عرفت الحضارة العربية الإسلامية ظهور الآلاف من الكتب والمصنفات التي تم تدوينها على مدار القرون السالفة، الأمر الذي أسهم- بقوة- في تشكيل ثقافة متميزة، متعددة المشارب، متباينة الآراء والتوجهات.

على الرغم من تقبل الثقافة الإسلامية للأغلبية الغالبة من الكتب بغض النظر عن أفكارها التي تتعارض كثيرًا مع القيم والأعراف المجتمعية السائدة، فإن البعض منها لاقى معارضةً شديدة من جانب عدد من التيارات الفكرية المحافظة، تلك التي تنتهج المنهج السلفي الأثري.

من المهم هنا أن نلتفت إلى أن التيار السلفي الأثري الذي نتحدث عنه، لا ينحصر في ذلك الخط الديني المعاصر المعروف بالاسم نفسه، ولكننا نقصد هنا طيفًا واسعًا من علماء أهل السنة والجماعة الذين حظوا بمكانة معتبرة داخل المذهب، بسبب إسهاماتهم الفقهية والفكرية من جهة، أو لمواقفهم المؤيدة للرؤية التاريخية التي اتفق عليها السواد الأعظم من أهل السنة من جهة أخرى.

على سبيل المثال، عُرف أبو بكر الطرطوشي بتشدده في إنكار مظاهر البدع في عصره، وكتب في ذلك كتابًا مهمًا، أما أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، فنجده ورغم مخالفته للحنابلة في العقائد، فإنه يوافقهم في الفروع والفقه، الأمر ذاته ينطبق على كل من ابن العربي وابن خلدون المالكيين، اللذين التزما بمنهجية ثابتة في الدفاع عن الصحابة، وتبنيا موقفًا حازمًا فيما يخص روايات الفتنة الكبرى والصراع بين الصحابة.

الباحث المتمعن سيجد أن معظم الكتابات المحرمة والممنوعة في الثقافة السلفية، إما أنها تندرج ضمن المؤلفات الصوفية التي تعتمد على التأويل الباطني، أو أنها تلك التي اعتادت أن تقدم سردية تاريخية مخالفة للسردية السنية التقليدية، فيما رفُضت بعض الكتب لتعمقها في وصف الترف الاجتماعي الذي عاشت فيه الطبقة الحاكمة في بعض الفترات التاريخية، وفي هذا الموضوع نستعرض أبرز تلك الكُتب المرفوضة.

إحياء علوم الدين: كتاب السموم

يُعدّ كتاب إحياء علوم الدين الذي كتبه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الطوسي المتوفى 505هـ، أحد أشهر الكتب الإسلامية وأوسعها ذيوعًا وانتشارًا، وعلى الرغم من العناية البالغة التي حظي بها هذا الكتاب عبر القرون، فإنه تعرض للانتقاد من قِبل العديد من رموز التيار السلفي قديمًا وحديثًا.

الهجوم على الإحياء وقع في حياة الغزالي نفسه، إذ ذكرت العديد من المصادر التاريخية المغربية، ومنها «البيان المغرب» لابن عذاري المراكشي، أن القاضي أبا عبد الله بن حمدين ومن معه من علماء وقضاة الأندلس الذين كرهوا انتقاد الغزالي للفقهاء في كتابه، فحرّضوا أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين على حرق الكتاب، فلم يكن أمام الأمير الذي يميل للنزعة السلفية إلا الرضوخ لطلبهم، فتم إحراق نسخ كتاب الإحياء أمام العامة في ساحة المسجد الجامع بقرطبة في سنة 503هـ.

الإمام أبو بكر الطرطوشي المتوفى 520هـ، وهو أحد المعاصرين للغزالي، ومن كبار رموز التيار السني الذي احتضنته مدينة الإسكندرية في العصر الفاطمي، انتقد الإحياء نقدًا لاذعًا، فبحسب ما نقله عنه شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه سير أعلام النبلاء، أنه قد اتهم حجة الإسلام بأنه قد «شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتابًا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبًا على الرسول منه. ثم شبَّكه بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج ومعاني رسائل إخوان الصفا، فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره؛ لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده، فما أقرب تضليله».

ثم تابع الطرطوشي بعدها مطالبًا بإتلاف الكتاب للخطر الشديد الذي قد ينجم عنه، فيقول «وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب؛ فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة، خيف عليهم أن يعتقدوا إذن صحة ما فيه؛ فكان تحريقه في معنى ما حرَّقته الصحابة من الصحف المصاحف التي تخالف المصحف العثماني».

