الحلقات السابقة

لقد رأينا في المقال السالف، كيف اختلفت نظرة أهل الجرح والتعديل وبعض المؤرخين المتأخرين لرواة الأخبار الأولين؛ فمنهم من تشدَّد في قَبُول الرواية من الأخباري كتشدُّدِه في راوي الحديث؛ وهؤلاء يَرَوْنَ الأخباريين ضعاف العقول، سراع التصديق، من حيث قبول الخبر على علاَّته ووهنه، ومن هؤلاء المتشديين الكافيَجي [1] (ت879هـ) الذي يقول:

||ينبغي أن يُشترط في المؤرخ ما يُشترط في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة||[2]

بيد أنّه أنه عند المقارنة اليسيرة بين علم التاريخ وعلم الحديث نجد أنه من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية؛ لأن الأخبار التاريخية لا تصل في ثبوتها، وعدالة رواتها، واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية، إلا فيما يتعلَّق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة مما تأَكَّدت صحَّته عن طريق مصنفات السُّنَّة، أما أكثر هذه المرويات فمحمول على الأخباريين بأسانيد منقطعة، يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون [3].

ولقد فطن كثير من علماء المسلمين لهذا الفرق الواضح، لكنهم جعلوا قبول المرويات بحسب أهميتها، فإذا كان المروي يتعلَّق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) أو بأحد من الصحابة (رضي الله عنهم) فإنه يجب التدقيق في رواة الخبر ونقدهم، “أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلَّق بشيء من ذلك، فإنه وإن كان الواجب التثبُّت في الكل إلا أنه يُتساهل فيه (الإسناد)[4].

وممن تساهل في قبول مرويات المؤرخين وتشدَّد في قبول الرواية من رواة الأحاديث نجد الإمام ابن حجر العسقلاني [5]، ففي الوقت الذي يُقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا (عنعن) ولم يُصرِّح بالتحديث، ويرفض رواية الواقدي؛ لأنه متروك عند جمهور علماء الجرح والتعديل، وبعض روايات المدائني؛ لأنه ليس بالقوي.. وغير هؤلاء من الأخباريين، إلا أننا نجده يستشهد برواياتهم في شرحه للأحاديث الصحيحة، ويستدلُّ بها على بعض التفصيلات المكملة للحدث التاريخي، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الصحيحة الأوثق منها سندًا، فقد ذكر ابن حجر في فتح الباري في كتاب المغازي عدد غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها قتال، فنراه يستشهد بأقوال أهل السير والمغازي مثل: ابن إسحاق، وموسى بن عقبة [6]، والواقدي، وابن سعد [7]، والمسعودي [8]، وسمَّاهم أهل المغازي، وذكر خلافهم، وجمع بين أقوالهم، وأقوال من هم أوثق منهم من رواة الصحيح، وفعل عند حديثه عن عدد أهل بَدْر، وأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها، وأخبارها [9].

وما فعله الإمام ابن حجر وغيره من علماء المسلمين ومحدِّثيهم في قبول كثير من الروايات التاريخية من الأخباريين والمؤرخين، يُدلل على المكانة المرموقة التي كانت لهؤلاء الأخباريين، فعالم السنة الإمام البخاري يعمدُ إلى أقوال أهل المغازي والسير، فيقبل كثيرًا منها في كتاب المغازي من كتابه (الجامع الصحيح)، فأول ما يجده القارئ في بداية كتاب المغازي:

||قال ابن إسحاق: أول ما غزا النبي (صلى الله عليه وسلم) الأبواء ثم بواط ثم العشيرة||[10]

مما يُدلل على الاعتراف بتخصص هؤلاء الأعلام في مجال الأخبار، ويذكر ابن سيد الناس [11] أن الإمام مالك لما سُئل عن المرأة التي سمَّت النبي (صلى الله عليه وسلم) بخيبر ما فعل بها، فإنه قال:

||ليس عندي بها علم، وسأسأل أهل العلم. قال: فلقي الواقدي، فقال: يا أبا عبد الله، ما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمرأة التي سمَّته بخيبر؟ فقال: الذي عندنا أنه قتلها. فقال مالك: قد سألتُ أهل العلم فأخبروني أنه قتلها||[12]

وقد يرجع السبب في استشهاد المحدثين بروايات المؤرخين الأول “الأخباريين” واعتمادها إلى التفرقة بين شروط راوي الحديث والمؤرخ، وإلى موضوع الرواية؛ فإن تعلَّق بأمر تشريعي فلا يُؤخذ إلا عن العدول الضابطين، أما إذا تعلَّق بأخبار أخرى فيمكن النظر إلى ما برع فيه الراوي، بشرط أن يُسَمِّي المؤرخُ المصدرَ الذي نقل عنه معلوماته؛ وبذلك تَتَّضح مصادره وتُعرف؛ حَتَّى يمكن الحكم من خلالها على دقة معلوماته.

