لقطة الذكرى الدافئة والحميمية واللحظة الآنية الغارقة في الظلام تدمغ الرحلة بطابع اللعنة. هنا يهبط بلاينفيو إلى قاع عزلته ويتخلص من آخر علاقة تربطه بعالم البشر.

ربما لا توجد شخصية سينمائية أكثر أيقونية خلال العقدين الماضيين من عمر السينما مثل دانييل بلاينفيو، واحدة من أكثر الشخصيات تعقيدًا وسطوة. كل حديث عن عظمة الفيلم وأيقونية الشخصية منقوص إذا لم نتطرق إلى أداء دانيال دي لويس الذي يقدم هنا ربما أفضل أداء في مسيرته وبالتأكيد أحد أفضل الأداءات التمثيلية في تاريخ السينما.