في القرن السادس الهجري أيضًا، دعا العالم الحنبلي أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى 597ه لهجر كتاب الإحياء وصنف كتابًا كاملاً للرد عليه، وكان مما أورده فيه قوله «صنف أبو حامد الإحياء، وملأه بالأحاديث الباطلة، ولم يعلم بطلانها، وتكلم على الكشف، وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والقمر والشمس اللواتي رآهن إبراهيم أنوار هي حجب الله عز وجل، ولم يُرد هذه المعروفات! وهذا من جنس كلام الباطنية».

أما في القرن الثامن الهجري، فقد اشتُهر انتقاد الأب الروحي للسلفية المعاصرة، شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني المتوفى 728ه للإحياء، وكان مما قاله فيه ما ذكره في مجموع الفتاوى «والإحياء فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ؛ فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ».

في العصر الحديث كذلك، تتابعت انتقادات وتجريحات شيوخ السلفية في الغزالي وكتابه، فعلى سبيل المثال، صنف عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رسالته المعنونة بالقول المبين في التحذير من كتاب إحياء علوم الدين، وكان مما ذكره فيها «وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين، في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار».

أما الشيخ المصري السلفي أبو إسحاق الحويني، والمتخصص في علوم الحديث، فقد أجاب في أحد دروسه عن سؤال عن حكم قراءة كتاب الإحياء، بقوله «هذا كتاب ملأه بالسموم… لا ننصح أحدًا بقراءة الكتاب إلا إذا كان عالمًا بحقيقة منهج الغزالي، لا سيما في باب العقائد وفي باب السلوك، ولا ينجو قسم من أقسام الكتاب من الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى الرسول».

الفتوحات المكية: امحوا أثره

يُعدّ كتاب الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي المتوفى 638ه، واحدًا من أهم المؤلفات الصوفية التي دار حولها الجدل قديمًا وحديثًا، فبينما تقبله الكثير من العلماء المسلمين على مر القرون، وعدّوه أحد أهم الكتب الفكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فإنه وعلى الجهة المقابلة، قد تعرض للرفض من قِبل العديد من الفقهاء والعلماء من ذوي النزعة الأثرية السلفية، فحرموا النظر فيه وكفروا صاحبه.

المؤرخ والقاضي المالكي الشهير عبد الرحمن بن خلدون المتوفى 808ه، كان من أوائل الفقهاء الذين أفتوا بإتلاف كتاب الفتوحات، فقال «… فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها إذا جدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب».

من بعد ابن خلدون، حمل الفقيه جمال الدين ابن الخياط المتوفى في 839ه، راية انتقاد ابن عربي وكتابه، إذ وجه سهام رفضه للكثير من الأفكار التي وردت في الفتوحات، ورد عليه وقتها مجد الدين الفيروز آبادي المتوفى 817ه بكتاب «الاغتباط بمعالجة ابن الخياط» واتهم أعداء ابن عربي بأنهم قد دسوا على الكتاب ما ليس فيه بهدف إثارة الفقهاء والعامة عليه.

في القرن التاسع كتب الفقيه برهان الدين البقاعي الشافعي المتوفى 885ه، كتابه الشهير «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي» والذي اُشتهر باسم مصرع التصوف، وتعقب فيه مجموعة من المآخذ على الشيخ الأكبر، ومن أهمها وحدة الوجود والاعتقاد بالحلول والاتحاد، وأوضح الغاية من كتابه بقوله «فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف… أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرًا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله…».

قبل أن يرد عليه الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ في القرن نفسه بكتابه المسمى بــ«تنبئة الغبي بتبرئة ابن عربي»، والذي استعرض فيه أقوال وآراء مجموعة من العلماء الموافقين لما ذهب إليه ابن عربي في كتابه، وعلق بعدها قائلاً «والقول الفصل عندي في ابن عربي طريقه لا يرضاها فِرْقَتَا أهل العصر: لا من يعتقده، ولا من يحطّ عليه. وهي: اعتقادُ وِلايَته، وتحريم النظر في كُتُبِه».

