محتوى مترجم
المصدر
التاريخ
2013/07/16
الكاتب

يستعيدُ كتابُ الفيلسوف «توماس ناجل»* الجديد «العقل والكون: لماذا يعتبر التصوّر الماديّ النيوداروينيّ للطبيعة خاطئا بالكلية تقريبا؟» القوةَ الأولى لكلمة فلسفية قديمة عظمى هي «الميتافيزيقيا».

فهو ينطلق من نظرة جريئةٍ إلى ذلك المخلوق الغريب: النّوع البشريّ، إلى بعض التأملات اللافتة حول ماهيتنا وموضعنا في الكون. ويسّلط الضوءَ عرضًا (وبغيرٍ قصدٍ فيما يبدو)، مدار الطريق، على بعض الجوانب الهامّة للسينما والفنّ بشكلٍ عام.

يتعامل الكتاب مع العلم -وبخاصّة مع الأفكار الداروينية المتعلقة بالتطور والانتقاء الطبيعي- وهو حافلٌ بلغة شبه علمية، وبالحجاج الذي يميّز كثيرًا من الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية.

إنّه لأمر مؤسف أن الأفكار التي يكشف عنها ناجل نوقشت من قبل أناس غير مختصين، ومهتمين بالفنون وبالسياسة، وحرفيا ضمن هذا السياق، بالعلوم الإنسانية. وأينما نُوقشَ هذا الكتاب، أثارَ جدلًا ذا طبيعةٍ سياسيّة ضمنيًّا. ففي مقال لصالح جريدة «التايمز»، أنبأت «جينيفر ستوشسلر» عن الإشادة التي حظى بها من أتباع نظرية الخلق.

يستعيد كتاب الفيلسوف ناجل «العقل والكون: لماذا يعتبر التصور المادي النيودارويني للطبيعة خاطئا بالكلية تقريبا؟» القوة الأولى لكلمة «الميتافيزيقيا»

وفي الواقع، فإنّ أنصار نظرية التطور لديهم ردّ على المقال بمقال جماعيّ «وأنت يا ناجل؟» مكرسين وقتهم لصد الهجمات عن نظرية التطور، من قبل أتباع نظرية الخلق المتدينيين اليمينيين الذين يجدون أنفسهم الآن بحاجة للدفاع عن الفكرة (فكرة الخلق)، أمام منتقديهم من اليسار، والجناح المفرط في العقلانيّةً.

لكن كما يلاحظ آلان أورر في موقع نيويورك بوك ريفيوز: ما من شيءٍ في كتاب «العقل والكون» يدعم أو يتعاطف مع وجهة النظر الدينية. بل إن ناجل ليسعى إلى تحسين العلم، إن لم يكن لنشره، لا التنصل منه.

إنّ الفيزيقا هي السؤال المتعلّق بماهيّة المادّة. فيما الميتافيزيقيا هي السؤال المتعلّق بما هو موجود. ويميل ذوو النزعة العلمية والعقلانيّة إلى الاعتقاد بأن الاثنين الفيزيقا والميتافيزيقا متوازيان، وبأنّ كل شيء فيزيقيّ.

أما العديد من الذين يفكّرون بشكل مختلف، فيؤمنون دينيا بوجود الله والأراوح. أما ناجل فيؤكّد أنّه ملحدٌ، بيد أنّه يجزم بأنّ ثمةَ مجالًا مختلفًا كليًّا للأشياء اللا-فيزيقيّة الموجودة؛ ألا وهي الأشياء العقلية.

إن التيار الهائل من التصورات والأفكار والعواطف التي تنشأ في عقل إنسان، هو من وجهة نظره موجود فعلا كشيء آخر يعدو كونه مجرد ومضات كهربائية يمنحها الدماغ النشأة؛ هي موجودة بقدر ما يمكن للدماغ والكرسي والذرة وأشعة غاما أن يكونوا موجودين (أي أنها كيان قائم بذاته).