على أنّ الدكتور شاكر مصطفى رحمه الله، وهو أحد أهم من كتبوا في منهجية وتطور “علم” التاريخ الإسلامي، يؤكّد بلا تردد أن الظنّ بأن البدء في العلوم الإسلامية كالحديث والتاريخ والعلوم الأخرى كان بالرواية الشفهية، وأن هذه الروايات لم تكن تُكتب هو وهم علمي شائع، والسبب في هذا الوهم – كما يُقرر – هو الخلط بين ثلاث عمليات متتالية كانت تمرّ بها المعلومات والمعارف التي يتداولها الناس وتشكل بالتدريح تراثهم الثقافي، والتحليل هو الذي يكشف عنها من خلال ثلاث عمليات:

الأولى: عملية استماع الشهادة من الشهود المباشرين للحدث التاريخي، وهي عملية شفهية خالصة كانت تتم بشكل مباشر بين الشاهد “المصدر الأولي والأساسي للمعلومات”، وبين جامع تلك المعلومات من الأفواه.

الثاني: عملية حفظ المعلومات، ولم تكن تتم عن طريق الذاكرة، ولا بها وحدها أبدًا، ولكن تتم في الكثرة الساحقة من الأحوال بالتسجيل والتدوين الكتابي الشخصي، وهذه العملية كانت تجري باستمرار منذ عهد الرسالة نفسه.

الثالث: عملية نقل المعلومات إلى الآخرين، وهي بدورها عملية شفهية؛ فرغبة العلماء من أهل الحديث في التوثيق ومنع الدسّ والتحريف والزيف، كانت تدفعهم إلى أن لا يعتبروا “المعلومات” جديرة بالثقة ما لم تأت بالنقل المباشر والسماع الشخصي عن أصحابها العارفين بها، والحافظين لها، وهذا ما كان يُؤخّر الصحف المكتوبة إلى مستوى الاهتمام الثانوي، ويدفع من جديد بالرواية الشفهية إلى مستوى الاهتمام الأول.

ويقرر الدكتور شاكر أن الباحثين خاصة المحدثين منهم قد فاتهم في تلك العمليات الثلاث وجود العملية الثانية أو الوسطى المتعلّقة بالتدوين، فإذا “عمِلَت أبحاث غروهمان في أوراق البردي الإسلامية على إثبات وجود الوثائق من العهد الأموي في خلفيات وفي جذور ونصوص الروايات – أي المدوّنات التاريخية الأولى، وهي نصوص لا يمكن ضبطها الدقيق إلا بالتدوين، فقد عملت أبحاث شبرنجر ودراساته (للإسناد) التي أوردتها المؤلفات التاريخية المتأخرة كمصادر لمعروماتها على إيضاح الحقيقة من هذه الناحية أيضًا؛ إذ أثبتت وجود صحف ونصوص مكتوبة بين أيدي الرواة الأول، وتقاطعت مع هذه النتائج بعد ذلك الأبحاث التي قدّمها هوروفيتش حول أقدم كتب السيرة ومؤلفيها، والتي بيّنت أن الكتب التي وصلتنا إنّما تضم في حناياها كتبًا أخرى سبقتها بعد كتب[13].

وما قرّره الدكتور شاكر يؤكده العلاّمة فؤاد سزكين في مجموعه العظيم “تاريخ التراث الإسلامي” إذ يُؤكد “أنّ دراسات جولدتسيهر في علم الحديث قد تأثّرت أساسًا بأبحاث شبرنجر في هذا المجال، ويرى جولدتسيهر أن شبرنجر قد قضى على المعتقدات الخرافية الزاعمة أن كُتب الحديث قد قامت على مصادر شفوية … وعلى أساس المعلومات التي أثبتها شبرنجر في المصادر، اعتبر جولدتسيهر كتابة الحديث في صحف أو أجزاء حقيقة واقعة في العقود الأولى للإسلام[14].

ويتّفق سزكين مع هذا الكشف التي توصّل له كل من شبرنجر وجولدتسيهر، فيؤكد على أن تطور كُتب الحديث كان وفق ما يلي:

  1. كتابة الحديث؛ وقد سُجّلت الأحاديث في عصر الصحابة وأوائل التابعين في كراريس صغيرة، أطلق على الواحد منها اسم “صحيفة” أو “جزء”.
  2. تدوين الحديث؛ جُمعت الكتابات المتفرّقة في الربع الأخير من القرن الأول، والربع الأول من القرن الثاني الهجري.
  3. تصنيف الحديث، وقد رُتّبت الأحاديث في هذه المرحلة وفق مضمونها في أبواب منذ سنة 125هـ تقريبًا [15].