أما الحافظ شمس الدين السخاوي المتوفى 902هـ فقد ذكر في كتابه تحقيق القول المنبي عن ترجمة ابن العربي، أخبار المجادلات الكثيرة التي دارت حول الكتاب، وكيف أنه قد صدرت الأوامر بتحريقها وعقاب من يمتلكها.

مؤخرًا، وعقب اجتياح مناطق واسعة في كل من العراق وسوريا في 2014م، تكرر الهجوم السلفي على الفتوحات المكية، عندما أمر أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حينذاك، عناصر التنظيم بإحراق جميع نسخ الفتوحات المكية التي يعثرون عليها في المناطق التابعة لهم، ومعاقبة كل من يتبنى أفكار الشيخ الأكبر المدفون في دمشق.

طبقات الشعراني: كتاب الأباطيل

على الرغم من الشهرة الكبيرة التي نالها كتاب «لواقح الأنوار في طبقات الأخيار»، والمعروف بِاسم طبقات الشعراني أو الطبقات الكبرى في أوساط المتصوفة، إلا أن العديد من سهام النقد قد وُجِّهت له من قِبل العشرات من العلماء والدعاة من المنتسبين للتوجه السلفي تحديدًا.

الكتاب الذي صنفه الفقيه والمتصوف المصري عبد الوهاب الشعراني المتوفى 973ه، وحشد فيه العشرات من القصص والحكايات الخارقة للعادة، اعتاد أن يثير سخرية كبار مشايخ السلفية، ليصبح الحديث عنه مثار ترفيه ودعابة في مجالس العلوم والدرس.

على سبيل المثال، تحدث المحدث السلفي ناصر الدين الألباني عن طبقات الشعراني بشكل مقتضب في أحد مجالسه، فكان مما قاله «فمن شاء أن يرى العجب العجاب في هذا المجال -يقصد كتابات الصوفية- فعليه أن يرجع لكتاب طبقات الأولياء للشعراني… لأنه محشو بالأباطيل تحت عنوان الكرامات».

أما تلميذه أبو إسحاق الحويني، فقد اعتاد أن يذكر الشعراني وكتابه في الكثير من الدروس التي ينتقد فيها الصوفية ومنهجهم المبني على الخرافات والأباطيل بحسب وصف الحويني له. في واحدة من محاضراته ذكر الكتاب واستشهد بما ورد فيه من سيرة الولي إبراهيم العريان، فقال «لو نفسك تضحك وتقهقه عليك بكتاب الطبقات الكبرى للشعراني… كل كبده ومخ ضاني واقرأ الفاتحة للشعراني هذا الكتاب فيه كلام لا يمكن لواحد حشاش يكتبه… الكتاب كله غرائب وأعاجيب، بحيث أن من يطلع على هذا ولا يكون من أهل الإسلام، فلا يمكن أن يدخل هذا الدين، ولا يخطر بباله أن هذا دينًا محترمًا…».

في محاضرة أخرى، واصل الحويني استهزاءه بالكتاب فقال «لو أنك حضرت مع جماعة من المهرجين، لا يمكن تضحك زي ما حيحصلك لو قريت هذا الكتاب…».

أما الداعية السلفي المصري عبد الرحمن عبد الخالق، فلم يكتفِ بانتقاد الكتاب وحده، بل نجده وقد شن هجومًا عنيفًا على عبد الوهاب الشعراني نفسه، فوصفه بقوله «هو من أخبث كتابهم… كان عالمًا شافعيًا أصوليًا، لكنه كذاب من أكذب الناس جمع كل أهل الإجرام في الأرض، من الذين يأتون الفواحش عيانًا ونظمهم في هذا السلك».

هذا الوصف يتعارض مع ما وصف به الشعراني في كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للمؤرخ ابن العماد الحنبلي المتوفى 1089ه والذي ترجم لصاحب الطبقات الكبرى، فقال «وكان مواظبًا على السنة، ومبالغًا في الورع، مُؤثِرًا ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملاً للأذى، موزعًا أوقاته على العبادة؛ ما بين تصنيف وتسليك وإفادة… وكان يُسمَعُ لزاويته دوي كدوي النحل ليلاً ونهارًا، وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يزل مقيمًا على ذلك، معظَّمًا في صدور الصدور، إِلى أن نقله الله تعالى إِلى دار كرامته».