بكلمات أخرى؛ حتى لو كان ممكنا تحديد ذلك النمط عينه من الموجات الدماغية التي تنشئ مركبا لحظيا من الوعي، سيفسّر ذلك التحديد الوجه الحسي المقابل لتلك الخبرات وحسب، لكنه لن يكون التجارب ذاتها. فالإنسان لا يختبر أنماطا مرسومة، وتجاربه حقيقيةٌ غير قابلة للاختزال بقدر ما هي موجات دماغه حقيقية، ومتباينة عنها.

يقدم ناجل النشاط العقلي كحيز خاص من الكينونة، ويقدم الحياة كحالة مميزة، بذات الطريقة التي تعتبر فيها البيولوجيا حقلا للعلم تمييزا لها عن الفيزياء. وحجته أن الأشياء الذهنية الناشئة من عقول الكائنات الحية إذا كانت نطاقا متمايزا من الوجود، فلن يمكن بتاتا للنظريات الفيزيائية كالنظرية الدروينية أن تكون صحيحة كليا.

لا يمكن للحياة أن تكون قد نشأت من تفاعل كيميائي أولي فحسب. ولا يمكن لعملية الانتقاء الطبيعي تفسير نشوء حيز العقل. فعلم الأحياء، وفق رأي ناجل، يصبح تشكيلة من العلوم المتمايزة جذريا عن الفيزياء، إنه يتطرق إلى مجال هائل وهامٍّ من الظواهر التي ليس بوسع الفيزياء احتواؤها بدقة أكبر لأنها جوانب من أشياء حية غير مادية:

الإدراك الذاتي، إن لم ينحصر بما هو محسوس، لن يكون بالوسع تفسيره انطلاقا من التطور الفيزيقي، حتى وإن كان التطور الفيزيقي لهكذا كائنات حية في واقع الأمر، شرطا ضروريا ومناسبا للإدراك.

بما أن أيًا من الفيزيقا أو الأحياء الداروينية لا يمكن أن يفسر ظهور عالم ذهني من آخر فيزيائي، يؤكد ناجل بأن الجانب الذهني للوجود حتما كان موجودا منذ أولى لحظات بداية الخلق. لكنه يذهب أبعد من ذلك، نحو عالم غريب وأسطوري.

إنه يحاججُ بأن ملكة العقل مختلفة عن الإدراك، وفي الواقع سابقة عليها، «ملكة غير قابلة للاختزال». ويقترح بأن أي نظرية للكون سيتعين عليها النجاح في إظهار «كيف ينزع النظام الطبيعي إلى توليد كائنات قادرة على فهمه».

وهذا، كما يحاجج ناجل، سيكوّن نظرية غائية، أي تفترض نزعة مبرمجة سلفا أو مدمجةٌ في الكون تسيّره باتجاه غاية محددة هي تحقيق إمكانيات عقلية.

في تصوير بديع، يكتب ناجل: «إن كل واحدةٍ من حيواتنا ما هي إلا جزء من عملية مطولة لاستفاقة تدرجية للكون إلى أن يصبح مدركا لنفسه».

في الواقع ،ينحو الكون باتجاه «تعظيم أهداف معينة وإبداء قيمة خاصة للنتائج التي تميل إليها الأشياء». ويماثل ناجل هذا التوجه الميتافيزيقي نحو الأخلاق البشرية التي من شأنها الانسجام تدريجيا وبصور متزايدة (بخطوات متراوحة قداما ووراء) مع القيمة الكامنة في الكون.

وانطلاقا من وجهة النظر هذه؛ يعتبر اكتشاف تلك القيم غير قابل للفصل عن فهم الكون. تجتمع الفيزيقا والميتافيزيقيا، والبيولوجيا والفلسفة الأخلاقية سويا في رؤية نايجل لنظرية موحِّدة للكون والوجود. ورؤيته الكونية والشاملة متمركزة حول الإنسان بشكل ملحوظ، ومرتبطة بفكرة التقدم العملي على مقياس التجربة الإنسانية؛ فيما التاريخ الإنساني يردد صدى تاريخ الكون.

إنني متعاطف بشكل هائل مع خط أفكار نايجل (بصراحة تامة: كان الرجل أستاذي لفصل في جامعة برينستون منتصف السبعينات). إنها تعرض إلى حد كبير نمطا جوهريا موازيا لوجهة نظري في الأفلام.

