إن التساؤل حول التكنولوجيا، هو نفسه تساؤل عن مدى براعة مكر العقل، وذلك المكر هو ذاته خبث الشيطان الماكر عند ديكارت 
الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر Martin Heidegger

على العكس من المتوقع عند ظهور أي إنجاز تكنولوجي جديد في العقود الأخيرة في العصر الحديث، خيمت على الأغلبية حالة من القلق والخوف -سواء المتخصصون في مجالات تقنيات الحاسب أو غير المتخصصين من المجالات الأخرى، وذلك تزامنًا مع إطلاق شركة OpenAI، في نوفمبر 2022، برنامج المحادثة الجديد Chat GPT، المبني على أحدث لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي. 

حذر عديد من الأدباء والعلماء طوال القرن العشرين من مخاطر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والتحذيرات المتزايدة الآن ليست وليدة الحدث الأخير، ورغم ذلك هناك سبب حيوي لانتشار المخاوف خارج دائرة الأدباء والعلماء وتداولها بين الأفراد العاديين بعد ظهور chatgpt، وأهمها هو الخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على مكان آلاف البشر في وظائفهم، وهو تحول سيصب في صالح رؤوس الأموال والشركات، ولا عزاء لمقاعد الموظفين الشاغرة! 

إن القلق مشروع في تلك الحالة، ومع ذلك تظل أزمة اختفاء وظائف بالجملة وظهور أنماط عمل جديدة مشكلة حضارية تعرض لها البشر أكثر من مرة، وكل ما في الأمر أن الذكاء الاصطناعي سيزيد فقط من سرعة وعشوائية تلك العملية، كحال كل شيء في عصر العولمة والتكنولوجيا.

على أي حال، ليس المقصد من تقليل حدة المخاوف من إحلال الآلة مكان البشر في الوظيفة نوعاً من النظرة التفاؤلية للذكاء الاصطناعي، وليس الهدف في تلك المقالة التبشير بمجتمع مثالي، يتكاتف فيه البشر مع الآلات معاً من أجل خير البشرية كما يحلو للبعض أن يتصور الأمر. لكنها إشارة وتنبيه لقلق قديم نابع من تساؤل فلسفي أخطر عن علاقة العقل البشري بالتقنية عموماً.

تبدأ الحكاية مع الفيلسوف الفرنسي الشهير «رينيه ديكارت» في عزلته الباردة في الريف الهولندي، عندما حاول عقله أن يخلق كياناً مطلق الشر لكي يحوز من خلال هزيمته على المعرفة المطلقة! 

تأملات ديكارت: الطريق إلى اليقين وعقبة الشيطان الماكر

ينطلق رينيه ديكارت -أبو الفلسفة الحديثة- في كتابه الشهير «التأملات» من فكرة محورية، وهي أنه لا ينبغي لنا الثقة في أي معرفة تحتمل أي نوع من الشك، ولكي نتخلص من المعارف المشكوك فيها لا بد من الشك في كل فكرة في عقولنا حتى نصل إلى الأفكار اليقينية التي لا تقبل الشك. 

يبدأ ديكارت بالشك في المعرفة الحسية: الحواس مضطربة ومتناقضة في نقل حقيقة الواقع (سراب الصحراء مثال شهير على خدعة الحواس)، ثم ينتقل ديكارت للشك في طبيعة الواقع العادي نفسه من خلال حجة الأحلام الشهيرة، يقول في التأملات: 

ألا يحدث في كثير من الأحوال وأنا مستغرق في النوم أن أكون مقتنعاً تماماً بأنني أجلس هنا أمام نار المدفأة. بينما أنا في الحقيقة مستلقٍ دون أي ملابس على السرير، وأحلم
ديكارت

حتى الآن، لا جديد فيما قدمه ديكارت، فأغلب تلك الحجج التي تشك في يقين الحواس وطبيعة الواقع عرفتها الفلسفة منذ أقدم العصور، لكن تبدأ القفزة الثورية في كتاب التأملات عندما يخضع ديكارت المعرفة العقلية للشك الجذري.

من المستحيل أن يشك العقل في ما ينتجه من معرفة، لأن الشك في حد ذاته عملية عقلية (هل تستطيع الشك ولو لحظة في أن حاصل جمع 1+1 لا تساوي 2؟!)، لكن رغم استحالة المسألة، قدّم ديكارت فرضية شهيرة عُرفت بالشيطان الماكر لهدم يقين المعرفة العقلية، يقول في التأملات: 

سأفترض وجود كيان خارق وخبيث، قد سخر كل طاقاته لخداعي.. قد نظن أن الرياضيات يمكن أن تصحح نفسها، لكن قد يكون هناك شيطان قادر وماكر يخدعنا باستمرار فنظن أن الرياضيات صحيحة

لا يصدق ديكارت في وجود ذلك الكيان المرعب فعلياً، وفرضية الشيطان الماكر هي مجرد خطوة في تصعيد ديكارت للشك الجذري لتوضيح حدود المعرفة البشرية.  

