تعجب الكاتب والمترجم مصطفى عبيد من عدم ترجمة مذكرات الضابط الإنجليزي، توماس راسل، الذي عاش في مصر نحو 44 عامًا (1902 – 1946)، رغم مرور نحو 70 عامًا على صدورها في لندن بعنوان «في الخدمة المصرية»، كونه أحد ضباط الشرطة المهمين – إن لم يكن أهمهم فعلًا – وهو الذي عاش في تلك الفترة المليئة بالتحولات الاجتماعية والسياسية، حيث تنقل في مصر من جنوبها إلى شمالها، عاش مع أهلها، راقب أفعالهم وأشكالهم، وحتى أمراضهم، كتب مذكراته من واقع مشاهداته تلك، ومن واقع تقارير أمنية عن الجريمة فيها بحكم وظيفته كشرطي إنجليزي شاءت الظروف والأقدار أن يتدرج في المناصب حتى وصل إلى منصب «حكمدار القاهرة»، وقد تداخل راسل بآرائه ووجهات نظره في بعض تلك المشاهدات، مفسرًا لبعض الظواهر التي رافقت وجوده.

للمترجم كل الحق في تعجبه، لا سيما أن المذكرات صدرت في 1949، ومات الرجل في 1954، ولم تجد من يترجمها باعتبارها المؤلف الأوحد تقريبًا الذي يرصد تاريخ وتطور الجريمة في المجتمع المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ إن ما تم تناوله في هذا الموضوع لم يخرج عن فصول في كتب مؤرخة لكل المناحي، فضلًا عن كونه ضابطًا رسميًّا تعامل مع الجريمة عن قرب، لا دارسًا أو باحثًا اعتمد على نصوص وأرشيفات وأقاصيص تاريخية. للمترجم حق كذلك في تعجبه لأن كتاب راسل يؤرخ للمرحلة المتأخرة للورد كرومر (أول وأشهر معتمد بريطاني في مصر) والفترة التالية له، وهي فترة المستشارين الإنجليز ومفتشيهم الإقليميين.

هناك غرام خاص بكتب التاريخ الاجتماعي لمصر في السنوات الأخيرة، إذ صدرت عشرات المؤلفات التي تتناول أو تعيد النظر للتاريخ المصري، لا سيما في منتصف القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تلك الفترة المؤسسة لبنية المجتمع، راصدة تحولاته ومتغيراته، بنظرة أكثر تفحيصًا ودقة عن ما رسخ في الأذهان، وتداولته الألسنة جيلًا بعد جيل، من دون إعادة للقراءة، أو حتى اللجوء إلى منطق الأشياء.

من تلك الكتب – بكل تأكيد – هي الكتب التي كتبها المستشرقون عن مصر أو حتى الذين عاشوا فيها، ولم يكونوا دارسين أو باحثين، بل مجرد مؤرخين لفترة معينة، ومنهم حالة توماس راسل.

صنفان من كل شيء

في الكتاب صنفان من كل شيء، صنف يتحدث فيه راسل عن حياته في الريف، وصنف عن المدن الكبرى التي عاش فيها مثل القاهرة والإسكندرية. صنف صغير تمهيدي عن حياته قبل المجيء إلى مصر، وصنف آخر كبير ومفصل عن حياته في مصر. صنف عن الجريمة وارتباطها بعادات وتقاليد الشعب، وصنف لا يبتعد عن السياسة، وإن كان قد قرر منذ مقدمته أن يبتعد عنها، لكن ارتباط الجريمة بالمجتمع والسياسة أحيانًا حتم عليه أن يعرِّج عليهما. صنف عن البشر، وصنف عن القانون. صنف عن إخفاقاته وصنف آخر عن نجاحاته. صنف لجأ فيه إلى أرقام وتقارير واضحة، وصنف آخر تدخل هو فيه برأيه أو وجهة نظره.

كان من الطبيعي أن يكون منصفًا لبني وطنه، وأن يعدد من إيجابيات الاحتلال على مصر، رغم عدم كونه جزءًا من الحكومة المصرية، حيث قال إن الموظفين البريطانيين كانوا بمثابة خدم للحكومة المصرية. كما كان من الطبيعي أن يعلي من شأن المواطن المصري الذي عاش معه لفترة تعدت نصف حياته تقريبًا.

