يحتكر النظام السياسي وفقاً لديفيد ايستون التخصيص السلطوي للقيم المادية والمعنوية، أي توزيع وإعادة توزيع الموارد المتاحة، ويقرر جبريل آلموند في كتابه السياسات المقارنة خمس قدرات للنظام السياسي، منها القدرة التنظيمة[1] أو قدرات الضبط regulative capabilities ؛ وهي قدرة النظام السياسي على ضبط سلوك الأفراد والجماعات التي لا تلتزم بالقانون، وتقوم الأجهزة الأمنية بهذه المهمة، في حين تضطلع السلطة القضائية بتوقيع العقوبة على من يخالف القانون، ومن هنا قد تنشأ الإشكالات، فمع وجود سلطة مستبدة قد نرى الإفراط في استخدام القوى المادية التي تمتلكها للبطش بالمعارضة والخصوم السياسيين، لتوطيد الحكم وتثبيته والقضاء على كل من يحاول إزاحته عن سدة الحكم.

يحكي التاريخ الإنساني لنا استحواذ حكام مستبدين على مقاليد الحكم، أذاقوا شعوبهم الويلات، اعتقالات وتعذيب وقتل وإقصاء وفنون مختلفة من الانتهاكات المادية والمعنوية، ولكن إن طال الزمان أو قصر؛ تأتي لحظة فارقة نرى فيها إزاحة هؤلاء الحكام وأنظمتهم عن السلطة بأشكال متعددة، بثورة شعبية، أو بحرب أهلية، أو بانقلاب داخلي أو حتى بتسليم سلمي للسلطة إثر مفاوضات مع قوى المعارضة، ويظهر على الساحة سؤال محوري، كيف نتعامل مع ما مارسه النظام القديم من مخالفات أثناء سيطرته على مقاليد الحكم ؟

نعرض في البحث التالي المقاربات التي تلجأ إلىها السلطات السياسية لتسوية جرائم الماضي، ونوضح مفهوم العدالة الانتقالية ومراحل تطوره، ثم نتعرض لتجربتين عربيتين في الجزائر والمغرب، ونختم بالحديث عن التجربة الأرجنتينية كنموذج غير عربي، وكيف تم التعامل في الجرائم التي ارتكبت، وهل حُوكِم الجاني؟ وهل عُوِض المجني عليه؟

مقاربات ثلاث لتسوية جرائم الماضي[2]

أولاً: القصاص العنيف :

يعتبر سقوط نظام مستبد فرصة سانحة للثوار ولأعداء النظام القديم فرصة ثمينة للأخذ بالثأر من الديكتاتور وأعوانه الذين طالما استخدموا سلطاتهم في البطش والتنكيل بالمعارضين بكافة السبل، سقوط الديكتاتور يعني سقوط من يحميه.

مبدأ القصاص العنيف لا يتيح للثوار فقط محاسبة النظام القديم فقط ولكن يعني إقصائهم عن المشهد بالكلية، ولكن ما العمل إذا أدى استخدام الثوار للعنف إلى الدخول في دوامة مستمرة من العنف يشارك فيها أطراف متعددة، ويؤول إلى انقسامات مجتمعية وشروخ قد تحتاج إلى عشرات السنين إلى علاجها، قد يتحول فيها الديكتاتور السابق وأنصاره إلى “شهداء” و”ضحايا” لبطش الثوار الذين قد يتحوّلون في لحظة ما إلى مستبدين جدد.

ثانياً: نسيان الماضي

ثمة رأي بأن نسيان ما حدث من انتهاكات قام بها النظام القديم طريقاً لتجنب إثارة قضايا الماضي، وحل ناجع لإرساء سلام مجتمعي لتأسيس نظام يشارك فيه جميع طبقات المجتمع، بالإضافة إلى توفير مبالغ مالية طائلة قد تدفع كتعويضات مادية لضحايا النظام القديم، الذين تعرضوا لانتهاكات مادية ومعنوية.

ولكن قد يؤول نسيان الماضي إلى تدهور في المستقبل ماذا لو سعى النظام القديم وأنصاره للوصول للحكم من جديد والعمل على إسقاط من أسقطهم أولاً بالسعي لإحداث فوضى أو ربما التخطيط للانقلاب على النظام الجديد أو أي وسيلة أخرى لإفشال النظام الجديد أثناء تأسيسه.

