من الفنانين القلائل الذين يعتزون بأنفسهم، ويحافظون على كرامتهم، رغم تواضعهم الجم، كريم إلى أبعد حد، ومحب للخير، ومعروف بصراحته اللامتناهية، فهو يقول للأعور أعور في عينه.

مجلة الراديو، عن زكريا أحمد، مارس 1948.

في كتابه المهم «السبعة الكبار في الموسيقى العربية»، تناول المؤرخ «فكتور سحاب»، بالتفصيل حياة 7 من عمالقة الموسيقى العربية، بالطبع كان أحدهم «زكريا أحمد».


بداية بائسة للطفل رقم 22

الشيخ «زكريا أحمد» مع أسرته

تزوج «أحمد صقر»، من فتاة تنتمي لأسرة تركية، لينجبا «زكريا» في 6 يناير 1896، الطفل رقم 22 الذي كُتبت له الحياة، بعد مرارة فقدان 21 طفلًا كُتب لهم الموت في الأسبوع الأول من الولادة، لتعيش أسرته أشهره الأولى بصعوبة خشية أن يلحق بمصير إخوته.

تعرض «زكريا» للطرد من الكُتاب وهو في الرابعة من عمره، بعد أن عضّ الشيخ منصور، الذي كان يداوم على ضربه، وفي الثالثة عشرة من عمره طُرد أيضًا من الأزهر بعد أن ضرب شيخه لنفس السبب. بعد ذلك أدخله والده مدرسة ماهر باشا في حي القلعة ليُطرد من أول يوم، لأنه لم يكف عن الغناء داخل الفصل، وتكرر ضربه وطرده دون جدوى، فالتلاميذ والمدرسون كانوا يُطربون لغنائه.

الشيخ زكريا أحمد في شبابه

خلع الشاب زكريا أحمد الجبة والقفطان، وطلب ألا يدخل المدرسة وأن يعمل مقرئًا، لكن والده رفض، ليهرب بعد ذلك، وظل يبيت كل ليلة في مكان مختلف، لتقرب بعد ذلك الوساطات بين الابن والأب الذي يقتنع أخيرًا بوقار مهنة «المقرئ». تعلم وحفظ القرآن على يد الشيخ «درويش الحريري»، الذي ظل في صحبته 10 سنوات، ثم التحق بفرقة الشيخ «إسماعيل سكر» للقراءة والإنشاد، فعظم صيته في القاهرة والأقاليم، وطاف في الأرياف يكتنز من تراث الفلاحين، ومع الوقت أخذ يبتعد عن الغناء الديني، لصالح الطرب والموسيقى.


مع سيد درويش وأم كلثوم

من اليمين (أم كلثوم – زكريا أحمد – سيد درويش)

التقى زكريا أحمد، وهو في العشرين من عمره، بشخصين أثرا في حياته بشكل كبير، «سيد درويش»، والفتاة المغمورة التي كانت تشق طريقها للنبوغ «أم كلثوم». التقى سيد درويش عام 1916، في الإسكندرية، واستمع إليه يغني، وأطرب لموسيقاه، وعمل في فرقة الشيخ سيد، كان أشد الناس إعجابًا به، فهم فنه وحفظ كل أعماله، وتأثر بتلحينه الروايات المسرحية والغنائية، ولما مات ورث منه زكريا زعامة المسرح الغنائي، والقدرة على التعبير التمثيلي في الموسيقى، وغزارة الألحان، كما ورث منه صداقة العمر مع «بيرم التونسي»، الذي كوّن مع زكريا ثنائيًا جديدًا، فعملا معًا، وعاشا معًا، بل ماتا معًا فيما لا يتعدى 40 يومًا. وفي 2 يونيو 1919، التقى زكريا أم كلثوم، في السنبلاوين، يقول عن ذلك اليوم:

منذ تلك الليلة وأنا أصم لا أسمع إلا صوتها، أبكم لا أتحدث إلا باسمها، فقد أصبحت مفتونًا بها، لأنني أحببتها، حب الفنان للحن الخالد.

