في حراسة 400 جندي مُسلَّح دلف إلى أهم أماكن القاهرة، حشد مهول من عوام المصريين تجمّعوا لإلقاء نظرة الوداع الأخير عليه، امرؤ أربعيني مهيب الركن، قوي البدن، واسع الجبين، أسود العينين والحاجبين واللحية، أتوا به مُوثَّق اليدين، يركب كديشا (فرس غير أصيلة)، ويرتدي ثياب عرب الهوّارة في الصعيد، بالرغم من رؤيته للحبل الذي تدلى من باب زويلة منتظرًا رقبته، إلا أنه كان رابط الجأش يُلقي السلام على الجميع ويُحييهم، إلى أن بلغوا به وِجهته الخاتمة.

قرأ الفاتحة ثلاث مرات، ثم طلب من المُكلَّف بإزهاق روحه أن «يبدأ عمله»، وبينما الرجل يفعلها انقطع الحبل حول عنقه مرتين، دبَّ الأمل في نفوس الناس، هل تُنقذ قائدهم معجزة إلهية تفعل ما عجزت عنه الخيول والنصال؟ الثالثة كانت ثابتة للأسف، ولم تنتهِ إلا بطلوع روحه، وحينها صرخ عليه الناس صرخة عظيمة وباتت مَنْدبة كُبرى، وأنشد المؤرخ المصري ابن إياس:

لهفي على سلطان مصـــــــر وكيف قد
ولى وزال كأنه لم يذكــــــــرا

شنقوه ظلما فوق باب زويلة
حتى أذاقوه الوبال الأكبرا

كانت هذه آخر مرة ترى فيها القاهرة آخر مماليكها طومان باي.

ما عداوة إلا بعد محبة

يؤكد أسامة حسن في كتابه «طومان باي.. آخر سلاطين المماليك»، أن علاقة طيّبة جمعت بين العثمانيين والمماليك باعتبارهما رأسي حربة الإسلام السُنّي بالعالم، ولِمَ لا؟ فالأوائل حقّقوا انتصارات هائلة في أوروبا وآسيا الصغرى، أما المماليك الذين كانوا يحكمون مصر وبلاد الحرمين، فقد كانوا مظفّرين بأمجاد إنهاء وجود الصليبيين ودحر المغول وإعادة الخلافة العباسية من جديد بعد زوالها في بغداد.

جمعهما المذهب السُنّي وكراهية مُتأصِّلة للنصارى والشيعة، وتشهد الرسائل المتبادلة بين قادة الطرفين على احترام كبير لكلٍّ منهما، فالمملكتان «روحان في جسد، وساعدان في عضد»، ولطالما وُصِف حكّام القاهرة بأنهم «قادة العرب»، و«حماة الحرمين الشريفين»، وأن السلطان المملوكي هو «خادم المساجد الثلاثة» (الأقصى والحرمين الشريفين)، وكثيرًا ما كان السلاطين العثمانيون يستشيرون أقرانهم المماليك في بعض الفتوحات، ويطلبون أطباء مصريين أو بعض المنتجات المصرية، فيما كان الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يُرسل لآل عثمان «تقاليد السلطنة» إليهم؛ اعترافًا بجهودهم في جهاد الصليبيين.

لكن النجاحات العسكرية المتتالية للعثمانيين والاضطرابات التي وقع المماليك في هوّتها، دفعتا أحفاد أرطغرل للطمع في أن يكون لهم كل شيء؛ مجد دحر الروم بالغرب ودعاء المسلمين من على منابر الشرق، وبزغت فكرة الاستيلاء على بلاد المشرق الإسلامي في عهد محمد الفاتح، إلا أنها لم تُنفذ.

بعد وفاة محمد الفاتح، حدث نزاع على السُلطة بين ولديه، بايزيد خان الثاني و«جم»، هُزم فيه الأخير فلجأ إلى مصر بصحبة أمه وزوجته، فاستقبله سلطان مصر، وقتها، قايبتاي وكانت هذه الفِعلة أول شرخ عميق في العلاقة بين المملكتين.