نسيان الماضي لا يؤدي إلى نتيجة واحدة ثابتة، فقد نجد أن طي صفحات الماضي المليء بالانتهاكات قد يؤدي إلى تكراره من جديد، فمن تسبب في جرائم جنائية وسياسية وأخلاقية ولم يجد من يردعه ويعاقبه؛ لن يتردد في تكرار أفعاله إذا أتته الفرصة ثانيةً، إلا أن هناك من يرى أن “النسيان” لا يدوم، وسيظهر على الساحة السياسية إن عاجلاً أو آجلاً من يعيد النظر في الدفاتر القديمة، مطالباً بمحاسبة كل من أخطأ وتمادى في استخدام سلطته السياسية لمعاقبة معارضيه ومنافسيه السياسيين، ولكن بمرور الوقت يضعف احتمال اللجوء للعنف للانتقام من مجرمي النظام القديم.

ثالثا: سياسات الحق والعدل

تعتبر سياسات الحق والعدل بديلا لنقيضين لا يجتمعان وهما القصاص العنيف والنسيان، عن طريق تقديم حزمة من الأسس لتقويم سلوك الدولة، ولإعادة النظر في الجرائم التي ارتكبتها السلطة الحاكمة من قبل، تحاول هذه السياسات محاسبة كل من ساهم في جرائم الماضي، دون الإخلال بالقانون، ولكن ماذا إذا وقفت القيود القانونية التقليدية عائقا أمام تحقيق العدالة؛ منها نشأت فكرة العدالة الانتقالية.

تعرف العدالة الانتقالية بأنها “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقاً) ومحاكمات الأفراد، والتعويض، وتقصي الحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهما معاً”.

وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة[3].

مر مفهوم العدالة الانتقالية بمراحل ثلاث[4] نلخصها فيما يلي، مع الوضع في الاعتبار أن تجارب العدالة الانتقالية ومراحلها ليست منفصلة بالكلية، وأن كل مرحلة بما فيها من تجارب استفادت وتأثرت بشكل أو بآخر مما سبقها :

1-المرحلة الأولى: ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أنشئت محاكمة بمدينة نورمبرج الألمانية عام 1945، لمحاكمة القادة الألمان على ما ارتكبوه من جرائم أثناء الحرب، وعلى مدار أربع سنوات عُقدت ثلاث عشرة محاكمة في المدينة التي كان ينظم فيها الحزب النازي اجتماعاته، وتمحورت هذه المرحلة بشكل عام حول التجريم والمحاكمات الدولية التي ترتبت عليها.

2-المرحلة الثانية: بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وما أعقبها من تغييرات سياسية مختلفة في دول أوربا الشرقية، وكذلك التجربة الأرجنتينية، وظهرت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة والتعويضات.

3-المرحلة الثالثة: وتعتبر تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال لجنة “الحقيقة والمصالحة” الشهيرة في 1995 التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري مثالاً على هذه المرحلة، وكذلك تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب.

ما هي وظائف العدالة الانتقالية ؟

تنظر هيئات الحقيقة والمصالحة وتفصل في اختصاصين، أحدهما نوعي والآخر زمني، يتعلق الأول بنوعية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تتصدى لها، من خلال الكشف عنها ودراستها وتحليلها وإصدار النتائج المناسبة في شأن حالاتها، أما الاختصاص الزمني، فالمقصود به الحقبة التاريخية التي تشتغل عليها وهي فترة تطول أو تقصر بحسب سياق كل بلد ونطاق الانتهاكات الحاصلة فيه.[5]

تشير التطبيقات الفعلية للمفهوم إلى أن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية عادة ما يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل: وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، التحقيق في الجرائم الماضية؛ تحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم، تعويض الضحايا؛ منع وقوع انتهاكات مستقبلية، الحفاظ على السلام الدائم، الترويج للمصالحة الفردية والوطنية.

نعرض فيما يلي ما مرت به كل من الجزائر ولبنان من أحداث عنف وقتل، سقط فيها آلاف الضحايا، ونبين ما آل إليه الأمر في نهاية المطاف، وهل عوقب كل مجرم بما يستحق، أما أن موازين القوى فرضت شيئاً آخر على أرض الواقع.

