لعب الحب الرومانسي دورًا مؤثرًا في التاريخ الإنساني منذ القدم، حتى على مستوى الأسطورة والملاحم الشعرية. كما ازداد حضورًا وأهمية مع تقدم الزمان وتطور الآداب والفنون بمختلف صورها. ليغدو في القرون الأخيرة غاية معلنة ينشدها أكثر البشر في مقتبل حياتهم، يحلم الذكور والإناث بقصة حب عنيفة ودرامية وأبدية، وتوأم روح يرمم قلوبًا أنهكتها الأيام. وقد بلغ الأمر ذروته اليوم، تحت تأثير الفن والإعلام الحريص على تناول المشتركات الإنسانية العامة بهدف الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور حول العالم.

لكن لعل أزمة الحب الرومانسي الأزلية قد انكشفت في عصر منصات التواصل الاجتماعي أكثر من أي وقت مضى. حيث اعتاد الجميع على قصص الحب الملتهبة المطرزة بدعاوى العشق والوله والتماهي التي يستمر بعضها شهورًا ويطول عمر بعض آخر إلى سنوات، ثم لا تنتهي أكثرها إلا بالانفصال والحظر واللمز، وأحيانًا تبادل الاتهامات والتصريح بالندم على الوهم الذي كان.

ثم إذ بأطرافها ثانية في قصص حب شيقة يعاد فيها إنتاج الدعاوى نفسها، لتلقى ثانية العاقبة ذاتها أو يكتب لها بلوغ قفص الزواج الذي يعرف منذ القدم بقدرته على إطفاء أكثر نيران الحب اضطراما في زمن وجيز، ناهيك بنصائح حديثي وقديمي العهد بالزواج لكل عزب مقبل عليه، فالغلاف الساخر الذي يكسوها غالبًا لا ينزع عنها دلالتها القوية. وجدير بنا في ذلك السياق التفكر في معدل الطلاق الكارثي الذي تشهده مصر في السنوات الأخيرة.

اقرأ أيضًا:10 حالات طلاق كل ساعة: المأساة لم تبدأ بعد

في العقود الأخيرة، مع التطور الهائل في العلوم، أفسدت فئات جديدة من المتخصصين على الفلاسفة والأدباء احتكار البحث في ماهية الحب وأسبابه وأطواره، منها فئة علماء الأعصاب الذين حققو نجاحًا ملحوظًا. فكشفوا جانبًا مهمًا من اللغز المحير الوارد في أول أبيات أغنية «القلب يعشق كل جميل» (1972) للسيدة «أم كلثوم»، من كلمات «بيرم التونسي»، حيث أعلنت:

اللي صدق في الحب قليل، وإن دام يدوم يوم ولا يومين.

إن كان المحب الصادق في دعواه لا يدوم حبه إلا يومًا أو يومين، فما العمل؟ وما الخلل الذي يحرمنا علاقة حب أبدية؟ وهل من سبيل إلى ذلك حقًّا؟ لكن قبل الإجابة، نتطرق إلى بعض سمات العلاقة الرومانسية في ضوء نتائج عدد من دراسات علم الأعصاب، بداية بالتمييز بينها وبين الرغبة الجنسية.


مرآة الحب العمياء

تعرف «ستيفاني كاتشيبو» – أستاذة الطب النفسي وعلم الأعصاب بجامعة شيكاغو – بارتباط نشاطها البحثي بالحب الرومانسي، الذي شاركها في كثير من محطاته زوجها «جون كاتشيبو» عالم الأعصاب ومؤسس علم الأعصاب الاجتماعي.

توصلت كاتشيبو إلى أن الاختلاف بين الحب الرومانسي والاشتهاء الجنسي على المستوى العصبي يشير إلى ارتباط الاشتهاء بالحضور الجسدي مع نشاط مرتفع نسبيًّا في النزوع الانتقائي، بينما الحب أكثر تجريدًا وتعقيدًا وارتباطًا بالمخزون العاطفي المتراكم في الذاكرة. كما ترى كاتشيبو أن من أهم ما يميز الحب الرومانسي – الذي هو حالة ذهنية وعاطفية – هو الرغبة في البقاء مع الحبيب في المطلق، دون ارتباط بهدف محدد يطفئ تلك الرغبة ولو بصورة مؤقتة.