ولما جاء الغوري من بعده، أراد إصلاح العلاقات، فبعث برسالة لبايزيد الثاني أكد لها فيها أن قايبتاي «انعوج عن المصادقة»، أما هو فيسعى إليها، فبدأت العلاقات تتحسَّن بين الطرفين مُجددًا، إلا أن موت سطان تركيا أشعل النار مجددًا بسبب رغبته في توزيع مُلكه بين أولاده، وهو ما لم يرُق لابنه سليم الذي عُرف بقسوته المفرطة حتى نال لقب «الجبار البطاش»، فقتل معظم إخوته إلا واحداً، هو أحمد الذي هرب إلى الكوفة وأرسل أبناءه سليمان وعلاء الدين وقاسم إلى مصر، مات الأولان على الفور بالطاعون، بينما بقي الأخير، وكان صبيًا لم يبلغ 13 عامًا، ولما طالب سليم من الغوري تسليمه رفض، فكانت شرارة الحرب الشاملة.

استغلَّ سليم قيامه ببعض الحروب ضد الدولة الصفوية الشيعية التي كان تفصل بينه وبين المماليك، واتهم الغوري بأنه يدعمهم على حسابه، وبعد ما انتصر سليم على الصفويين، أصبحت حدوده مُلاصقة لمصر، وبات الصدام مسألة وقت، وتداعت كرة اللهب حتى بلغت ذروتها 15 رجب عام 922م حين اصطدم الجيشان معًا في مرج دابق (قُرب حلب)، وحقَّق سليم انتصارًا ساحقًا بفضل كثافة جيشه وبراعة جنوده في استخدام البارود، وهو السلاح الذي لطالما رفض المماليك استعماله بدعوى أنه «غير إسلامي»، معتبرين أن فروسيتهم وبراعتهم في الكرِّ والفرِّ كفيلان بالنصر على الأعداء. قُتل الغوري بصحبة معظم مماليكه وأمرائه وسقط الشام في أيدي التُرك ولم يعد لمصر أمل من الوقوع في قبضتهم إلا طومان باي.

أمير الغيبة

كعادة أيِّ مملوك دخل مصر، فإن طومان باي الذي حكم البلاد بدلاً من الغوري، كان «ابن اللحظة التاريخية»، بعد ما ساقته الأحداث الجِسام لمهام بالغة الخطورة خلّدت ذِكره دون أن نعرف عنه الكثير. من هم أهله؟ من أي بلاد أتى؟ من ربّاه وهو طفل؟ لا نعلم، فقط تخبرنا كُتب التاريخ أنه وُلد عام 878هـ/1473م، وأنه أتى من إحدى بلاد الجركس، بعد ما اشتراه الأمير قنصوه الغوري لقرابته له، وقيل إنه ابن أخيه.

وقبل أن يتورط في منصب السلطنة، عُهد إليه بعشرات المناصب المهمة من «أمير جمدار» المعني بترتيب ثياب السلطان، مرورًا بـ«أمير طبلخانة» والذي يقود قوة لا تقل عن ألف جندي و40 مملوكا، وحتى «الدودار الكبير»، وهو الذي يحمل دواة السُلطان ويضع توقيعه على المراسيم، وهي وظيفة أشبه ما تكون بمدير المكتب أو السكرتير الخاص، وكانت آخر مناصبه في ظِل الغوري هو «نائب الغيبة»، وهو من يقوم مقام السلطان خلال غيبته.

عُرف عنه الكفاءة والإخلاص الشديدين في أداء مهامه، وكان مُحببًا للرعية، يُلازم زيارة المشايخ، ولم يظهر عليه شيء من أفعال المماليك الرديئة، فلم ينهب دور الناس ولم يشرب الخمر، واقتصر في الزواج على امرأة واحدة، بدلاً من الاقتران بالمئات كما فعل غيره.