وفي النهاية يبني ديكارت من جديد المعرفة البشرية سواء الحسية أو العقلية من جديد كما هو معروف، لكن ما يبقى من فكرة الشيطان الماكر أن البشر معرضون دائماً للتلاعب والخداع من كيان ما غامض قادر على تشويه الحقائق الفعلية. 

بعيداً عن نوايا ديكارت، فإنه اعتبر أن الشيطان الماكر رمز للخداع الخفي غير الملحوظ من البشر.

خطورة التكنولوجيا: هايدجر وكشف اللثام عن شيطان ديكارت 

لا خلاف بين مؤرخي الفلسفة على التأثير الهائل لكتاب التأملات لديكارت على الفكر الفلسفي في العصر الحديث، فقد اشتبك كبار الفلاسفة من مختلف التوجهات مع أفكار ديكارت لكن الأغلبية تجاهلوا فرضية الشيطان الماكر، على أساس أنها خيال تعسفي من جانب ديكارت لا لزوم له. 

مع بداية القرن العشرين، قدم الفيلسوف الألماني «مارتن هايدجر» قراءة جديدة لمُجمل التراث الغربي الفلسفي، وفي سياق مناقشته العميقة عن مستقبل علاقة البشر بالتكنولوجيا أعاد التفكير مرة أخرى في «شيطان ديكارت الماكر» بصورة جديدة. 

يطرح هايدجر -خصوصًا في مقاله الشهير عن التقنية الحديثة- سؤالاً بخصوص: ما جوهر التكنولوجيا الحديثة؟ 

يعود جوهر التكنولوجيا الحديثة، بالنسبة لهايدجر، إلى مبدأ «التأطير» (Gestell في الألمانية / enframing في الإنجليزية)، والتأطير هو عملية تحول من خلالها التكنولوجيا منظورنا تجاه العالم بحيث يصبح كل ما فيه مختزلاً في صورة موارد متاحة دائماً للاستهلاك البشري. 

باختصار، يرى البشر من خلال التكنولوجيا كل موجودات العالم مجرد أدوات محتملة يمكن للبشر استغلالها سواء في الوقت الحاضر أو المستقبل. 

ويضيف هايدجر أن ما توفره التكنولوجيا من إحساس بسيطرة الإنسان على العالم هو في الحقيقة مجرد فخ! 

من ناحية، ينبهر الإنسان دائماً بالنتائج المذهلة للإنجاز التكنولوجي، ولا ينتبه في نفس الوقت كيف أن الاعتماد الكامل على التكنولوجيا يمكن استخدامه للتلاعب به وخداعه. 

وعلى حد تعبير هايدجر، يرفع الإنسان نفسه في لحظة إلى مكانة المسيطر على الأرض، لكنه في الحقيقة يصبح أكثر الموجودات المعرضة للتهديد. 

وفي سياق مناقشته لفخ التكنولوجيا، يستدعي هايدجر فرضية ديكارت الشهيرة عن «الشيطان الماكر». فيرى هايدجر أن فكرة ديكارت عن الشيطان الماكر هي نفسها فخ التكنولوجيا المزدوج، فكما أن شيطان ديكارت قادر على الخداع والتلاعب إلى حد التحكم في العقل البشري وإيهامه بحقيقة معينة عن الواقع، كذلك تفعل التكنولوجيا في تصعيدها الأخير.

التكنولوجيا قادرة على التلاعب بالبشر وخلق شعور زائف بالسيطرة على العالم، مما يخلق حالة وهمية من الأمان تحجب المخاطر الكامنة، لكنها سرعان ما تزول ويبدأ التهديد الحقيقي تجاه البشر أنفسهم. 

لقد رأى هايدجر من خلال تأويله السابق عن «شيطان ديكارت» الجانب المظلم والشبح المتخفي وراء رغبة العقل في السيادة، ألم تكن رغبة ديكارت الأولى والأخيرة هي العقل حاكماً لكل شيء؟ 

وفي سياق رغبته الملحة لسيادة العقل، أخرج بعبعاً ظن فيه مجرد عقبة طارئة، يمكن تجاوزها بسهولة في طريقه إلى المعرفة الكاملة التي لا تقبل الشك! 