تجربة الجزائر : العشرية السوداء وميثاق السلم المصالحة[6]

بدأت الأحداث في الجزائر مع ظهور دستور جديد في 23 فبراير عام 1989 ، تلاه إصدار قانون طوى صفحة الاحتكار لحزب الجبهة الوطنية للتحرير، حيث أجاز طبقا للمادة رقم (40) إنشاء جمعيات ذات طابع سياسي، وسارعت الحكومة بإعطاء تصاريح لكل الأحزاب التي قدمت طلبات تأسيس، ومن هذه الأحزاب من له توجهات إسلامية، وظهر أكثر من 30 حزباً سياسياً.

أجريت انتخابات البلدية في عام 1990، وحققت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً كاسحاً بالحصول على نسبة تجاوزت 50%، وأجريت الانتخابات التشريعية في أواخر عام 1991 فحصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 188 مقعداً من أصل 430 في البرلمان.

لم تكن الحكومة الجزائرية على استعداد لتقبل الأفكار والأطروحات التي تتبناها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي رفعت شعارات إسلامية واضحة، واعتبرتها الحكومة تغييراً جذريا في المجتمع والدولة لا يمكن القبول به، تدخلت قيادات المؤسسة العسكرية الجزائرية، فأُصدر مرسوم يقضي بتعليق جلسات البرلمان، ثم استقال الرئيس الشاذلي بن جديد في الحادي عشر من يناير 1992 بعد ضغوط من القيادات العليا للجيش.

تولى السلطة المجلس الأعلى للدولة -وهي مؤسسة لم ينص الدستور الجزائري على إنشائها- برئاسة محمد أبو ضياف، وتم تعليق الجولة الثانية من الانتخابات التي كان يلزم إجراؤها لعدم حصول أي حزب على الأغلبية، ومُنعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ من ممارسة أي نشاط سياسي، بعد أن رفع وزير الداخلية دعوى أمام الغرفة الإدارية للمطالبة بحل الجبهة، وعلى إثر ذلك صدرت عدة مراسيم لحل المجالس الشعبية البلدية والولائية التابعة للجبهة، وتم فرض قانون الطوارئ الذي قامت الحكومة بموجبه الكثير من التدابير القمعية على الحريات، واعتُقل عباس مدني وعلي بلحاج قائدا الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحُكم عليهما بالسجن لمدة 12 عاماً.

تصاعدت وتيرة العنف في مطلع عام 1992، واغتيل الرئيس محمد أبو ضياف في أواخر يونيو 1992، وبدأت مواجهات دامية بين بعض أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ وقوات الأمن من الشرطة والجيش الجزائريين، وبدا أن قيادة جبهة الإنقاذ ليس لها اليد العليا في الصراع المسلح.

في يناير 1994 تولى اليمين زروال رئاسة البلاد، وقدم مبدأ الحوار، وقام بالتفاوض مع قيادات الجبهة المسجونين، وأطلق سراح العديد منهم، مما أدى إلى حصول اختلاف حاد بين الأطراف المناهضة للحركة الإسلامية، حيث رأى البعض أنه لا بد من القضاء على الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالكلية ولا سبيل للتفاوض معهم.

ظهرت الجماعة الإسلامية المسلحة في أوائل عام 1994واعتمدت العنف المسلح، بعدما قامت به السلطة من حل للبرلمان وإقصاء للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومع أواخر عام 1994 أعلن زروال فشل المفاوضات مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وطرح فكرة إنشاء مليشيات للدفاع عن القرى والأماكن المستهدفة حيث أن تحركات الجيش لا تكفي لمواجهة الأزمة الأمنية.

عاد الجيش إلى طاولة المفاوضات بقيادة اللواء العماري رئيس مديرية الاستخبارات والأمن، ومدني مزراق قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ، وآلت المفاوضات إلى توقيع هدنة في عام 1997، وأصدر مزراق بياناً أمر فيه أنصاره بوقف القتال من أول أكتوبر 1997، وافق على بيان مزراق أكثر من ثلاثة آلاف مسلح، في حين رفض عدد اكبر هذا البيان.