لكن ما لفت انتباهي في ثنائيات توماس راسل كلها هو براعته الشديدة في وصف الريف المصري، أكثر من المدن، رغم أنه عاش في الأولى وقتًا أقل نسبيًّا. إذ يشعر القارئ للجزء الخاص بانخراطه في المدينة، وتحديدًا القاهرة، بأن الحكايات مكررة، خصوصًا فيما يتعلق بأحداث ثورة 1919، وتاريخ البغاء المرخص في مصر، ومناطق تواجده.

كان مدخله لوصف الريف إحصائية رقمية حصل عليها في سنة 1947، حيث كان عدد سكان مصر يقدر بـ 17 مليون شخص، منهم 5 ملايين في المدن، و12 مليونًا في الريف، وأن المتوسط العام للجرائم سنويًّا خلال الفترة من 1940 وحتى 1944 نحو 7900 جريمة، منها 1800 في المدن الأربع الكبرى: القاهرة، الإسكندرية، السويس، وبورسعيد، ونحو 6100 في باقي المحافظات. ومن بين تلك الجرائم 2957 جريمة قتل أو شروع في قتل، منها 212 في المدن الأربع الكبرى، و2745 في باقي المحافظات (أي جريمة قتل كل ثلاث ساعات تقريبًا).

هنا وضح أن الجريمة الأكثر انتشارًا في الريف، هي القتل، وأن 70% منها مع سبق الإصرار والترصد، و80% منها بسبب الثأر (أو العداءات الخاصة)، و18% فقط بغرض السرقة، وأن 67 منها جرت في الليل.

رغم كل تلك الأرقام المفزعة، فإن راسل لم يعتبر مصر «بلد الجريمة»، وفسر ذلك بأن الثأر هو الدافع الأول لها، إذ إنه القانون الحاكم لعادات وطبائع أهل الريف، لا سيما الصعيد، وأن طموح كل فلاح شاب هو أن يمتلك سلاحًا حديثًا، إنجليزي الصنع، ليس بالضرورة لأغراض العدوان، وإنما لإظهار خشونته أمام فتيات القرية، ومواجهة قطاع الطرق المحليين الذين يحملون الأسلحة وبنادق «تومي جن»، وأسلحة أخرى وذخائر ورصاصات ألمانية وإيطالية من نتاجات الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن استخدامه في أحداث الثأر.

برع راسل في تفسيره لانتشار الأوبئة في مصر، فيذكر أنه في بداية القرن لم يكن الوباء معروفًا في الصعيد، حيث كان الفلاح فقيرًا لكنه يتمتع بصحة جيدة، ولكن في السنوات الأربعين التالية، تغير نظام الري في الصعيد، إذ تحول من ري الحياض إلى الري الدائم (الغمر)، وهو الذي كان موجودًا فقط في الدلتا، وبالتالي انتقلت عدوى البلهارسيا والإنكلستوما إلى الجنوب أيضًا، حيث كانت الأراضي الزراعية فيها تمتلئ بالمياه في الصيف فقط، وكانت حرارة الشمس القاسية قادرة على قتل محارات البلهارسيا، لكن بعد أن صارت الأرض تروى طوال العام، نجحت البلهارسيا في الانتشار بسرعة في الجنوب، محدثة آثارًا بائسة في قوة العمل والصحة العامة في البلاد.

ويرى راسل أن انتشار المخدرات في الريف المصري رافق انتشار الأوبئة، فالمعادلة التي تبناها أنه مع انتشار الأوبئة والأمراض زاد وهن الفلاح، لذا كان اللجوء إلى مخدرات أكثر يشعرهم بأنهم في حال أفضل، حتى يواصلوا عملهم في الحقول. ومع نجاح الحكومة في وضع الصعوبات أمام تلك التجارة المحرمة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار لما فوق قدرة كثير من الفلاحين على شراء الحشيش والهيروين، لجأ البعض إلى عادة جديدة حينها، وهي شرب الشاي المغلي!

إعجاب بالصعيد عن الدلتا

طوال سنوات عمره التي قضاها في مصر أعجب راسل بالصعيد أكثر من الدلتا، رغم حرارة الصيف اللاهبة للأول، إذ بدت له معظم الدلتا كحديقة خضراء ضخمة، ولكن من دون ملامح.