اتهمه خصومه بنهب تراث سيد درويش، فشن عليه «يونس القاضي»، كاتب كلمات كثير من أغاني سيد درويش، حملة شرسة في مجلة «المسرح»، اشترك فيها «محمد البحر» ابن سيد درويش، واتهماه بسرقة ألحان والده، تحديدا «البرنيطة» لفتحية أحمد، لحن طقطوقة «ارخي الستارة اللي في ريحنا»، أغنية «تركي أفندي». تحدى زكريا أحمد متهميه أن ينشروا تدوين الألحان المسروقة بغرض المقارنة، فأحجم خصومه، لكن يظل التحدي الأكبر الذي نصر زكريا على خصومه ذلك الفيض المذهل من الألحان في عدد كبير من المسرحيات الغنائية.


المسرح الغنائي

لحن زكريا أحمد 53 مسرحية غنائية، وتراوح عدد ألحانه في كل منها من 8 إلى 12 لحنًا. وبلغ عدد أغنياته المسرحية 580 لحنًا، حظي كثير منها بشهرة واسعة، وتضمن كثير منها نفسا نقديا، فجاء في «دولة الحظ» تهكم بالأمير قبل إنشاء الرقابة على الأغاني، وتضمنت «الغول» نقدًا عنيفًا، واحتوت «أنوار» و«الوارث» نقدًا عنيفًا للأوضاع الاجتماعية آنذاك.

الشيخ زكريا أحمد

زكريا أحمد الذي ولد في 1896 –سنة عرض أول فيلم سينمائي في مصر– وهو الذي لحن أغنيات أول فيلم غنائي مصري، «أنشودة الفؤاد» 1932.

واختّط زكريا أحمد لنفسه خطًا عربيًا صريحًا في التلحين للسينما الغنائية، ظهر على أكمل صورة في فيلم «سلامة» الذي مثلته وغنت أغنياته أم كلثوم.

اشترك زكريا أحمد في تلحين 37 فيلمًا، تضمنت 91 أغنية من ألحانه، اشتهر معظمها بشكل كبير، مثل «النائبان»، و«بسلامته عاوز يتجوز»، و«وداد»، و«نشيد الأمل»، و«ليلى بنت الريف»، وغيرها. وتعد محاورة «قل لي ولا تخبّيش يا زين» من فيلم «سلامة» إسهامًا من الشيخ زكريا أحمد في تطوير الأغنية العربية عمومًا والسينمائية خصوصًا.


ملحن الألف أغنية

موشحات وتواشيح زكريا أحمد التي لم تغنها أم كلثوم تكاد لا تحصى، ومنها «يا جريح الغرام»، «يا هلال السما»، «يا رشيق القوام»، وغيرها. ويعد الشيخ زكريا أغزر الموسيقيين العرب تلحينًا في العصر الحديث، إذ قدر عدد الأغنيات التي لحنها بنحو 1070 أغنية، وأول من غنى له «صالح عبدالحي»، و«منيرة المهدية»، و«فتحية أحمد»، وأطلق عليه «كامل الخلعي» لقب «الملقاط» لأنه لم يفوت لحنًا إلا وحفظه.

في رواية «أبو زعيزع»، طلب «علي الكسار» من الشيخ زكريا لحنًا يغني والعفاريت والسحرة والأشباح على المسرح، وفي روايته لكيفية وضعه ذلك اللحن المخيف، قال زكريا:

«كانت ليلة حالكة وممطرة ارتديت فيها لباس المجانين وذهبت بتاكسي إلى أبي الهول، وما أدراك ما أبو الهول، وما يغمره في الظلمة والمطر من روعة ورعب وأشباح تأكل الأشباح، ورمال تتقاتل كأنها أرواح الشياطين، وجلست أمثل الجنون، وجلس حولي مع الليل العاصف السحرة والعفاريت وورقة عليها كلمات الأغنية، وفيما أنا على هذا، اكتشفني جندي وأخذني إلى قسم الشرطة، وظللت هناك حتى الصباح، لكن اللحن كان قد وُلد».