استمرت أحداث العنف مما أكد على عدم سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الأطراف المسلحة، ووقعت حوادث عنف وقتل شاركت فيها قوات الأمن الحكومية، ولم تخبو نار الصراع المسلح إلا مع ظهور عبد العزيز بوتفليقة على الساحة كرئيس للجمهورية الجزائرية.

استقال اليمين زروال من منصبه في سبتمبر 1998، ودُعي إلى عقد انتخابات رئاسية في ابريل 1999، فاز فيها عبد العزيز بوتفليقة بعد انسحاب جميع المنافسين، ومع تولي بوتفليقة مقاليد الحكم في الجزائر بدأت مرحلة جديدة لتسوية النزاع القائم، فعرض على البرلمان قانون “الوفاق المدني” الذي عرّفه بأنه الصيغة السياسية لاتفاق بين القيادات العليا للجيش والجيش الإسلامي للإنقاذ، وطُرحت خطة السلام في استفتاء شعبي في سبتمبر 1999، وافق عليه المشاركون بنسبة تجاوزت 98%، مع وجود شكوك حول تضخيم السلطة لهذه النسبة، تلا ذلك إصدار عفو للمسلحين الذين قبلوا تسليم انفسهم للقضاء ونبذ العنف في عام 2000.

في سبتمبر 2003 أسس بوتفليقة اللجنة الاستشارية لترقية حقوق الإنسان بهدف معرفة ما حدث للذين فقدوا خلال الأحداث الدامية، وتهربت الحكومة من دور قوى الامن في الأحداث، وفي يوليو 2005 ألقى بوتفليقة خطاباً ناشد فيه الشعب بالعودة إلى العيش سوياً والتكاتف من أجل معيشة أفضل، وفي الخامس عشر من أغسطس من العام ذاته أصدر مرسوماً يتضمن مسودة ميثاق “السلام والمصالحة الوطنية” قدمت إطاراً يدعو إلى طي صفحة العنف الذي استمر لعشر سنين، تشمل الوثيقة العفو عن كل المسئولين عن العنف طالما لم يثبت عليهم جرائم قتل او اغتصاب، وقبل بموافقة شعبية في الاستفتاء الذي أُجرِىَ في التاسع والعشرين من سبتمبر 2005، وكانت هذه الخطوة بمثابة النهاية لسنوات العنف التي عٌرفت بالعشرية السوداء.

في سبتمبر الماضي أحيت الجزائر الذكر التاسعة لاتفاق السلام والمصالحة، ولا زالت الآراء تختلف حول هذه المصالحة، فنجد أن فاروق قسطنطيني – رئيس اللجنة الاستشارية لترقية حقوق الإنسان التابعة لرئاسة الجمهورية – يرى أن من الجحود إنكار ما قام به بوتفليقة من إجراءات ساهمت في تحقيق السلم المجتمعي، وأن الاتفاقية قد نُفذت بنسبة تتعدى 90%، وفي المقابل نجد رأي بأن “ليست هناك مصالحة وطنية في الجزائر، حتى نتساءل إن كانت نجحت أم فشلت، والسلطة سنّت مجموعة من القوانين فقط لاستعادة السلم، وليس لمعالجة الأزمة الأمنية من جذورها” ، وأن السلطة انفردت بوضع هذا الميثاق دون التشاور مع منظمات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية حتى يخرج الميثاق معبراً عن رأي المجتمع لا السلطة الحاكمة التي راعت توازنات القوى.

مشروع الميثاق فرق بين المسؤولية المدنية التي تقع على عاتق الدولة وبين المسؤولية الجنائية التي تقع على عاتق أعوان الدولة ، وبعبارة أخرى أن الدولة مسؤولة عن التعويض المدني، دون المسؤولية الجزائية عن أفعال أعوانها، ومن ثمّ فقد دفعت الدولة تعويضات للضحايا، ولكن لا مجال للحديث عن محاسبة أو محاكمة أو مسائلة الأطراف المسئولة عن أحداث العنف التي شهدتها البلاد طوال ما يُقارب من عشر سنين، ويظل ملف “المفقودين” الذي بلغ عددهم 11 ألفاً مصدراً لإزعاج السلطة الجزائرية، حيث تم إغلاق الملف دون أن يعرف أهالي المفقودين عن ذويهم شيء.