رافق راسل عادات المصريين في الريف، عاصر اختفاء تقاليد حياتهم الأولى، وتلاشي قانون البدو والصحراء شيئًا فشيئًا، رافق أصحاب المهن الغريبة، مثل حواة الرفاعية، ويدين هنا لرجل إنجليزي ساعده في هذه القصة اسمه «بين»، كان يكتب لـ «إيجيبشان جازيت» حينها، وقد نشر في 1919 كتابًا بعنوان «الأفاعي المصرية وحواتها»، ومن أشهر حواة الأفاعي الذي قابلهم راسل في رحلته، مواطن أقصري اسمه موسى، نُظمت له زيارة إلى القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى، رافقه فيها راسل، وقضيا أسبوعًا يصطادان فيه الثعابين الموجودة في الأحراش المتاخمة للقاهرة، وفيما بعد عرف خبير مبهر في ترويض الأفاعي اسمه الحاج أحمد، رافقه راسل لسنوات ليتعلم منه أسرار مهنته.

يرى الرجل أن السحر الخاص بحاوي الأفاعي حقيقي ووهمي في آن واحد، حيث رأى راسل أعدادًا قياسية من الثعابين أمسكها هؤلاء الحواة في ظروف تجعل الاحتيال غير ممكن، بينما شكك في أوقات أخرى، بل كان متيقنًا من غشهم. كان هؤلاء الحواة، كما يرى، يعرفون عادات الثعابين، وبياتهم خلال الشهور الباردة، حيث ترقد في جحورها لعدة شهور من دون غذاء، ومِن ثَمَّ فلا يتوقع لحاوي الأفاعي أن يجد ثعبانًا في الشتاء، إلا إذا كان دافئًا، كذلك لهم مقدرة كبرى على فهم آثار الرمال، وأيضًا معرفتهم أنواع الثعابين الموجودة في بلد عن آخر.

قدم راسل كذلك وصفًا شبه تفصيلي لحياة الغجر المتنقلين بين مدن الريف، وعاداتهم وطريقتهم في الحياة، وقد ساعده في ذلك أيضًا دراسة نجح في الحصول عليها للسير ريتشارد بورتون بعنوان «اليهود والغجر والإسلام»، فهم يتحدثون لغة خاصة بهم، وكان لهم عادات غريبة، إذ أحيانًا ما يتحدون بعضهم بعضًا بذبح الجمال والحمير، وإلقاء النقود في المياه، ولنسائهم جاذبية وقحة، وتحت ذريعة التسول أو قراءة الحظ كنَّ يحسنَّ استغلال أعينهن السوداء الفاتنة في الحصول على أي شيء أو بيعه، ويروي راسل أن إحداهن عرضت عليه أن يشتري رضيعها.

هنا القاهرة: هنا وش البركة والوسعة

لقد جاء توماس راسل إلى مصر في 1902، في بداية عمله تدرب مع خفر السواحل بالمكس بالإسكندرية (مانشيستر مصر) كما كان يسميها، فكان عمله الأول منصبًا حول منع التهريب عبر البحر والبر، وبشكل خاص تهريب الحشيش الذي كان المخدر المفضل لدى معظم المصريين من الطبقات الدنيا، وفي تلك الأيام كان ينتج أغلبه في اليونان.

قضى أيامًا عدة في قسم شرطة المنشية وقسم اللبنان، وكانت منطقة اللبان تضم بيوت الدعارة المرخصة المسماة بـ«الجنينة» حيث كانت الأجرة مرتفعة.

كان ذلك قبل فترة انتقاله إلى الصعيد ومدن بالدلتا، ولكنه بعد ذلك عاد إلى الإسكندرية مرة أخرى، بعد أن فاز بمنصب نائب الحكمدار فيها. عمل هناك لسنتين، قبل أن ينتقل إلى القاهرة في سنة 1913 ليشغل منصب نائب الحكمدار أيضًا.

رأى راسل أن القاهرة هي المكان الذي يقدم صورة عامة للشرطة المصرية، في كثير من المدن نجد الطبقات العليا تتجاهل الشرطة، والطبقات الدنيا تخاف منها، أما في القاهرة فإن جميع الطبقات تنظر إلى الشرطة باعتبارها وسيلة مساعدة وتنتظر خدمات مؤثرة منها.

