TICKLING GIANTS Trailer

«هل لديك الشجاعة الكافية لقول نكتة؟»

يبدو أن هذا هو السؤال المناسب لوصف الوضع في مصر في الوقت الحالي، لا حياة سياسية أو حزبية يمكن أن تظهر في الأفق في ظل الوضع الحالي، لا مكان أيضًا لأي معارضة حقيقية من أي نوع في ظل مجال عام لا يأمن فيه المواطنون على حياتهم، إما بسبب استبداد دولتي أو تفجيرات إرهابية.

وبناء على كل هذا لم يبقَ مجال لشباب يناير إلا سرد النكات ونشر «الكوميكس» على وسائل التواصل الاجتماعي. السخرية أصبحت منتجًا رائجًا جدًا في لحظات الهزيمة وانعدام الأمل، ولكنها لم تكن مجرد وسيلة للهروب الافتراضي من واقعنا، كانت أقوى وأشد تأثيرًا من ذلك، حتى أننا في بعض اللحظات كنا نشعر أنها قادرة على هز عروش الحكام وإسقاطهم.

كان باسم يوسف هو المسئول الأول عن هذا الشعور. منذ بداية ظهوره عقب يناير ومن خلال مقاطع قصيرة على اليوتيوب وحتى تقديمه للبرنامج السياسي الساخر الأول في تاريخ مصر، برنامج «البرنامج»، بأكثر من 30 مليون مشاهد في كل حلقة، امتلك باسم قوة هائلة جعلته رقمًا مهمًا في معادلة الصراع على السلطة في مصر، اعتبره ثوار يناير متحدثا باسمهم في عصر المجلس العسكري، كان رأس حربة المعارضة إعلاميًا في عهد محمد مرسي، وحينما حاول تكرار ذلك في عهد السيسي انتهت الحكاية.

بهذا السؤال أيضًا يستقبل الموقع الخاص بفيلم «Tickling Giants» زواره، الفيلم الذي يدور حول حكاية باسم يوسف الساخر السياسي الأنجح في تاريخ مصر، حول «البرنامج»، الثورة والثورة المضادة، مصر التي كنا نحلم بها ومصر التي أصبحنا نتمنى الهرب منها، وحول باسم يوسف، الطبيب الذي ترك مهنته ليصبح مقدم برنامج ساخر، الساخر الذي استطاع في لحظة ما أن يصبح بين أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم، والرجل الذي ترك وطنه مهاجرًا مدفوعًا بتظاهرات مواطنين شرفاء مدفوعين من السلطة يتهمونه بالخيانة ويطالبون بإعدامه.


بداية تحمل حنينًا قديمًا

باسم يوسف في شارع محمد محمود

يسرد الفيلم الحكاية بترتيبها الزمني، من البداية، من يناير، من التظاهرات ضد مبارك والتغطية الإعلامية التليفزيونية لها، التغطية التي حاولت اتهام المتظاهرين بالعمالة أحيانًا، ومحاولة إرهابهم في أحيان أخرى. وحينها يقرر باسم يوسف، بالاشتراك مع صديقه طارق القزاز مالك شركة Qsoft للمحتوى الفني، أن يقدما مقاطع على يوتيوب لفضح هذه التغطية والسخرية منها.

ينجح المحتوى بشكل يفوق التوقعات، وبعد أقل من عام ينتقل «باسم» لتقديم الموسم الأول من برنامجه «البرنامج» على قناة «أون تي في». يشكل هذا الموسم الفترة التي كان باسم فيها أقرب للمحتوى الذي قدمه على يوتيوب، حينما كان يسجل مقاطع الفيديو من غرفة الغسيل في منزله.

كانت حلقات البرنامج ذات مدة زمنية قصيرة، كما كان محتواها أقرب للحديث باسم ثوار يناير. وفي أحد أفضل مشاهد الفيلم يعاد عرض جزء من حلقة البرنامج التي صورها باسم من شارع محمد محمود أثناء الاشتباكات التي حدثت في نهاية عام الثورة الأول، باسم يتنقل برفقة الكاميرا ليحاول نقل الصورة الحقيقية لما يحدث، يسخر من اتهام المتظاهرين بالعمالة، يقاطعه أحد الأطباء الميدانيين وتتوقف الضحكات حينما يخبره بأن أحد المصابين قد توفي بين يديه.