التجربة الجزائرية تبين كيف تتحكم موازين القوى بشكل المصالحة –إن كانت تستحق هذا اللقب-التي تتم بين الأطراف المتصارعة، سقط خلال عشر سنوات ما يُقارب من مئتي ألف ضحية، ولم تنكر الحكومة الجزائرية أنها لن تحاكم من تسبب في هذه الجرائم، فقد صرح قسطنطيني أن السلطة فضلت “التخلي عن الحقيقة القضائية والتمسك بالحقيقة المعنوية والعفو” معتبرا أن “ليس لديها امكانيات لتنظيم آلاف المحاكمات” لمقاضاة المذنبين.

لبنان : الحرب الأهلية والعفو للجميع

في 13 ابريل من العام 1975 اندلعت الحرب الاهلية في لبنان التي انطلقت شرارتها بحادثة (حافلة عين الرمانة) وانتهت في العام 1990 بعد صراع دموي معقد بين أبناء الوطن الواحد ذهب ضحيته مئات الالوف من القتلى والجرحى، وتعود جذور الحرب للصراعات والتنازلات السياسية في فترة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا.

حصل توقف قصير للمعارك عام 1976 لانعقاد القمة العربية ثم عاد الصراع الأهلي ليستكمل وعاد ليتركز القتال في جنوب لبنان بشكل أساسي، والذي سيطرت عليه بداية منظمة التحرير الفلسطينية ثم قامت إسرائيل باحتلاله.

وانتهت الأحداث بانتشار الجيش السوري بموافقة لبنانية عربية ودولية وذلك بحسب “اتفاق الطائف” الذي رعته المملكة العربية السعودية.

وقد أصدر مجلس النواب اللبناني في 26 أغسطس 1991 قانوناً بمنح عفو عام عن الجرائم السياسية التي ارتُكبت قبل تاريخ 28 مارس 1991 ، ثم صدر قانون أخر في 16 يوليو 2005، يقضي بمنح عفو عام عن جميع الجرائم التي تم استثنائها من العفو الأول، ويعد سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية أبرز من استفاد من هذا العفو فخرج من السجن بعد أن كان محكوماً عليه بالسجن مدى الحياة، لاتهامه في عدة قضايا .

سقط خلال الحرب الأهلية اللبنانية آلاف القتلى، ووصل عدد المفقدوين إلى 15000، ظلت بعدها الحكومات اللبنانية المتعاقبة تهمش مسألة محاسبة مرتكبي الجرائم خلال 15 سنة من الحرب، بل وجدنا من تورط في عمليات القتل والإبادة يظهر من جديد ليتولى مناصب سياسية.

الأرجنتين : شعار “لن يحدث مرة ثانية” يتحقق بعد ربع قرن[7]

نسلط الضوء على ما حدث في الأرجنتين عقب وفاة رئيس الجمهورية خوان بيرون في عام 1974 بعد فترة ولاية لم تدم أكثر من تسعة أشهر، تقلدت زوجته إيزابيلا مقعد الرئاسة بصفتها نائبة رسمية لرئيس الجمهورية، وتم الإطاحة بها في عام 1976 إثر انقلاب عسكري قاده فيديلا، والذي أصبح حاكماً عسكرياً مطلقاً للبلاد، فقام بعمليات اعتقال واسعة لخصومه السياسيين، وألغى الأحزاب وشن حرباً على المعارضة سُميت بـ “الحرب القذرة” حيث تلقت قوات الأمن وقتها تدريبات على يد أمريكيين وفرنسيين، ونقل الفرنسيون خبرتهم الجزائرية في استجواب وتعذيب المعتقلين، كانت هزيمة الأرجنتين في حرب الفوكلاند هي النهاية لهذا الحكم السلطوي الذي وصل عدد ضحاياه لقرابة ثلاثون ألفاً طبقا لتقارير منظمات حقوق الإنسان.

