من أعظم ما يُجهِد المتدين التقليدي في عالم اليوم، وبالأمس القريب، محاولته المستمرة لعيش تجربة دينية تكون متسقة تمام الاتساق مع العالم المادي بقوانينه واكتشافاته وأدواته ونظرياته العلمية المتغيرة، ومع العالم الروحاني وسردياته والتجربة الدينية العميقة، في وقت واحد.

هذه هي المشكلة الروحانية العظمى في العالم الحديث، في رأي «ولتر تيرنس ستيس»، التربوي والفيلسوف الإنجليزي الهام. ولعل هذا من أهم أسباب تأليفه كتاب «الزمان والأزل»، المنشور عام 1952. وقد صدرت الترجمة العربية عام 2013، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب،بترجمة الدكتور زكريا إبراهيم، ومراجعة وتقديم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني.

لقد عايش الكاتب – صاحب التجربة الدينية والاشتغال الفلسفي التجريبي – جدالاً حامياً، نتج عن الـ «تعارض بين بعض المكتشفات العلمية وبعض المعتقدات الدينية، مثل التعارض القائم بين نظرية التطور والقول بـالخلق الخاص للإنسان، أو التناقض القائم بين علم طبقات الأرض والفصول الأولى من سفر التكوين».

وانطلاقاً من خلفيته العلمية، وتأثره بالتصوف المسيحي والبوذي – الذي ظهر بقوة في الأمثلة والأدلة التي استعان بها للتأكيد على صحة آرائه – قدم ستيس صياغة مختلفة لأحد الحلول التوفيقية الرئيسية التي تلقى تأييداً مستمراً في الغرب.


من هو ولتر ستيس؟

ولتر تيرنس ستيس (1886-1967)، تربوي وفيلسوف إنجليزي. ولد في لندن، لأسرة عسكرية، لكنه خاض تجربة إيمانية خاصة، دفعته إلى دراسة تاريخ الكنيسة الأنجليكانية، بكلية الثالوث بمدينة دبلن. خلال هذه الفترة، تعرف ستيس على الفلسفة الهيجلية وأولع بها، ليتخرج أخيراً في كلية الفلسفة عام 1908.

بعد التخرج، دفعته العائلة إلى التطوع في الخدمة المدنية بمستعمرة سيلان البريطانية -قبل الاستقلال والتي تُسمى حالياً «سريلانكا»– حيث قضى أكثر من عقدين من الزمان.

كان ستيس مجتهداً ومتميزاً في كافة المناصب التي تولاها والمجالات التي تخصص فيها. وكفل له ذلك الانخراط في السلك الأكاديمي، عقب تقاعده، في جامعات بريطانيا، ومنها إلى جامعات الولايات المتحدة، قبل وفاته بمنزله بولاية كاليفورنيا، في الثاني من أغسطس/آب، عام 1967.

في أثناء تدريس ستيس للفلسفة بجامعة برينستون الأمريكية، في الخمسينيات والستينيات، وبعد تأليفه لعدد من الكتابات في الفلسفة الظاهراتية والمذهب الطبيعي، بدأ ستيس الكتابة عن فلسفة الأديان. فقدم عدداً من الكتب الهامة. منها «الدين والعقل الحديث»، و«التصوف والفلسفة».


ماهية الدين

في مقدمة الكتاب، يحدد المؤلف هدفه قائلاً:

لئن يكن هذا الكتاب محاولة أريد بها إبراز الطبيعة الأساسية للدين، إلا أنه في الوقت نفسه دراسة ترمي إلى معالجة المشكلة الروحية الكبرى للعالم الحديث، ألا وهي: مشكلة الصراع بين الدين من جهة وفلسفة المذهب الطبيعي المُتضمَنة في العلم من جهة أخرى.

حرص الكاتب على البدء بالحديث عن ماهية الدين. مؤكداً بشدة على الاختلاف التام بين التجربة العلمية والحسية في جهة، والتجربة الدينية في الجهة الأخرى.

فالإله ذاته -عند ستيس- إما أن يكون لغزا أو لا يكون على الإطلاق. أو كما قال في موضع آخر:

إن طلب دليل على وجود الإله لا يختلف شيئاً عن طلب دليل على وجود الجمال. فكما أنك لن تجد الإله عند نهاية مدى التليسكوب، فلن تجده أيضاً في آخر القياس المنطقي. إنها رؤية ثنائية تامة للوجود، تفرق بين الإله وعالم المثل، والطبيعة وقوانينها. كلاهما حق، الإله حق، والعلم الطبيعي حق، لكن لكل منهما مجاله المستقل.
اقرأ أيضا: العلم والدين: أين يقع الصدام؟

الألوهية السلبية

يأخذنا ستيس إلى مفهوم الألوهية السلبية، بمعنى استحالة حمل الصفات على الإله، بما فيها صفة الوجود. فالإله هو اللاوجود، والعدم، والصمت، والفراغ.

