استطاع «عمر طاهر» عبر مشوار حياته في الصحافة والكتابة أن يخط لنفسه طريقًا خاصًا وأسلوبًا متميزًا، سار بعده فيه الكثيرون، وسعى الكثيرون لتقليده، ولكن بقي هو «العمدة» وصاحب السبق في كثيرٍ من الأفكار الخاصة به، والتي حملت بصمته المميزة، كما برع في تلك الطريقة الخاصة في الكتابة التي تحوي البساطة المدهشة والعمق الشديد، دليله وأستاذه في ذلك «صلاح جاهين» الذي قال في واحدةٍ من رباعياته:

أنا كنت شيء وصبحت شيء ثم شيء.. شوف ربنا قادر على كل شيء هز الشجر شواشيه ووشوشني قال: لابد ما يموت شيء عشان يحيا شيء

فالكاتب الذي اقتحم الحياة الثقافية المصرية بقوّة بكتبه التي حققت أعلى المبيعات ولم تكون سوى كتب ساخرة، تحمل عناوين غريبة على القارئ المصري في حينها («شكلها باظت»، و«كابتن مصر» و«ألبوم ساخر للمراهقين») سرعان ما أصبح كاتب عمود ثابت في عدد من الصحف المصريّة يتهافت عليه القرّاء خاصة من الشباب.

وسرعان ما اقترن اسمه بوصفة الكتابة «السهلة الممتنعة» التي تقدم الفائدة والمتعة في سطر ومقالٍ واحد، وما إن تغيِّر الحال بالناس وقامت الثورة، حتى انتقل «عمر طاهر» لكتابة مقالات شديدة الثراء والخصوصية عن المجتمع المصري وأصدر كتابه «كمين القصر العيني» عام 2012 والذي جمع فيه مقالات عام الثورة الأوّل حينها، وكان من أشد الكتب رواجًا في ذلك الحين.


بين الأغاني والحنين للذكريات

ثلاثة أعوامٍ مرت على كتاب «إذاعة الأغاني» الذي أصدره «عمر طاهر» وأثار به شجونًا كثيرة لدى شريحة كبيرة من القرّاء، ذلك أنه حمل معه العديد من الذكريات والمواقف التي وجدناها مرتبطة بالأغاني التي سمعناها في ذلك الوقت، بل جعل هذا الكتاب عدداً من القرّاء يسردون تجاربهم وحكاياتهم الخاصة في علاقتهم بالأغاني بشكل خاص، ويبدو أن أثر الأغاني والذكريات بقي ملازمًا لعمر طاهر يعود إليه وينهل منه كلما أراد.

في كتابه الجديد «كتاب المواصلات» الصادر مؤخرًا عن دار الكرمة أيضًا، سنجد أثرًا كبيرًا للموسيقى والأغنيات في عدد من المقالات بشكلٍ واضح مثل مقال «يا غريب الدار» أو التي يتناول فيها شخصيات غنائية مغمورة في عالم اليوم. في مقال «عماد وعمر» الذي يتحدث فيه عن ظروف وملابسات حياة الفنانين «عماد عبد الحليم»، و«عمر فتحي» وكيف كان لكلٍ واحدٍ منهما طابعه الخاص وأثره البالغ في المجتمع المصري فترة ظهورهما وحتى وفاتهما.

أو عندما يحكي في «غنوة» ببساطة وشاعرية عن أغنية «زي الهوا» لا ليتوقف عند الكلمات أو أثرها في نفسه فحسب، بل ليلفت نظر القارئ إلى أثر كل ما حول تلك الأغنية الجميلة من عوامل طبيعية أثّرت على الشاعر «محمد حمزة» وجعلته يكتب هذه الكلمات ويلحنها «بليغ حمدي» ويغنيها بعد ذلك «عبد الحليم حافظ».

يعرف «عمر» كيف يلتقط تلك التفاصيل الصغيرة العابرة، كما يمتلك موهبةً خاصة تتمثل في الحكاية، ولُحسن الحظ يجيد وضع هذه الحكاية في القالب المناسب لها، ويتوفّر له في كل مرة ومع كل حكاية من حكاياته هدف وغاية.

تأتي الحكايات بسيطة عفويّة محملة بشحنة من الذكريات، ولكنك ما إن تنتهي من ذلك المقال وتلك الحكاية حتى تشعر بتنهيدة خارجة من صدرك بعد أن دار رأسك مع كل فقرة بالكثير من المواقف والذكريات وربما الحكايات الخاصة بك التي يمكن أن تكون مشابهة.


هواجس الكاتب وحكاياته

في كل مرة يلتقي «عمر طاهر» بقرائه في حفلة من حفلات التوقيع أو حتى لقاء خاص به لابد أن يجد سؤالاً أو أكثر من الحاضرين حول «الكتابة» وكيفية النجاح فيها، وكيف يمكن أن يصل الكاتب المبتدئ إلى ما وصل إليه، و«عمر» لا يملك وصفة خاصة مجربة يقدمها لقرائه ومحبيه، ولكنه يملك تجاربه الشخصية التي يمكن أن تبقى علامات على الطريق، ولعل أهمها وأوضحها في مشواره الإصرار والمثابرة، وربما يكون هذا ما دفعه لكي يعد ويقدّم برنامجه «وصفوا لي الصبر» الذي لاقى نجاحًا كبيرًا عند عرضه مؤخرًا.