البداية لم تحمل جديدًا إذًا، حملت فقط حنينًا قديمًا. اقتبست المخرجة «سارة تاكسلر» من مقاطع البرنامج في موسمه الأول، وجعلت من مقطع «محمد محمود» محورًا للثلث الأول من الفيلم، وأضافت له قصة ترك باسم لعمله كجراح قلب والتي تم تصويرها بالطبع في زمن لاحق لحدوثها.

ندرك ذلك لأن «تاكسلر» قررت أن تصنع هذا الفيلم حينما قابلت باسم أثناء زيارته لإستديو the daily show، البرنامج الخاص بالساخر الأمريكي «جون ستيورات» في ذلك الوقت، والذي أثر كثيرًا في رؤية باسم للسخرية السياسية لدرجة جعلته يُعرف في الأوساط الأمريكية باسم «جون ستيوارت المصري».

هذا اللقاء جعل «تاكسلر» التي تعمل كمنتجة فنية في the daily show ترغب بصناعة هذا الفيلم، وعليه جعلت «تاكسلر» من هذه اللحظة لحظة تنتقل فيها الحكاية لطريق آخر.


كيف أصبح البرنامج مشاركًا في حكم مصر؟

باسم يوسف في لقطة من برنامجه

ينتقل الفيلم بعد هذا لسرد قصة صعود «البرنامج» لمسرح كبير يشغله جمهور حي، وتحوله للبرنامج التليفزيوني الأنجح في تاريخ الإعلام المصري. أكثر من 30 مليون مصري تابعوا كل حلقة من حلقات البرنامج بشكله الجديد، هذه المعلومة تتكرر أكثر من مرة في أحداث الفيلم.

تحاول تاكسلر هنا بناء القصة على ثلاثة عناصر؛ أولاً مقاطع من حلقات البرنامج نرى فيها سخرية متكررة من رئيس الجمهورية في ذلك التوقيت «محمد مرسي»، ومقاطع مصاحبة لذلك توضح كم التطرف الذي كانت تبثه القنوات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في ذلك التوقيت.

ثانيًا: ردود أفعال المشاهدين في المسرح والمنازل وحتى المقاهي، الجميع كان في انتظار حلقة البرنامج الجديدة، وصولاً للتحقيق مع باسم يوسف في الاتهام الموجه إليه بإهانة رئيس الجمهورية، وأخيرًا الأجواء الخاصة بفريق عمل البرنامج. والأكيد أن هذا العنصر هو أهم ما أضافه الفيلم للمشاهد المصري. نحن نعلم كل شيء عن الحكاية ولكننا لم نكن نعرف ما وراء الحكاية.

ينقلنا الفيلم لنصبح وسط مجموعة الشباب الذين أنتجوا المحتوى الذي أخرجه لنا باسم على الشاشة، مجموعة من الشباب والفتيات المصريين الذين امتكلوا قوة غير مسبوقة للتأثير على مجريات الأحداث في مجتمع غير مستقر، مجتمع كان في أشد حالات الاستقطاب.

وبين لحظة وأخرى تنتقل أحداث الفيلم لرسوم كاريكاتيرية متحركة تشرح الأجواء المصرية المعقدة للمشاهد الغربي، قام بهذه الرسوم ساخر مصري آخرى هو «محمد أنديل»، الذي ألهم مخرجة الفيلم بتسميته بهذا الاسم «دغدغة العمالقة» حينما رسم باسم وهو يحمل ريشة طائر بين يديه ويحاول دغدغة قدم عملاقة تعبر عن المستبدين العمالقة الذين يتصارعون على حكم مصر.