فإذا كان مفهوم “الرواية” الأولى، بهذا المعنى الذي كشفه علماء على قدر كبير من الرسوخ من أمثال شاكر وسزكين، وبعض كبار المستشرقين مثل شبرنجر وهورفيتش وجروهمان، يُعدّ فهمًا جديدًا ومغايرًا للمعنى المتعارف عليه من الشفوية المطلقة آنذاك، فإننا نفهم لماذا قَبِل المحدّثون الرواية التاريخية في قرنها الهجري الأول من الأخباريين الذين سمعوها من شهود العيان وبسلسة سند منقطعة أو بها بعض المجاهيل؛ إذ إن هؤلاء من المرجّح أنهم دوّنوا هذه الأحداث، وتناقلوها، فقبلها منهم المحدّثون بسبب هذا التدوين، ولا شك أنهم رفضوا روايات أخرى من رواة وأخباريين اتصفوا بالتحيز والكذب والوضع، حيث كانوا يملكون الأدوات والمعارف النقدية التي تؤهلهم لكشف زيف هؤلاء الأخباريين وطرق خداعهم، وليس ثمة شك في أن العقلية النقدية لرجال الحديث، قد ساعدت فيما بعد على تطور الكتابة التاريخية وعلم التاريخ الإسلامي، حتى إنّ هذه الكتابة قد تميّزت وتلوّنت بالأمصار والأماكن التي نشأت ودوّنت فيها، فرأينا المدرسة العراقية والحجازية والمصرية والشامية والفارسية واليمنية وكل منها له ما يميزه ويسمه عن غيره بسمات الزمان والمكان والأحداث والشخوص، وهذا ما سنقف معه في سلسلة قادمة إن شاء الله عن تاريخ المدارس التاريخية في الإسلام!


[1] الكافيجي: (788-879هـ=1386-1474م) محيي الدين، محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود، الرومي، الكافيجي: فقيه، أصولي، محدِّث، نحوي، اشتهر بمصر، ولازمه السيوطي، وسمي بالكافيجي لكثرة اشتغاله بكتاب الكافية في النحو، من تصانيفه الكثيرة: شرح قواعد الإعراب لابن هشام، وجيز النظام في إظهار موارد الأحكام. انظر: السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1/ 549، 550، وعمر كحالة: معجم المؤلفين 10/ 51، والزركلي: الأعلام 6/ 150.

[2] الكافيجي: المختصر في علم التاريخ ص336.

[3] محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ص19.

[4] ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/ 273.

[5] ابن حجر العسقلاني: هو أبو الفضل، أحمد بن علي بن محمد، الكناني، (773-852هـ=1372-1449م): من أئمة العلم والتاريخ، مولده بعسقلان ووفاته بالقاهرة. من كتبه: فتح الباري. انظر: ابن العماد: شذرات الذهب 7/ 270-273.

[6] موسى بن عقبة: هو أبو محمد، موسى بن عقبة بن أبي عياش، مولى آل الزبير (ت 141هـ)، من أهل المدينة. أدرك ابن عمر ورأى سهل بن سعد. كان ثقة ثبتًا كثير الحديث. من تصانيفه: كتاب المغازي. انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب 10/ 360، والزركلي: الأعلام 8/ 276.

[7] ابن سعد: هو أبو عبد الله، محمد بن سعد بن منيع، الزهري (168-230هـ=784-845م): مؤرخ ثقة، من حفّاظ الحديث، ولد في البصرة، وتوفي ببغداد، من أشهر كتبه: الطبقات الكبرى. انظر: ابن عساكر: تاريخ بغداد 5/ 321، وابن حجر: تهذيب التهذيب 9/ 161.

[8] المسعودي: هو أبو الحسن، علي بن الحسين بن علي، (ت 346هـ=957م): مؤرخ، رحالة، من أهل بغداد، أقام بمصر وتوفي فيها. من تصانيفه: مروج الذهب. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 21/ 6، 7، والزركلي: الأعلام 4/ 277.

[9] ابن حجر: فتح الباري 7/ 163.

[10] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة العشيرة أو العسيرة 3/ 1435.

[11] ابن سيد الناس: هو أبو الفتح، محمد بن أبي عمرو، الأندلسي، الشهير بابن سيد الناس (661-734هـ)، كان صدوقًا في الحديث، حجة فيما ينقله، له بصر نافذ بالفن، وخبرة بالرجال وطبقاتهم، من مؤلفاته: بشرى اللبيب بذكر الحبيب. انظر: ابن تغري بردي النجوم الزاهرة 9/ 303، والصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 289، وابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 208، والزركلي: الأعلام 7/ 263.

[12] ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير 1/ 28.

[13] شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون 1/ 74 – 78. دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة – بيروت، 1983م.

[14] سزكين: تاريخ التراث الإسلامي، ترجمة محمود فهمي حجازي 1/ 117، 118. منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض، 1991م.

[15] سزكين: تاريخ التراث الإسلامي 1/ 119.


اقرأ المزيد:

رمضان في العصر العثماني.. روحانيات ومباهج

رحلة ابن فضلان