استفاض كاتب المذكرات في وصف قصة البغاء في مصر، ربما حُكيت معظم القصص في مؤلفات أخرى بشكل أفضل، ولكن من وجهة نظر ضابط استمر لسنوات يواجه تجارة «غير مرخصة» مثيرة للفوضى، كان لا بد أن نعرف كيف رآها. هو يعتبر أن هناك مقصدين سياحيين مهمين فى القاهرة هما: «وش البركة والوسعة»، الأول هو مكان حديقة الأزبكية، والتي كانت تتكون من حي كلوت بك وشارع الموسكي، وقد صار فيما بعد حيًّا للعاهرات الأوروبيات، حيث كن من اللاتي عانين ضيق العيش في بلادهن بأوروبا والهند.

أما داعرات «الوسعة» فكن من المصريات والنوبيات والسودانيات، وكان ملك «الوسعة»، ومالكها، هو النوبي إبراهيم الغربي، ربما يكون أشهر قواد في مصر في تلك الفترة، ومذكور اسمه في كل الكتب التي أرَّخت للبغاء في مصر. ووصله راسل بأنه كان يجلس دائمًا على دكة خشبية أمام أحد منازله في شارع عبد الخالق، ويُشاهد دائمًا واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وكان يرتدي ملابس نسائية، وغطاء شعر، ويجلس صامتًا كصنم أسود، وفي بعض الأحيان يرفع يده المثقلة بالمجوهرات والحلي الذهبية، لأحد المارة، فيأتي هذا الشخص ويقبل يده بإعجاب.

كان شراء النساء وبيعهن كسلعة في القاهرة وباقي المحافظات لا يتمان من دون إذن الغربي، ورأيه. وفي سنة 1916، وعندما ازدحمت المدينة بالعاهرات والغلمان والمخنثين، اتخذت الشرطة إجراءات حاسمة لتنظيف المناطق، وأمرت بإقامة معسكر إيواء في منطقة «الحلمية» لاحتجاز كل فتاة منحلة، وخلال ليلتين قُبض على 100 فتاة، ومعهن الغربي، الذي قضى عامًا محبوسًا، ثم حوكم في قضية أخرى، وحُكم عليه بخمس سنوات، ومات في السجن.

ما حدث في 1916 كان عارضًا، إذ يعترف راسل أن الشرطة فشلت في كل المحاولات لضبط مسألة الاتجار بالبشر والدعارة، لذا كان يركز في مواجهة تهريب وتعاطي المخدرات، خصوصًا أن الظهور الأول للكوكايين أرخ له راسل عند العام 1916، وكان المخدر المفضل عند الأغنياء، وكذلك الهيروين، اللذان وصلا شيئًا فشيئًا إلى الأحياء الفقيرة في سنة 1928، حتى وصل عدد المتعاطين في مصر إلى 14 مليون شخص، حتى صدر قانون قُبض بسببه على 5600 تاجر في القاهرة وحدها.

ويعترف راسل أنه في 1946، أي في العام الذي شهد خروجه من مصر، أن السبب الرئيسي لتحسن أداء الشرطة في مكافحة المخدرات، هو إلغاء الامتيازات الأجنبية، لأن أغلب بارونات المخدرات وتجارها الكبار كانوا من الأجانب غير الخاضعين للقانون المصري.

دور المترجم

لا شك في أن الكاتب الصحفي مصطفى عبيد من أبرز كتاب هذا الوقت في مصر، خصوصًا فيما يتعلق بالكتابات التي تعيد النظر من جديد فيما اعتبره الكثيرون مسلمات. يصدمنا عبيد في العديد من كتبه عن آباء الصناعة في مصر مثلًا في كتاب «سبع خواجات»، وكذلك عن بعض الحكايات النادرة وغير المطروقة في التاريخ المصري في «هوامش التاريخ».

في «النسخة النادرة من مذكرات توماس راسل» والتي ترجمها عبيد بكثير من الإتقان وامتلاك أدوات اللغة والتاريخ، أتساءل عن دور المترجم في تحقيق وتوثيق المعلومات الواردة في المذكرات، لا سيما في الإحصاءات الواردة فيه، أو في المؤلفات التي استند إليها راسل في وصفه للغجر وحواة الأفاعي وغيرها، حتى قصص تعامل راسل مع مظاهرات الفتيات في أحداث ثورة 1919، وعن هوية تلك السيدة المنحدرة من أسرة عريقة التي كانت تقود المظاهرة والتفاوض معها لمنعها.

هل كان من الأفضل أن يتدخل عبيد لتحقيق بعض المعلومات الواردة في المذكرات، أم أن الأفضل فعلًا هو تقديم المذكرات فقط كما هي من دون تدخل؟