إيقاف العمل بقانون الميزانية لعام 2018… عودة الأسعار لما كانت عليه… تشغيل فرد من كل عائلة معوزة.

هكذا كانت مطالب التونسيين المحتجين تحت شعار «فاش نستناو» (ماذا ننتظر!)، وذلك على قانون المالية التي فعلته الحكومة في يناير/كانون الثاني الجاري. يأتي ذلك تزامنًا مع الذكرى السابعة للثورة التونسية، الأيقونة التي غيرت وجه المنطقة بأكملها.

خرج المحتجون يوم الاثنين، 8 يناير/كانون الثاني 2018، في العديد من المدن التونسية،تنديدًا بقانون المالية الذي فَعلته الحكومة التونسية برئاسة يوسف الشاهد، وكذلك للتنديد بالواقع الاقتصادي للبلاد وغلاء الأسعار وتفشي البطالة. الأمر الذي قابلته الحكومة بإطلاق الغاز المسيل للدموع من أجل تفريق المتظاهرين، واعتقال العديد منهم. وقد أسفرت المواجهات عن سقوط أحد المتظاهرين ويُدعى «خميس اليفرني» في مدينة طبربة الواقعة غرب العاصمة التونسية. وقد ذكر المحتجون أنه توفي نتيجة دهسه من قِبل سيارة تابعة للشرطة التونسية، في حين نفت الداخلية ذلك الخطاب وصرحت بأن الرجل كان يعاني أزمة صدرية، وبأنه توفي نتيجة استنشاقه الغاز المسيل للدموع الذي أُطلق على الجموع المتظاهرة.

توسعت الاحتجاجات لتضم العديد من المدن التونسية منها طبربة وقفصة والقصرين وسيدي بوزيد التي كانت النقطة التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية على نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في ديسمبر/كانون الأول 2010.

الأمر الذي أدى لتعزيز التواجد الأمني والعسكري في عدة مدن تونسية وذلك من أجل السيطرة على الأوضاع التي اعتبرها البعض فوضوية. فأصُيب العشرات في مواجهات بين قوات الأمن والمحتجين. كما تخللت المظاهرات أعمال نهب للمحال التجارية ومستودعات الحجز البلدي واقُتحمت مؤسسات حكومية من قِبل مجهولين، وقد صرح راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة:

كل داعٍ للخروج للاحتجاج في الشارع مساهم في عمليات التخريب والفوضى التي شهدتها البلاد في عدة مناطق.

وصرحت الداخلية لإحدى الوكالات الفرنسية بأن 49 شرطيًا قد أُصيبوا بجروح خلال الصدامات في عدد من المدن التونسية، كما تم توقيف واعتقال نحو 800 شخص اعتبرتهم الداخلية ضالعين في الاحتجاجات ومشاركين في تخريب ممتلكات وأعمال عنف. بينما تعهدت المعارضة باستمرار الاحتجاجات حتى إسقاط قانون المالية.


ما بين النهضة ونداء تونس يغيب الأفق

تعاني الساحة السياسية التونسية من اضطراب سياسي محتقن، وإذا كانت الاحتجاجات المندلعة أسبابها اقتصادية إلا أن زعيم الجبهة الشعبية عمار عمروسية يرى أن الحكومة «تحايلت على الشعب بإقرارها الضرائب الجديدة» الأمر الذي أدى لاندلاع الاحتجاجات ضد الحكومة.

جاء الصراع المبطن لحركتي النهضة ونداء تونس. كنتيجة لما يعانيه الواقع السياسي من احتقان. حيث أعلنت الأخيرة انفصالها عن حركة النهضة على أثر خسارة المرشح المنتمي لحركة نداء تونس في الانتخابات التشريعية على دائرة ألمانيا، وصرّح الناطق باسم الحزب بأن «بيان الحزب الجديد هو إعلان رسمي لإنهاء مرحلة التوافق مع حركة النهضة».

وأظهرت نداء تونس أن هذا الانفصال جاء «للدفاع عن مشروعها الوطني العصري المدني في منافسة رئيسية للمشروع الذي تمثله حركة النهضة»، حيث إن الانفصال جاء قبل مشهد جديد من اللعبة السياسية في تونس وهي الانتخابات المحلية الأولى بعد الثورة والتي ستعقد في مايو/آيار 2018 والتي ستكون ممهدة لتكوين المشهد التشريعي في تونس بإجراء الانتخابات التشريعية في عام 2019.