عقب وفاة السلطان الغوري في مرج دابق، أجمع المماليك على اختياره أميرًا عليهم فامتنع لأكثر من 50 يومًا خوفًا من غدرهم الذي ألفه طويلاً مع سلاطين آخرين، إلى أن قَبِلَها أخيرًا بعد ما تدخل بعض رجال الدين على الخط، أبرزهم شيخ الصوفية أبو السعود الجراحي.

وفي 14 رمضان 922هـ بُويع طومان باي بالسلطة، وتم اختصار مراسيم الاحتفال بسبب الخطر العثماني الذي يطرق الأبواب، فسار بموكب بالشوارع وحوله الأمراء ورجال الدولة ومندوب الخليفة العباسي، وتزيَّنت القاهرة احتفاءً به، وخرج السكان لتحيته دون أن يدروا بالطبع أن السلطان الـ47 في دولة المماليك، التي حكمت مصر قرابة 3 قرون (1250م- 1517م)، لن يأتي بعده أحد.

تولى طومان باي البلاد في أسوأ أحوالها، ليس فقط لأن جحافل سليم الأول كانت على وشك الاستيلاء على قلعته، وإنما لأن سياسات أسلافه المماليك طوال عقود أسفرت في النهاية عن انهيار الأحوال الاقتصادية والمعيشية، فكثرت المظالم وشاع النهب والفوضى، كما وكثرت الزلازل والمجاعات والأوبئة، ووسط كل هذا الوهن تلقى رسالة خطيرة من أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، قال له فيها سليم، إن الله أوحى إليه بأن يُملّكه البلاد شرقًا وغربًا، كما ملكها الإسكندر ذي القرنين من قبل، ويعتبر نفسه بسبب انتصاره على الغوري سُلطانًا على أملاكه، ويدعوه أن يُعلن طاعته له وأن يجعله نائبًا له من غزة إلى مصر.

وضعت هذه الضغوط طومان باي في وضعٍ لا يُحسد عليه، خاصةً وأن «مرج دابق» هوت بقوته العسكرية إلى الحضيض، فالمماليك جيشه الوحيد لا يتوقفون عن إثارة القلق، اضطر أن يسجن بعض المتقاعسين منهم والذين تسببوا في هزيمة الشام، علاوة على أن نفرًا منهم سعوا لإزاحته من السُلطة بتولية محمد بن الغوري بدلاً منه، وفوق كل هذا كانت خزائن البلاد خاوية بعد أن جمع قنصوه الغوري كُلَّ مالها واستودعها في قلعة حلب، التي استولى عليها سليم ودانت له ثروة بلا حصر.

وعلى الرغم من هذا حاول توفير أقصى عُدة ممكنة لجيشه، فأمر بعمل البنادق والمكاحل، وأرهق جنوده في التمرين عليها «حتى أن القاهرة كانت ترتجُّ لقذائفهم»، واستعدَّ لمقابلة العثمانيين بجوار القاهرة بالمطرية في مكان اسمه الريدانية، يقع خارج أسوار القاهرة من ناحية باب النصر، وكان قديمًا عبارة عن بساتين وأسواق، إلا أنه خرب مؤخرًا وبات قطعة أرض جرداء.

القاهرة حمراء

وفي الخميس 29 من ذي الحجة سنة 923هـ تلاقى الطرفان، وجرت موقعة أعظم مما حدث في مرج دابق، كانت النصر فيها للعساكر الحُمر (العثمانيين) واضطر طومان للانسحاب، فلاحقهم العثمانيون ودخلوا القاهرة وتعقبوا المماليك في كل مكان ومن كان يقع منهم يُضرب عنقه فورًا، حتى اضطروا للتخفي في أزياء الفلاحين وملابس الفقراء، وبحجة البحث عن أعدائهم نهب العثمانيون القاهرة لـ3 أيام، فلم يتركوا خيلاً ولا بغالاً ولا أقمشة إلا وأخذوها حتى أمرهم سليم بالتوقف.