كما لحن زكريا أغنيات وطنية كثيرة منها «نشيد عرب الشرق سلاما»، و«أنا العربي»، و«الوحدة»، و«ياريتني من بورسعيد» وغيرها. وما غناه زكريا بصوته لا يحصى، مثل «يا صلاة الزين»، و«الورد جميل»، و«البلبل إن طول هيامه»، وغيرها.


التجديد في الموسيقى العربية

كثير من منتقدي الشيخ زكريا يذهبون إلى أنه كان محافظًا يعاند التطوير والتبديل، غير أن «فكتور سحاب» ينفي ذلك عنه، مؤكدًا أنه طوّر في الغناء العربي «الطقطوقة»، و«الدور»، وتعد طقطوقة «اللي حبك يا هناه» أول ما غنت أم كلثوم من ألحانه في 1931، لتتوالى بعد ذلك ألحانه لأم كلثوم «جمالك ربنا يزيده»، «قالولي إمتى قلبك»، «الليل يطول ويكيدني»، «ليه عزيز دمعي تذله»، «العزول فايق ورايق»، وغيرها. أما «الدور»، فقد لحن زكريا أحمد لأم كلثوم أدوارا تسعة منها «هو ده يخلص من الله»، «يا قلبي كان مالك»، و«مين اللي قال».

قال زكريا أحمد في صحيفة «الجمهورية»:

من العار على كل موسيقي مصري أن يقول إن موسيقانا محلية وعبدالوهاب له قطع كثيرة تصلح لأن تكون موسيقى عالمية، واللحن الشرقي الأصيل مهما مر عليه الزمن، ممكن تداوله عالميا، صحيح أننا لم ندرس الموسيقى في الخارج، وقليل منا الذي يحمل شهادات موسيقية، لكن الذي درس الموسيقى بالخارج لا يستطيع أن يغني عربيا أو يلحن عربيا صميما، والدليل أن رابعة العدوية جميع ألحانها ليس بها لحن عربي كألحان سلامة، وقد أُرسلت إلى الإذاعة كي أنقذ الموقف، وأُعيد تلحينها، بسبب جهل الملحنين في تصوير اللحن بالطابع الذي يتطلبه الموقف، لأنهم وضعوا لحنًا لواحدة عربية متصوفة هي رابعة، يصلح لواحدة إفرنجية اسمها زيزي في جاردن سيتي.

وعن «تجديد الموسيقى العربية»، قال الشيخ لمجلة الإذاعة اللبنانية: «إن هذا الذي يسمونه تجديدًا في الموسيقى، هو في الواقع قضاء على روحنا الشرقية الأصيلة، إن الموسيقى لم تعد في هذه الأيام إلا متاجرة بعواطف المستمعين، أما أنا فلن أهبط بفني إلى مستوى المتاجرة، وليس أكره عندي من أن يمر الناس على لحن لي مرورًا عابرًا فلا يحسون به».

ولشيخ الملحنين مقالة يحلل فيها ثورة عرابي وثورة سعد زغلول، ويبث فيها معاني وطنية صادقة، كما نشط زكريا أحمد في ثورة 1919 فنقل رسائل إلى الأقاليم ومنها، وحين تولى يوسف وهبي باشا رئاسة الحكومة التابعة للإنجليز، كان يردد في حفلات الذكر الآية الكريمة «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ»، كان يقرأها بالقراءات السبع ليرددها.


وفاة عملاق الموسيقى العربية

كنت كأنني مستودع بشر، مملوء بمختلف العواطف، فكلما احتجت إلى فرد، مددت يدي إلى قلبي، فأخرجت منه نغمة.
زكريا أحمد

لم تغفل مذكرات الشيخ شيئًا، ففي 6 يناير 1961 مات «بيرم التونسي»، وفي 13 فبراير قال الشيخ زكريا: «ذهبت إلى ملجأ العميان في الزيتون لأسمع صوتًا جديدًا قيل إنه معجزة، كانت الليلة ليلة الأربعين لبيرم التونسي رحمه الله وغفر له ولنا جميعا».. في اليوم التالي 14 فبراير مات «زكريا أحمد».