حينما نشأ نقاش هنا قبل بضع سنوات بشأن التوجهات الجديدة في صناعة الأفلام الواقعية، أكدت أن كل شيء واقعي، وأن الحقائق التي تهم في الأفلام هي تركيبات عقلية، عاطفية كانت أم سياسية، وعليه فإن فيلما يستعرض بشكل أحادي وبصرامة الجوانب والتصرفات الفيزيقية لشخصياته لن يدنو من الواقعية بالضرورة، هذا إن لم يكن يبتعد عنها.

الرسوم المتحركة، أو الصور الخيالية المنشأة بالحاسوب، أو الفيلم الذي يصور الأحلام والرؤى والهلوسات والأصوات الداخلية لأبطاله، أو تلك الأحداث المبعثرة التي يجري تجميعها صوتا وصورةً بالمونتاج، قد يتصلون بالواقعية على نحو أشد حميمية، وعمقًا وامتلاء.

يقدم ناجل النشاط العقلي كحيز خاص من الكينونة ويقدم الحياة كحالة مميزة بذات الطريقة التي تعتبر فيها البيولوجيا حقلا للعلم تمييزا لها عن الفيزياء

ولعل الفيلم الذي يبدو الأفضل في تجسيد منظور مشابه لمنظور ناجل هو فيلم «The Tree of Life» لـ تيرينس ماليك، برأيه في وجود شكل ما قبل تاريخي للتاريخ، مورست فيه التجربة الحياتية (كالمشهد المذهل للديناصورات المولدة صوريا وهي تختبر لأول مرةٍ حسا بدائيا بالرحمة).

أعتقد أن لأطروحة ناجل نتائج ثورية مماثلة في الفلسفة ذاتها. فحجته تلمح إلى أن الوعي -الحياة عقلية بالأصح، واعية كانت أم لا- ليس ذريا، بل شمولي.

بمعنى آخر: لا يوجد جزء خبرة أو نواة خبرة، إنما -بصورة أكبر- عقل عند لحظة معينة، غرق في عدد لا يحصى من التصورات، والذكريات، والأفكار، والأحكام، والرغبات. حتى إن إحصاءهم في صيغة الجمع أمر سخيف بعض الشيء، لأن ذلك يوحي بالقدرة على عزلهم كأحداث أو أشياء مفردة.

وعليه؛ كي تفسر الفلسفة الحياة العقلية ستحتاج لأن تحيد عن الخبرات المعزولة في المنطق والحجج، في سبيل التركيز على أحداث تاريخية كبرى وشخصيات وأعمال فنية وفنانين بحد ذاتهم ومدن وبلدان ولغات ودراما إنسانية من كل الأنواع، أمعاشة كانت أم متخيلة.

وهو ما يعني أن على الرغم من أن ناجل لا يكتب عن الفن في كتابه «العقل والكون» إلا أن أكبر الآثار التي يتركها الكتاب تشمل الفن، وكيف يساعدنا في فهم العالم.

إن كان ناجل محقا، فإن الفن بذاته لن يعود مجرد رفاهية للعلماء إلا أنه سيكون في اعتقادي معرفا كأساس للتصالح مع الجوهر العقلي والأخلاقي للكون. سيكون المصدر الرئيس للتعبير الأشد وصفا للحياة، بينما ستكون الجماليات في طليعة الفلسفة، كجانب حاسمٍ من علم الأحياء الميتافيزيقي. وهكذا، ستضحي كتابة وممارسة الفلسفة شبيهة أكثر بنصوص لفريدريك نيتشه، بما تحويه من عناصر جمالية وذاتية وتركيزٍ على أحداث عمليةٍ وتاريخية.

إن كل هذا الجمال في نظرية ناجل، وقدرتها على إلهامِ المخيلة، لأمر يُحسب لَه.


* توماس ناجل فيلسوف أمريكي بارز مهتم بفلسفة العقل والسياسة والقانون والأخلاق، معروف بنقده للمادية الفيزيائية وتأكيده وجود الوعي كظاهرة غير مادية، والأخلاق العقلية.