ترجع الرغبة الدائمة في الاجتماع بالحبيب إلى ما يثيره في النفس من نشوة ومتعة وحماسة ووفرة في الطاقة،نتيجة نشاط مركز اللذة بالدماغ واندفاع الدماء إليه لإفراز هرمون الدوبامين المحفز للسعادة بصور تشابه تأثير تعاطي مخدر الكوكايين، كذلك يحفز إفراز الأدرينالين خفقان القلب.

ناهيك بالتشابه في بعض أنشطة الدماغ بين المحب ومريض الوسواس القهري، الكفيل بخلق حالة إدمان الحبيب الرومانسية التي تخلب لب العشاق. كذلك يكفي مجرد التفكير في الحبيب لخفض الحساسية تجاه الألم المبرح بنسبة 12% والألم المعتدل بنسبة 45%.

للعلاقة الرومانسية طبيعة خاصة، هي تجربة شديدة الذاتية، لا يمكن فهمها من الخارج أو مناقشتها منطقيًّا، يصدق عليها التعبير الصوفي «من ذاق عرف». أو قل – مثلما قال الأقدمون – إن «مرآة الحب عمياء»، وليس تكرار ذلك المعنى – بالتعبير ذاته أحيانًا – في التراث الشعبي لدى الشعوب المختلفة محض صدفة، بل تلك حقيقة علمية.

بالفعل كشفت دراسات أجراها قسم التصوير العصبي بكلية لندن الجامعية أن الأجزاء المسئولة عن المشاعر السلبية والتقييم الاجتماعي يخفت نشاطها عند النظر إلى الحبيب، ويتشابه نشاط الدماغ إجمالًا – في التوهج والخفوت – بنشاطه عند نظر الأم إلى طفلها.

علاوة على ما سبق، لا يقتصر عمى المرآة على عيوب الحبيب، بل يشمل مزايا سائر البدلاء المحتملين من الجنس الآخر. توصل إلى ذلك فريق بحثي بجامعة ولاية فلوريدا،وجد أن أفراد عينة مارست نشاطًا تضمن تذكيرهم – بصورة غير مباشرة – بأحبائهم، كانت أذهانهم أقل تشتتًا عند عرض صور أفراد جذابين من الجنس الآخر.

علاوة على ذلك، طلب من نصف تلك العينة (ربع العينة الأصلية) كتابة فقرة عامة عن أحبائهم، وطلب من النصف الآخر الكتابة عن ذكرى سعيدة في المطلق، فانخفض تشتت النصف الأول بتلك الصور عن السابق إلى درجة مذهلة.


عودة البصيرة

بيد أن الدماغ البشري لا يستطيع احتمال تلك الحالة إلى الأبد. بمرور الوقت تعود المناطق الخاملة إلى النشاط، ينخفض نشاط المناطق المستثارة، يقل إفراز الدوبامين، فتنجلي المرآة العمياء تدريجيًّا، ونبصر صورة مختلفة لحبيب ربما كان ماثلًا أمامنا طيلة عامين أو ثلاثة مضت. في تلك المرحلة تنشب الخلافات وتبعث الروح الانتقادية وتفقد العلاقة طابعها السحري والملغز.

يحدث ذلك للجميع، لكنه أوضح في الوسط الفني الغربي، حيث النجوم الشباب من ذوي الدخول المرتفعة والتحرر الاجتماعي، الذين يخوضون سلسلة من العلاقات العاطفية قصيرة الأجل نسبيًّا، أكثرهم يسعون بصدق محموم نحو علاقة رومانسية أبدية الاتقاد.