وفي يوم الإثنين 3 من المحرم سنة 923 دخل سليم القاهرة في موكب حافل، بعد ما فُرش الحرير تحت حوافر فرسه، وعُلقت الرايات الحمراء على الشوارع، وأطلقت في الأجواء مجامر العود ومرشاة الماورد، وفي يوم الجمعة الذي تلاها خُطب له من فوق المنابر لأول مرة، بدلاً من طومان باي الذي بقي مصيره طيّ النسيان.

يقول محمود الشرقاوي في أطروحته «السلطان الشهيد طومان باي»، إنه بعد هذا الموكب بيومين، وفي مساء اليوم الخامس من محرم، بينما كان سليم يقيم داخل السرادق الذي نصبه لنفسه على شاطئ النيل في بولاق، انطلقت الصيحات الخائفة تندلع من معسكر العثمانيين، بعد ما بدأت الخيام تحترق على إثر جمال تحمل على ظهورها أثقالاً مُشتعلة راحت تجري بين الخيام، تشعل النار في كل شيء وتنشر الذعر في نفوس الأتراك، وبعدها انطلق هجوم الأحياء على الغزاة وتحولت القاهرة كلها إلى مسرح حرب.

خارج العاصمة كان يقف طومان باي يتعرّف على أنباء القتال، وتُلقى تحت أقدامه رؤوس كبار قادة العثمانيين الذين قُتلوا، حتى قرر الظهور بنفسه في حي «الصليبة» يقتل ويُقاتل، وحارب جنده من كلِّ مكان بما فيها البيوت ومآذن المساجد، وهكذا استمرت المقاومة 4 أيام متتالية، وبدا أن الكفَّة مالت إلى طومان مجددًا إلى حدٍّ جعل الخطباء يعودون للدعاء بِاسمه في الجمعة التالية.

لم يكن التُرك ليستسلموا بسهولة، فأمطروا القاهرة ببارودهم وحرقوا مئات البيوت وقُتل نحو 10 آلاف فرد، حتى قُمع طومان وجنده مُجددًا، فانسحبوا بعد ما ألحقوا بأعدائهم جسائر جمّة، وصفها المؤرخ ابن إياس: «صارت القتلى من الجانبين أجسادهم مرمية من بولاق إلى قناطر السباع إلى الرميلة إلى تحت القلعة، وفي الحارات والأزقة وهم أبدان بلا رؤوس».

ثم تلاقى الجيشان في معركة أخيرة ونهائية بصحراء الجيزة قضت على آخر آمال طومان في العودة لحُكم مصر بعد ما فُني معظم جيشه، اختبأ بعدها في قرية البوطة من مديرية البحيرة، ونزل على صديقه شيخ العرب حسن مرعي، الذي أحسن استقباله وأقسم له على المصحف سبع مرات ألا يخونه، إلا أنه فور أن رفع يده عن الكتاب الشريف أرسل إلى سليم العثماني يُخطره بمكان طومان باي، فقبضت عليه فرقة عثمانية وحملوه مربوطًا ببغلة إلى القلعة، وما أن بلغ الأخير هذا النبأ، حتى قال: الآن ملكنا مصر.

إنك يا سلطان الروم، غير ملومٍ على سقوط مُلكنا وهزيمتنا، بل الذنب كله على الخونة.
طومان باي مُتحدثًا إلى سليم الأول بعد أسره

استبقى سليم طوما أسيرًا لفترة من الزمن قبل أن يأمر بشنقه على باب زويلة، المكان الذي اعتاد المماليك أن يقتلوا عليه أعداءهم، بداية من عتاة المجرمين وحتى أعداءهم السياسيين، وربما كان أشهرهم رُسل المغول، ومن يومها عُرف الباب بلقب آخر وهو باب المتولي، لأنه كان آخر ألقاب طومان باي قبل أن يصير سُلطانًا.