تنتقل الأحداث بشكل متسارع لتعرض الإطاحة بمحمد مرسي من الحكم من خلال تدخل عسكرى سبقته تظاهرات 30 يونيو، ليعود البرنامج مرة أخرى بعد فترة توقف نتابع فيها جوًا من التوتر بين فريق العمل وسؤالاً متكررًا حول صلاحية السخرية للتعامل مع أحداث حزينة ودامية تعرض لها معارضو التدخل العسكري للإطاحة برئيس منتخب.


لا وقت للسخرية في زمن الدبابات

يعود «البرنامج» في النهاية ليتم وقفه على فضائية CBC بعد عرض حلقته الأولى، ولمجرد التعرض لذكر الاحتفاء المبالغ فيه بعبد الفتاح السيسي وزير الحربية في ذلك الوقت.

شهدت هذه الحلقة -التي تم عرضها بعد مرور عدة أشهر على الإطاحة بمرسي وفض اعتصام رابعة-استعراضًا ساخرًا انتهى بتكرار «شادي ألفونس» أحد مقدمي البرنامج برفقة باسم لجملة «وعشان كدة حصل انقلاب»، وحينها يكمم باسم وبقية مقدمي البرنامج فمه ويتهمونه بالانتماء للإخوان، وحينها يرد ألفونس «أنا مسيحي»، في إشارة لأجواء التخوين التي سادت مصر في هذا التوقيت واتهام أي معارض بالانتماء للإخوان.

الغريب أن هذه الحلقة قد تسببت بموجة غضب عارمة من كلا الجانبين. فعلى جانب غضب الكثير من المنتمين لتيار الإسلام السياسي من باسم وفريق عمل البرنامج حيث اتهموه بالسخرية من الدماء التي سالت عقب التدخل العسكري.

ومن جانب آخر حاصر متظاهرون مدفوعون من الدولة مسرح البرنامج ليتهموا باسم يوسف بالإساءة لرموز الدولة والسخرية من قائد الجيش، ليطالبوا في النهاية بإعدام باسم. انتهت حكاية الموسم الثاني ببيان CBC الذي أذاعه «خيري رمضان» وأعلن فيه وقف عرض البرنامج.

يعود البرنامج مرة أخرى في موسمه الثالث على MBC MASR ليحاول السخرية في عصر مخيف لم يكن مسموحًا فيه بذكر قائد الجيش الذي تحول لرئيس بأي شكل سلبي. نتابع محاصرة «المواطنين الشرفاء» لمسرح البرنامج، تخوف باسم وفريق عمله من المغادرة، اعتقال والد المنتج الفني للبرنامج طارق القزاز.

وأخيرًا قرار باسم بإنهاء البرنامج والرحيل مهاجرًا لأمريكا، خاصة بعد حكم المحكمة لصالح CBC بتعويض تجاوز المائة مليون جنيه. لم يذكر الفيلم أن هذا التعويض أتى بتدخل السلطة ولكن الأجواء المخيفة كانت تكفي، تكفي حتى لتبرر خوف باسم بعد ذلك من العودة حينما توفي والده فلم يستطع حضور عزائه في مصر.


قصة السخرية المصرية بعيون أمريكية

bassem youssef 2

يقدم البرنامج إذًا قصة تستحق أن تُروى عن برنامج السخرية السياسية الأول في تاريخ الإعلام المصري، والأخير بفضل نظام الحكم الحالي. كانت تجربة باسم مؤثرة للغاية ومليئة بالتفاصيل، تجربة أولى للسخرية السياسية المصرية تحمل لقطات مبهرة ولحظات خاطئة بالتأكيد.

قُدمت هذه القصة بعيون المخرجة الأمريكية سارة تاكسلر، قُدمت بالإنجليزية وفي إطار موجه بالأساس للمواطن الأمريكي. الفيلم يُعرض حاليًا في السينمات الأمريكية وفي بعض المدن الأوربية ولم يتح للمصريين مشاهدته إلا مؤخرًا على موقع Netflix.

ربما نستطيع يومًا ما تكرار التجربة، وربما يستطيع باسم وفريقه يومًا ما سرد التجربة بتفاصيل أكثر ونقاشات أهم، لن يمكن روايتها إلا بالعربية، وباللهجة المصرية خصوصًا.