الأمر الذي جعل نداء تونس تعلن أن قوائمها الانتخابية ستكون مفتوحة على الكفاءات لأنها تدافع عن مشروع عصرني مدني في مواجهة مشروع ديني متمثل في حركة النهضة المعروفة بممارستها الإسلام السياسي.

واعتبرت حركة النهضة أن الساحة السياسية قائمة على التنافسية، وأن نداء تونس يحاول استرجاع قاعدته الجماهيرية التي فقدها بالدخول في مرحلة التوافقية مع المرجعية الدينية المتمثلة في النهضة.

واعتبر ممثل حركة النهضة أنه «إذا كان مشروع نداء تونس لخوض الانتخابات البلدية قائم على العصرية، فحركة النهضة في قلب العصرية، والحداثة ليست حكرًا على أحد، وقد ناضلنا طويلًا في سبيل دولة ديمقراطية مدنية في تونس ما بعد الثورة».

الأمر الذي يجعل الشعب في حالة استقطاب سياسي مستمر من قِبل الأحزاب والحركات السياسية. خصوصًا أن تلك الأحزاب مفتقرة لتقديم حلول جذرية وتصورات لمشاكل الواقع التونسي، الأمر الذي جعل الرئيس الأسبق منصف المرزوقي يصرح قائلاً:

ما يهمني أن تبقى تونس في استقرار سياسي، وأن تحترم كل الأطراف قواعد اللعبة الديمقراطية، دون أن يقع عنف وحرق.

ووجه المرزوقي خطابه للتونسيين يحثهم أن يكون التغيير من داخل المنظومة الديمقراطية، وأن الأفق المنتظر لهم في عام 2019 سيكون هو المحور الأساسي للتغيير، مشيرًا للانتخابات البرلمانية والتشريعية المقبلة.


الوضع الاجتماعي والاقتصادي في تونس

سعت تونس لإنتاج نموذج مغاير، والسير في طريق مختلف عما آلت له الثورات العربية في المجتمعات المجاورة. وأثناء تصاعد الثورات المضادة والصراع المسلح في المنطقة نبذت تونس العنف وسعت لإقامة نظام ديمقراطي قائم على التداول السلمي للسلطة. لكن الأمر لم يسر على وتيرة ثابتة بل تصاعدت الاحتجاجات تارة وتبدلت الحكومات حتى وصلنا للحكومة الثامنة في تاريخ تونس بعد الثورة.

في 13 يونيو/تموز 2017 وُقِعت الوثيقة التونسية التي عُرفت بوثيقة قرطاج والتي أقرها تسعة أحزاب وثلاث منظمات. وقد تضمنت الوثيقة الخطوط العريضة والعامة للسياسات الاجتماعية والاقتصادية للفترة المقبلة.

وتمت تشكيل الحكومة الثامنة لتونس بعد الثورة برئاسة يوسف الشاهد. الذي أقرّ صعوبة الوضع الاقتصادي في البلاد. كما أمل أن ينتهي ذلك خلال هذا العام.

وحددت الحكومة الأولويات التي تعمل عليها؛ بدايةً من الحرب على الإرهاب، ثم مقاومة الفساد، وإرساء الحوكمة الرشيدة، والتحكم في الموازنات المالية، وتنفيذ سياسات اجتماعية ناجحة، وأخيراً ترسيخ الانتقال الديمقراطي وحمايته من الانحراف.

ولكن الوضع الاجتماعي ما زال مصاباً بالعديد من المشاكل والتحديات؛ فبالطالة هي إحدى أهم المرتكزات التي ينبني عليها مشاكل المجتمع التونسي؛ حيث إن نسبة البطالة وصلت إلى نسبة 15.6 % لعام 2016، مقابل 15.2% لعام 2015، بالإضافة إلى الريف الذي مازال مهمشًا بدرجة عالية.

فسوء الأوضاع السياسية وسقوط حكومات وتشكيل أُخرى، وتراجع الأحوال الاقتصادية وتفتت الطبقة الوسطى داخل ميكنة الاقتصاد والتهديد بتلاشيها، وزيادة نسبة البطالة في المجتمع كفيل بأن يُحدث ثورة ثانية في ذكرى الثورة الأولى. خصوصاً أن الحكومة لم تراع حالة الاحتقان التي يعايشها الشعب وقامت بإصدار قانون مالية يُسيء الحالة الاقتصادية أكثر من ذي قبل، ويُفقِد المواطن التونسي قدرته على شراء مستلزماته الضرورية لمعيشته.