أجريت في 1983 أول انتخابات رئاسية، فاز فيها راؤول ألفونسين، وقام بتشكيل لجنة سُميت بـ “اللجنة الوطنية المعنية بالمختفين”، لتقصي الحقائق حول الجرائم التي ارتكبت في عهد النظام العسكري الديكتاتوري، أصدرت اللجنة تقاريرها بعنوان “لن يحدث ثانية”، والتي آلت إلى تقديم كبار قادة الجيش للمحاكمة، مما أشعر صغار الضباط بالخوف من أن تمتد يد القضاء إليهم، فقاموا بافتعال أحداث عنف أدت إلى فوضى في البلاد ، مما دفع ألفونسين للتفاوض معهم خوفاً من اندلاع حرب أهلية، وأصدر بناءً على هذا التفاوض قانونين يحدد الأول منهما تاريخاً نهائياً لقبول أي شكوى في حق القادة العسكريين وسُمي بـ “نقطة النهاية”، ويعفي الآخر أي ضابط في الجيش أقل من رتبة كولونيل من المسئولية القانونية إزاء عمليات القتل لكونهم عسكريين ينفذون أوامر القيادة، مما اعتُبر انتكاسة في مسار العدالة الانتقالية.

في عام 1989 تعرضت الأرجنتين لأزمات اقتصادية فقرر ألفونسين اختصار ولايته ستة أشهر، وتولى من بعده كارلوس منعم الذي قام بإصدار قانوناً بالعفو عن القادة العسكريين، وفي المقابل تم دفع تعويضات للضحايا، وإغلاق ملف المحاكمات حتى أُعيد فتحه عام 2005 في ولاية الرئيس نستور كيرشنر –زوج الرئيسة الحالية للبلاد كريستنينا كيرشنر- فألغى قوانين العفو، وأمر بإعادة فتح المحاكمات لمن ساهم في ارتكاب جرائم في فترة الحكم العسكري من 1976-1983، وحُكم على جنرالات الجيش بالسجن في أعمار تناهز الثمانين، وكذلك من تمرد من صغار الضباط في عهد الرئيس ألفونسين، ولم يفلت الجنرال فيديلا قائد الانقلاب في عام 1976 مما ارتكبه من جرائم فأدخل السجن في 2008 على ذمة التحقيق في الجرائم الموجهة له، ونال عقوبة بالسجن لخمسين سنة، إلا الجنرال الذي طالما وصف معارضيه أنهم ” كانوا ارهابيين خطرين او شيوعيين كان يحاربهم الجيش الأرجنتيني” توفى في مايو 2013 في محبسه.

خاتمة

مفهوم العدالة الانتقالية نظريا يحض على تحقيق سياسات الحق والعدل، ولكن الواقع شيء آخر تماماً، يحكمه موازين القوى المادية دائماً وأبداً، ولا يعني إصدار مراسيم ولا إنشاء لجان تحقيق أن ينال الجاني جزاءه، فلربما وجدنا من تسبب في الجريمة يعتلي المناصب العليا في الدولة، ويتحول المجني عليه إلى مجرم يستحق العقاب.

الهوامش

[1] مقدمة في النظم السياسية، الدكتور محمد صفي الدين خربوش، صـ121 .

[2] معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديموقراطية، نويل كالهون، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، صـ15 .

[3] د. عبد الحسين شعبان، “العدالة الانتقالية وذاكرة الضحايا”، مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، 2008-01-26.

[4] العدالة الانتقالية : قراءة معرفية ومفاهيمية، مروة نظير، انظر الرابط http://www.globalarabnetwork.com/studies/3979-2011-05-10-18-40-44

[5] العدالة الانتقالية: المفهوم، النشأة والتجارب، أحمد شوقي بنيوب، مجلة المستقبل العربي .

[6] الجزائر في عهد بوتفليقة : الفتنة الأهلية والمصالحة الوطنية، رشيد تلمساني، من أوراق مركز كارنيجي .

[7] انظر لمزيد من التفاصيل : الأرجنتين : المزج بين لجان الحقيقة والمحاكمات الجنائية، أمل مختار، جريدة الأهرام، http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=1755098&eid=6744 ، وكذلك انظر بحث قصير بعنوان التحول الديموقراطي في الأرجنتين، على الصفحة الرسمية لمشروع أكاديمية الدستور على الفيسبوك، من إعداد سيد أحمد https://www.facebook.com/dostouracademy/posts/812825768774414:0