ثم يُدلل على حضور هذا التصور التجريدي في جميع الديانات الكبرى، داعماً رأيه بنصوص مقدسة ونقولات عن شخصيات دينية بارزة في المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية. كما يرى أن الإسلام حوى هذا المفهوم في صورة إشارات أقل وضوحاً. صحيح أن الإسلام يتميز بحضور بارز للألوهية الموجبة، فيوصف الإله بأنه وجود مطلق أو كينونة خالصة، إلا أن التصور السلبي كامن مستتر، ويستدل في ذلك بأقوال لابن عربي.

لكن هذا ينتهي بنا إلى إشكالية. فمع التسليم بحضور الألوهية السلبية في الأديان الكبرى، ما العمل مع الألوهية الموجبة المهيمنة على مساحة كبيرة من النصوص والفلسفات؟

يناقش ستيس هذه الصفات الموجبة المنسوبة إلى الإله، من كونه روحاً، أو عقلاً، أو حقاً، أو جمالاً، أو رحمةً، إلخ. ويلفت النظر إلى أنها لا تعدو كونها تصورات، كيف تصدق على إله لا صفة له، إله فوق التصورات، بما فيها الوجود ذاته؟

هنا، يبدأ الكاتب في الحديث عن الاستخدام الرمزي للصفات الإيجابية. فهي محفزات للحدس الديني، لا تتعداه. أي أن «اللغة الدينية اللاهوتية بأسرها لغة رمزية»، «لأن المرموز إليه ليس قضية يُخبر بها عن الله، بل هو الإدراك المباشر لله أو للحضرة الإلهية في صميم الحدس الديني أو الصوفي».

أما بخصوص هذا الحدس، فقد أكد الكاتب على توفره لدى كل البشر، وإن كان بدرجات متفاوتة. لكن تبقى التجربة الدينية/ الصوفية الصادقة هي جوهر الدين، لا الإيمان ذاته. كما أكد أن هذا الحدس هو أساس جميع الفلسفات والتجارب الدينية. فالأديان تختلف في قضايا عامة وتفاصيل عدة، وتبقى روح التجربة الدينية واحدة بين البشر.

كما نبّه ستيس على ضرورة التمييز بين مستويين للوجود، الزمان والأزل. فالزمان هو النظام الطبيعي المادي، المُدرَك بالحواس والمنطق. بينما الأزل هو عالم الغيب، الذي لا سبيل إليه إلا بالحدس المباشر والتجربة الدينية.

بعدها، تحدث ستيس عن حجج الزاعمين بزيف العالم، بمعنى كونه وهماً محضاً، لينتهي إلى الحكم عليها بالتناقض، واعتلال المنطق. وعذا ذلك إلى عجز أصحابها عن التفرقة بين مستويي الوجود. فجذور هذه النزعة وأصولها نبتت في لحظات التجارب الصوفية، التي لا يكون فيها وجود لشيء ولا حقيقة إلا الحضور الإلهي. لكن هذا الزعم لا يختلف كثيرا مع الدعاوى الإلحادية، التي تنكر عالم الأزل استناداً إلى تجربتها في عالم الزمان.

لكن كيف السبيل إلى معرفة الإله، العقل أم الإيمان؟

يحيب ستيس بالإيمان، مع التنبيه على أن هذا لا يعني التصديق الأعمى «بالقضايا التي تتعارض مع كل برهان». فحينها يتحول الدين إلى خرافة، بل يتعين على العقل ساعتها تفسير الرموز، والتحقق من عدم تعارضها، وقابليتها للاندماج في نسق منظم متسق. فدور العقل ينحصر في تحليل المعارف المكتسبة من التجربة الدينية والحدس وتأويلها، لا غير.

ويبقى الاستعمال الرمزي في النص الديني، بالتفصيل والتقعيد الجديد الذي قدمه ستيس، من أهم ما في الكتاب. حتى جاء في المقدمة أن:

الفكرة الأساسية التي يحاول هذا الحل إيضاحها بطريقة قد تكون جديدة بعض الشيء، هي الفكرة القائلة بأن التفكير الديني كله وكذلك اللغة الدينية بأسرها يسودهما من أولهما إلى آخرهما الطابع الرمزي.