إن لسان حالهم وأمثالهم يصرخ بلعنة «لاعب النرد»، للشاعر «محمود درويش»:

من سوء حظي أني نجوت مرارًا من الموت حبًّا، ومن حسن حظي أني ما زلت هشًّا لأدخل في التجربة. يقول المحبُّ المجرِّبُ في سره: هو الحبُّ كذبتنا الصادقة، فتسمعه العاشقة وتقول: هو الحبُّ، يأتي ويذهبُ كالبرق والصاعقة.

يهدر الكثيرون حياتهم في هذه الحلقة المفرغة، بمبدأ «لا أريد من الحب إلا البداية»، بينما تلك المرحلة الأقل إثارة هي في الواقع بمثابة جسر إلى حب حقيقي، علاقة رومانسية صادقة ودائمة. لكنها مرحلة انتقالية عصيبة لا شك، خاصة إذا كان الاختيار في الأصل قائمًا بدرجة كبيرة على نظرة مندفعة غير ناضجة، تغاضت عن جميع مؤشرات تنافر الطباع وانعدام التوافق الاجتماعي، حيث يمكن لبعض الوعي والنضج العاطفي أن يمدنا برسائل تحذيرية رغم الطبيعة الخادعة للتعلق الرومانسي في سكرته الأولى.

ولعل الرغبة في الاستمرار وتجاوز تلك العقبات قد لا تكفي حينها لبناء مستقبل سعيد. خاصة مع العبء العاطفي المزدوج في تلك المرحلة، إذ تنكشف مثالب الطرف الآخر بصورة صادمة من ناحيةـ، ونتعرض لانتقاد وإعادة تقييم لم نعهدها في ماضٍ غلب عليه الحب غير المشروط من الناحية الأخرى.

من الواضح أن تجاوز تلك المرحلة خيار فردي، يستلزم بذل الجهد، حتى في حالة شريك الحياة المناسب، بل المثالي أحيانًا، فغالبًا لن تدرك ذلك إلا بخوض التجربة الاختيارية. هذا ما توصلت إليه كاتشيبو وعايشته في علاقتها الزوجية الناجحة. هكذا، يمكن القول إن للعلاقة العاطفية المثالية ثلاث مراحل:

حب/ولَهْ شيق أعمى إلى حد كبير، ومرحلة انتقالية مجهدة وأقل إثارة، ثم حب حقيقي صادق يصمد في وجه الزمان. وخلافات المرحلة الانتقالية لا غنى عنها لبلوغ توافق أشد صدقًا وواقعية وعمقًا من التوافق القديم القائم على جهل بحقيقة الطرف الآخر. لكن المرحلة الأخيرة ليست كما قد نتصورها، ليست علاقة شراكة عقلانية جافة تخلو من نشوة وسحر الأيام الأولى إطلاقًا.

فقد خلصت كاتشيبو،وفريق بجامعة ستوني بروك، وغيرهما، إلى قدرة العلاقة الرومانسية طويلة الأمد على التمتع باللذة والإثارة الرومانسية القديمةـ، حتى على مستوى الممارسة الجنسية رغم مرور الزمان. وتنشط مناطق دماغية مختلفة، أكثر عمقًا وتعقيدًا، تمنح إلى جانب السعادة شعورًا بالأمن والطمأنينة، والثقة في العلاقة بعدما أدركنا أن العلاقة قد استمرت رغم اكتشاف الحبيب لخصالنا وحقيقة ما فينا، أو قل – حينئذ – إنها استمرت بفضل خصالنا وحقيقة ما فينا، تلك صيغة أكثر صدقًا، إلى جانب الأثر الإيجابي للعلاقة العاطفية الممتدة على صحتنا الجسدية والنفسية وأدائنا المهني.

إذن، يتطلب بلوغ حالة حب حقيقية وصادقة وناجحة منا السقوط في أسر الحب مرتين، أولاهما جبرًا والأخرى طواعية. ومن الواضح أنها غاية تستحق ذلك الجهد حقًّا.