قانون المالية 2018

جاء في تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي الصادر في 2 مايو/آيار 2017 من صندوق النقد الدولي حول منطقة الشرق الأوسط وآسيا الصغرى، والذي ناقش سبل التنمية الاقتصادية في تلك البلدان أن:

تَحسن آفاق الاقتصاد العالمي يعد فرصة كبيرة، لكن مستوى المخاطر ما زال مرتفعًا، وأن الإصلاحات لا غنى عنها لضمان القدرة على الصمود وتحقيق النمو، بل إنه ما زالت الحاجة ماسة للتصحيح الاقتصادي في بعض البلدان، وضرورة متابعة مواطن الضعف في القطاع المالي لتلك البلدان، وأن بعض الدول أكثر إلحاحًا من دول أخرى. وقد حُددت المحاور التي لابد أن يتم العمل عليها في: 1-بيئة الأعمال وخلق بيئة تجذب الاستثمارات. 2
الإصلاحات الهيكلية في المالية العامة للدول والنظام المصرفي لها.

وكانت أولويات الحكومة التونسية في إعداد برنامج للنهوض الاقتصادي بالبلاد. الأمر الذي أدى إلى إصدار قانون المالية وبداية تفعيله من يناير/كانون الثاني الجاري. جاء القانون ملتزمـًا بالقواعد التي أقرها الدائنون الدوليون لخفض عجز الموازنة، وإقرار المبادئ التي تضمنها تقرير صندوق النقد الدولي.

حيث جاء القانون بزيادة أسعار الوقود والأدوية وبعض المنتجات الاستهلاكية الأكثر استخدامًا مثل الشاي والقهوة. كما أنه رفع الضرائب عن الاتصالات الهاتفية والتأمين، كما أقرّ اسقتطاع 1% من مرتب كل موظف لصالح الصناديق الاجتماعية والتي تراها الحكومة أنها تعاني عجزًا.

هذا وقد صرح الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أكبر نقابة عمالية في تونس، بأن الإجراءات المتخذة من قِبل الحكومة ستؤدي إلى:

التهاب أسعار العديد من المواد المرتبطة بالاستهلاك اليومي للتونسيين والتونسيات.

فكان القانون بمثابة إجراءات مؤلمة كما وصفها الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي. كما أنه يرى أن تلك الإجراءات لم يكن أمام الحكومة غيرها لخلق التوازنات المالية. وفي حين أن الحكومة تؤكد أن الزيادات لن تطول السلع الغذائية الأساسية والمدعمة، تركت سلع مثل الخضار والغلال لسلطة العرض والطلب، الأمر الذي سيؤدي لزيادة أسعارها نتيجة زيادة الوقود. وخضعت سلع مثل الخبز والحليب والزيت لضريبة القيمة المضافة بنسبة 1%، وهو الأمر الذي يعتبر تناقضًا من الحكومة ومحاولة تبرير للقانون.

أعقب الاجتماع الوزاري المصغر الذي أجراه رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن إعلان حزمة من الإجراءات الإصلاحية والبرامج الاجتماعية لتهدئة الأوضاع وكان من بينها:

توفير دخل أدنى ثابت لكل عائلة فقيرة ليس لها من يعولها، وتوفير أو مساعدة على توفير مسكن لائق لكل عائلة تونسية، ورفع مبالغ منح العائلات الفقيرة بنحو 40 مليون دولار، بالإضافة إلى ضمان التغطية الصحية لكل التونسيين ومن ضمنهم العاطلون عن العمل البالغ عددهم قرابة 620 ألف عاطل.

فهل تنجح الحكومة في تهدئة الأوضاع وتعبر تونس لعام الأفق كما وصفه المرزوقي؟ وتخرج التجربة من رحم الفترة الانتقالية لتُقيم التجربة الأولى الديمقراطية في المنطقة العربية كما أقامت الثورة الأولى قبل سبع سنوات؟ أم تظل الصراعات السياسية قائمة بين التوجهات والأيديولوجيات وتظل الفترة الانتقالية قائمة تعصف باحتياجات التونسيين وآمالهم؟