لم تكن السينما وأدب الخيال العلمي بعيدة عن شبح ديكارت: سلسلة أفلام ماتريكس الشهيرة مثلاً رمز خيالي لأسوأ سيناريو عن الشيطان الماكر، آلات خارقة قادرة على التلاعب في جميع مدخلات ومخرجات العقل البشري وخلق عالمٍ وهمي من المستحيل إنكار وجوده!

كل فرد في المصفوفة يؤمن بشدة أنه حر، حر بشكل كامل؛ يفعل ما يريد، ويعتقد ما يريد، وفي الخلف تلعب أصابع الخوارزميات الماكرة – الشيطان الجديد! 

وبالعودة من جديد لمارتن هايدجر، فقد أشار إلى عواقب تلك العلاقة الثلاثية بين الإنسان والعالم والتكنولوجيا: 

أولاً: تحجب التكنولوجيا المعاني العميقة للموجودات في العالم الطبيعي، لأنها تشجع على النظرة الاستهلاكية لكل ما فيه؛ فيتحول الموجود / الكائن / الحياة إلى إمكانية / وسيلة / ثروة. وبصورة إجمالية، تصبح الطبيعة ساحة اختبار وتجريب وقياس بدلاً من كونها عالمًا غني بالمعاني والقيم. 

ثانيًا: يسهل التحكم في الأفراد والتلاعب بهم بصورة خفية تشعرهم دائماً بالقلق هنا وهناك، الخوف من خسارة وظيفة مثلاً، لكنهم لا يشعرون أبداً بخطورة التلاعب والتحكم في حد ذاته. 

الإنسان والآلة في المستقبل: هل انتهت اللعبة؟

إن توفير مزيد من الشفافية هي شرط ضروري لاستخدامنا المستقبلي للذكاء الاصطناعي بحس أخلاقي قائم على المسؤولية. ولذلك يجب التأكد باستمرار من أن مطوري الذكاء الاصطناعي غير مشغولين فقط بتطوير الأداء التقني، ولكن واعين أيضَا بالأثر الاجتماعي للذكاء الاصطناعي
سينثيا بريزيال Cynthia Breazeal – باحثة في مجال الذكاء الاصطناعي

تتمثل أكبر المخاوف الحالية في قدرة تلك البرامج على نشر معلومات مضللة عن الواقع السياسي أو الاجتماعي، بالإضافة طبعاً لقدرتها على خلف دعاية سياسية أو فكرية كاذبة، ورغم براعة البشر وباعهم الطويل في التضليل، إلا أن تلك البرامج والأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أكثر تقدمًا في مجال المعلومات، العنوان الأكبر للعصر الحالي.

تستطيع تلك البرمجيات – مثلاً – أن تخلق قصص إخبارية ومقاطع فيديو مزيفة تماماً، لكنها مقنعة لأقصى حد بحيث لا يستطيع المستخدم الغارق في فوضى التواصل الإجتماعي تمييزها عن الحقيقة.

بالطبع، اقترح العديد من المختصين في المجال حلولأً تعتمد في الأساس على فرض نوع من الميثاق الأخلاقي، قد يتضمن مثلاً مطالبة مطوري البرامج بالكشف عن بيانات التدريب والتعليم المستخدمة لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأيضًا الكشف عن الخوارزميات المستخدمة لتوليد المعلومات.

بينما يرى البعض أنه من المستحيل أن تحكم تلك الإرشادات الأخلاقية المجال، لأن الهوس الأكبر بالنسبة لمطوري الذكاء الاصطناعي زيادة الكفاءة التقنية فقط، وعلى هذا الأساس تم اقتراح حلول عملية من داخل المجال نفسه وبشكل تقني.

تتمثل أحد الحلول المقترحة في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي مصممة خصيصًا لاكتشاف أي تلاعب في المعلومات والتصدي له، وقد بدأ الباحثون في تنفيذ الفكرة، على سبيل المثال، طور باحثون في جامعة واشنطون نظام ذكاء اصطناعيًا يمكنه اكتشاف الأخبار المزيفة بدرجة عالية من الدقة.

في كل الأحوال، يبدو أن موقع البشر يتغير تدريجيًا، فالوصايا الأخلاقية لن تستطيع أن تقف في وجه موجة الذكاء الاصطناعي الصاعدة، ويبدو أن الحلول التقنية من داخل المجال ستلعب دورًا إيجابيًا إلى حد ما في تقليل مخاطر التلاعب، ومع ذلك تبقى القضية المحورية عن موقع الإنسان من سيطرة الآلة حاضرًا؛ في أفضل السيناريوهات، سوف نشهد عالمًا كاملأ قائم على الخوارزميات والبرمجيات شديدة الذكاء، وذلك السيناريو المتفائل يترك فقط للبشر موقع المتفرج على الحرب بين البرمجيات الضارة وبرمجيات الحفاظ على النظام!