 شيوخ الصوفية الذين دافعوا عن كتاب الطبقات الكبرى، ومنهم الشيخ علي جمعة، مفتي مصر الأسبق، بنوا دفاعهم بالمقام الأول على القول بأن تلك القصص الخرافية قد دسّت على الكتاب من قبل أعداء الصوفية، وأنها لم تكن من تصنيف الإمام الشعراني، بل نُسبت إليه للتشنيع عليه وللطعن في مقامه والحط من مكانته، ويستشهد الصوفية على ما ذهبوا إليه بمجموعة من أقوال الشعراني نفسه، منها على سبيل المثال، ما ذكره كتابه لطائف المنن والأخلاق: «ومما منَّ الله تبارك وتعالى به عليَّ، صبري على الحسدة والأعداء، لما دسوا في كتبي كلامًا يخالف ظاهر الشريعة، وصاروا يستفتون علي زورًا وبهتانًا، ومكاتبتهم في لباب السلطان».

وقد ذكر بعض المؤرخين مسألة الدس على الشعراني، ومنهم ابن العماد الحنبلي، الذي قال «وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإِجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنَّعوا وسبُّوا، ورموه بكل عظيمة، فخذلهم الله، وأظهره الله عليهم…».

الأغاني: كل قبيح منكر

يُعدّ كتاب الأغاني أحد أشهر الموسوعات الأدبية التي دونت باللغة العربية على الإطلاق، وقد تحدث فيه مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني المتوفى 356ه عن عشرات الموضوعات، وتطرق فيه للحياة الاجتماعية والثقافية والدينية والفنية في القرن الرابع الهجري.

رغم ذلك، لم يسلم الكتاب من الانتقاد والطعن، ولا سيما من أصحاب التوجهات المحافظة والسلفية، وذلك لسببين رئيسين، الأول، هو تشيع الأصفهاني، وتوسعه في الاحتجاج بالرواية التاريخية المعارضة للتوجه السني التقليدي، والثاني، هو كثرة قصص المجون والخلاعة التي تضمنها الكتاب.

المؤرخ والفقيه الحنبلي عبد الرحمن بن الجوزي في القرن السادس الهجري، كان من أوائل من طعنوا في الكتاب وفي مؤلفه، فكان مما قاله في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم عن أبي الفرج الأصفهاني «… وكان يتشيع، ومثله لا يوثق بروايته، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر».

هذا التوجه السلفي الحنبلي المعادي للكتاب، سيظل قائمًا في العصر الحديث، فعلى سبيل المثال، أجاب عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجمع الفقهي بمكة المكرمة الشيخ السعودي صالح الفوزان عن سؤال وجهه له أحد الطلبة بخصوص حكم اقتناء كتاب الأغاني، بـ «الأصفهاني شيعي، وكتابه الأغاني لا يعتمد عليه طالب العلم لا يجوز أن يقتنيه أو يقرأ فيه حتى لا ينخدع بما فيه».

أما الشيخ السوري السلفي محمَّد مصطفى المجذوب، والذي عمل لفترة طويلة بالتدريس في المملكة العربية السعودية، فكان أكثر من توسع في انتقاد كتاب الأغاني في العصر الحديث، إذ خصص كتابًا كاملاً بعنوان «جولة في كتابي الأغاني والسيف اليماني» للرد عليه والطعن فيه، وكان من أهم ما ورد في هذا الكتاب، التأكيد على حقد الأصفهاني على الإسلام، وأنه ما كتب ما كتب إلا للطعن في الإسلام والعروبة، فيقول «وُيقْدم هذا الشعوبي -الأصفهاني- على التمكين لسمومه تحت غطاء من التظاهر بالإسلام، إذ يعرض لاسم واحد من أفاضل الأمة مشفوعًا بما يليق به من صيغ التكريم، حتى إذا استوثق من ثقة القارئ المغفَّل رماه بباقعة تجعله موضع الهزء والسخرية! وقلما سلم من بوائقه هذه فرد أو جماعة أو حزب ممن لهم حميد الذكر بين العرب والمسلمين منذ العهد…».

ويلفت المجذوب النظر في موضع آخر من كتابه إلى منهجية الأصفهاني التي وصفها بـ«الخبيثة» في كتابه «وقد ساعده على تسديد طعناته استتاره وراء طرائق المحدثين عند إيراده أخباره، فهو يمهد للخبر بإسناده إلى سلسلة من الرواة، بينهم ثقات من أولي العلم والفضل…». وبعدها يحذر المجذوب من خطورة الكتاب، وكيف رحب به المستشرقون للطعن في الإسلام، فيقول «وقد بدأت الطامة الكبرى بإقبال المستشرقين على «الأغاني» إذ راحوا يروّجون له ويشيدون بقيمته ويبثون حبَّه في قلوب تلاميذهم من أبناء المسلمين ومن العرب الحاقدين على الإسلام…».