اقرأ أيضًا: الكتابة وأهلها عمر طاهر يصف لنا الصبر

في «كتاب المواصلات» نجد أثرًا من تلك الأفكار التي تدور في فلك الكتابة وعالمها في أكثر من مقال، فهو يستعرض تجربة الكاتب وكيف تمر حياته بثلاث مراحل هامة لكي يبقى على الطريق الصحيح في مقاله «الحكيم والدليل والرجل الطيب» الذي يدين فيه بالفضل لعدد ممن صادفهم في رحلة عمله الصحفية، كما لا ينسى أن يذكر الفضل الكبير الذي كان لوالدته «ثناء عمر» يوم أن تركته يخوض غمار تجربة حياة العمل وحيدًا في «القاهرة» بعد أن خاب أمله فيها بأن يكون طبيبًا، أو العون الذي قدمته له الكاتبة الصحفية الكبيرة «سناء البيسي» في بداية مشواره العملي في الصحافة.

أعيش داخل فايل وررد، لخصت زوجتى حياتى ككاتب، لا توجد إجازة فى هذا العمل، هى المهنة الوحيدة التى لا راحة فيها، يحصل الضابط والمهندس والوزير والطالب والبواب على إجازة، لكن الكاتب لا يعرف من الذي يمكن التقدم له بطلب إجازة؟ فالعقل لا يتوقف عن التأمل والبحث عن الأفكار في كل شىء يقابله. أخرج المحمول على الشاطئ في المصيف تعتقد زوجتي أني بصدد التقاط سيلفي جماعي، لكنني أخرجه لأكتب أن (الموج أكثر جبنًا من أن يفكر فى الرجوع، وأن الرمال ما هي إلا أمواج مهزومة) أستخرج فيديو حفل زفافي ترى زوجتي في الحركة لفتة رومانسية، والحقيقة أنني كنت أرى آخر تسجيل ظهر فيه أحد الراحلين كنت أنوي أن أكتب قصة عنه.

هكذا يرى «عمر طاهر» العالم من حوله، وهكذا يلخَّص حيرة الكاتب أمام أفكاره وأعماله، يعرف كذلك تمامًا عددًا من هواجس الكاتب لا سيما ذلك الكاتب الحر غير المقيد بقصة أو شخصياتٍ يرسم مصائرها في رواية، يعرض للقارئ مشكلة تداعي الأفكار في مقال «الولاعة» مثلاً بطريقة واقعية تدعو للسخرية ولكنها تصل بالقارئ إلى تلك الحالة التي يعرفها كل كاتب تمامًا.

يعرف ألاعيب الخيال ويجيدها تمامًا فيعرض أجزاءً شيقة منها في مقالات مثل «قبل النوم بـ20 دقيقة»، أو مقال «اتفضل قهوة» الذي يقابل فيه بين فوران الأفكار في ذهن الكاتب وفوران البن أثناء إعداد فنجان القهوة المضبوط، وما يجره عليه ذلك من ذكريات تعود به لأيام الصبا والشباب.

يحكي «عمر طاهر» عن أصدقائه ومعارفه في «كتاب المواصلات»، ليستعرض نماذج من الرجال والنساء الذين يقابلهم ويتأثر بهم ويؤثرون فيه، وكيف تنعكس علاقته بهم ككاتب على حياته، وكيف يجد الكاتب نفسه متورطًا في متطلبات الحياة ومصاريف عائلته اليومية التي تقض مضجعه مثل غيره من الناس.

نجد ذلك في المشهد القصصي الذي يرسمه ببراعة في «مروا أسفل شرفتي»، أو في مقال «القبض»، أو اللحظة التي يلتقي فيها جاره مصادفةً ويحكيها في مثال «مهما الأيام تعمل فينا». كما يجيب عن أسئلة وجودية مثل أين تجد السعادة؟ وما الذي يدهشك؟ أو متى شعرت بمرور الزمن؟ في مقاله «سألت نفسي كتير» الذي يصوغ فيه إجاباته بطريقة سردية شيقة ومتنوعة أيضًا.

وهكذا في كل مقال/حكاية من مقالاته نجد تلك الحكمة التي تتسرّب خفية بين الكلمات بشكلٍ عفوي، كما نجد بين الحين والآخر صوتًا هامسًا بأغنيةٍ أو أكثر على خلفية إحدى تلك الحكايات يمنح المقال والكتاب والتجربة بصفةٍ عامة بعدًا آخر وتميزًا لا يجده القارئ عند كاتب غير عمر طاهر.

في النهاية يمثّل «كتاب المواصلات» حلقة جديدة في سلسلة كتابات «عمر طاهر» التي تمنح القارئ المتعة، وهي إن كانت تهدف أن تكون غير مزعجة -كما يذكر الناشر على الغلاف الخلفي للكتاب- إلا أنها تنجح أيضًا في منح القارئ ذلك الونس في رحلة قراءة الكتاب وبعض التفكير اللازم لمواجهة مشقات الحياة وصعابها.