الإمامة والسياسة: كتاب الجهل والغباوة

يُعد كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري المتوفى 276ه، واحدًا من أهم المصنفات التاريخية التي تطرقت للحديث عن العلاقة بين الدين والسياسة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، إذ أسهب صاحبه في الحديث عن تفاصيل الفتنة الكبرى وأخبار الصراعات بين الصحابة وبعضهم البعض.

حساسية موضوع الكتاب من جهة، وتعارض رواياته مع الروايات التاريخية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة من جهة أخرى، حدت بالعديد من العلماء والباحثين من أهل السنة، للإنكار على الكتاب والطعن فيه حينًا، وتكذيب نسبته للمحدث الكبير ابن قتيبة في أحيان أخرى.

يمكن القول إن الفقيه المالكي الإشبيلي أبا بكر بن العربي المتوفى 543هـ، كان من أوائل من لمسوا الخطورة الكامنة في كتاب الإمامة والسياسة، ولذلك نجده في كتابه الشهير «العواصم والقواصم»، والذي يُعدّ أحد أهم الكتب المؤسسة للوعي التاريخي للسلفية المعاصرة على الإطلاق، يشن هجومًا عاتيًا على كتاب ابن قتيبة، فيقول «ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال، فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبقِ ولم يذر للصحابة رسمًا في كتاب الإمامة والسياسة، إن صح عنه جميع ما فيه».

أما في العصر الحديث، فقد تتابعت حملة انتقادات رموز التيار السلفي على الكتاب، وكان الأديب والداعية الإسلامي السوري محب الدين الخطيب، هو أول من تزعم تلك الحملة.

الخطيب، كان أحد أهم من روجوا للفكر السلفي في بدايات القرن العشرين، من خلال نشره لعدد كبير من المصنفات والرسائل السلفية التوجه، ومن خلال علاقته الوثيقة بحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وأستاذيته لمجموعة من كبار الدعاة السلفيين من أمثال محمد حامد الفقي مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية، ومحمد إسماعيل المقدم أحد أهم القيادات في الدعوة السلفية بالإسكندرية، ومن ثم لم يكن من الغريب أن يولي الخطيب اهتمامًا خاصًا بكتاب العواصم والقواصم، إذ قام بالعمل على تحقيقه، وعلق على انتقاد ابن العربي لابن قتيبة، بقوله واصفًا كتاب الإمامة والسياسة «كتاب مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير…».

بعد فترة من ظهور هذا التحقيق، اهتم الكثير من الباحثين السلفيين بهذا الكتاب، فعملوا على الطعن في نسبته لابن قتيبة بكل وسيلة ممكنة، فعلى سبيل المثال، أفرد الشيخ السلفي مشهور بن حسن آل سلمان، فصلاً كاملاً عن كتاب الإمامة والسياسة في كتابه «كتب حذر منها العلماء»، فقال «هذا كتاب مكذوب على ابن قتيبة رحمه الله تعالى، وعلى الرغم من ذلك فهو مصدر هام عند كثير من المؤرخين المعاصرين، ويجب أن يتعامل مع هذا الكتاب بحذر شديد إذ حوى مغالطات كثيرة…».

أما الداعية الليبي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، الدكتور علي الصلابي، فقد عمل على نسف الاعتبارية التاريخية للكتاب بشكل تام، عندما وصفه في كتابه «الحسن بن علي»، بقوله «هذا الكتاب -يقصد كتاب الإمامة والسياسة- لا يثبت لابن قتيبة، وإنما كاتبه رافضي محترق…»، ويسوق بعدها جملة من الأدلة والشواهد على ما ذهب إليه، منها قوله «ابن قتيبة يحتل منزلة عالية لدى العلماء فهو عندهم من أهل السنة وثقة في علمه ودينه… يقول عنه ابن تيمية: وإن ابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب أهل السنة المشهورة . ورجل هذه منزلته لدى رجال العلم المحققين هل من المعقول أن يكون مؤلف كتاب الإمامة والسياسة الذي شوه التاريخ وألصق بالصحابة الكرام ما ليس فيهم؟»