عاصفة من الجدل فجّرها الباحث التاريخي الإماراتي منصور خلفان بعد نشره تدوينة عبر صفحته الشخصية على موقع التدوينات «تويتر»، بعد ما ادعى أن المغول أحرقوا «المكتبة الإماراتية في رأس الخيمة»، مما أضاع العديد من الصفحات التي توثق حضارة الإمارات الممتدة لـ 125 ألف سنة!

الرجل لم يكن يمزح أو يزايد على أحد، فـحسابه «التويتري» حافل بعشرات التدوينات التي يحاول من خلالها أن يثبت أن بلاده ليست صناعة حديثة، وإنما لها جذور حضارة ضاربة في قِدم الدنيا «مظلومة تاريخيًا»، ربما كان أشدّها ما كتبه باعتبار أن الحضارة البابلية والسومرية والإماراتية كُلها مُكملة لبعضها، وبالتالي فإنه يسعى لـ «حشر» منتجاته البحثية وآمال بلاده عُنوة في صفٍ سبقتُها إليه حضارات بالغة العراقة شهد على منجزاتها عشرات الآثار ومجلدات علماء الإنثروبولجيا.

إذا علمنا أن أول مدرسة تم افتتاحها في الإمارات كانت عام 1953 وضمت آنذاك حوالي 50 تلميذًا، وأن كامل المسيرة التعليمية بالبلاد لم تبدأ بشكل فعلي إلا عام 1971، تُوجت بافتتاح جامعة الإمارات بعدها بستة أعوام، وأن عدد سكان «رأس الخيمة» في بداية القرن الـثامن عشر لم يزِد على الألف إلا قليلاً، لأدركنا استحالة تصديق زعم «خلفان».

تأتي تلك التدوينات في إطار المساعي الإماراتية الحثيثة لإعادة صياغة الماضي، أو على الأقل تلميعه، عبر سلسلة وثائقيات فائقة الجودة نقّبت في باطن الأرض لتستخرج عظمة من هنا وبقايا من هناك لتثبت أن أمجاد الحاضر لا تعتمد فقط على البترول وإنما له جذور ضاربة في الأعماق، وتمنح المشروع الحالي للدولة صكَّ الكمال.

يؤكد وسام مصلح وجاسم جرجيس في أطروحته «مكتبات الوزارات في دولة الإمارات العربية المتحدة: الواقع والمأمول»، أن الاهتمام بالمكتبات في الإمارات لم يبدأ إلا بعد إعلان الاتحاد عام 1972، وذلك عبر تدشين عددٍ من مكتبات الوزارات، فتأسست مكتبة وزارة العدل في نفس السنة ثم تبعها مكتبة وزارة التربية والتعليم ووزارة الخارجية عام 1973 كما افتتحت عام 1974 مكتبة وزارة البترول والثروة المعدنية بمجموعات تصل حوالي 3000 عنوان.

وتابع:

لم تعرف الإمارات المكتبات العامة في بداية نشأتها، لذا قامت المكتبات الخاصة والمدرسية بمهامها، حتى بدأت الدولة في إنشاء عددٍ منها حتى بلغت 87 مكتبة عام 2012، زاد عددها إلى 96 عام 2017، وفقًا لأطروحة علي عباس «تحول المكتبات في العالم العربي».

قبل الميلاد وبعده

يحكي كليكوفسكي في كتابه «الإمارات العربية المتحدة»، أن الأبحاث الأركيولوجية Archaeology أكدت أن أرض الإمارات سُكنت منذ القدم، بعدما تم اكتشاف أدوات وبقايا مستوطنات يعود تاريخها إلى العصر الثالث قبل الميلاد، وفي عام 1958، وخلال بناء الجسر الذي يصل جزيرة أم النار باليابسة، تم العثور على بقايا قلعة قديمة يعود تاريخها إلى 2300 قبل الميلاد، جدران هذه القلعة مبنية من حجارة وضعت فوق بعضها بشكل محكم رُسمت عليها أشكال لبشر وحيوانات ونباتات، علاوة على العثور على مصنوعات هندية وفارسية ومصرية اعتبرها الباحثون دليلاً على وجود علاقات تجارية كانت تربط سكان القلعة بهذه الدول.

أغلب الاكتشافات تنحصر في الدلالة على قيام نشاط إنساني ما بتلك المنطقة ينحصر في مقبرة جماعية أو جرّة فخارية أو إناء نحاسي أو شفرة صدئة، لا تعني قيام حضارة كاملة بأي معنى معروفٍ لها، وإنما فقط تدلُّ على أُناسٍ مرُّوا من هنا؛ لم يصنعوا ولم يزرعوا ولم ينتجوا أدبًا ولم يبنوا قلاعًا شامخة، وإنما فقط كافحوا ليبقوا على قيد الحياة.

في كتابه الموسوعي «موسوعة تاريخ الخليج العربي»، يحكي حمود شاكر الحرستاني عن أبرز الاكتشافات بالغة القِدم التي شهدتها المنطقة، واعتبر أنها أدلة قيام نشاط إنساني في البلاد، ضاربًا المثل بمئات المدافن تنتمي لحقبة (3000 – 3500 ق.م) تم العثور عليها ببعض جبال مدينة العين، ولقد تعرضت للنهب عبر التاريخ ولم توجد أي كتابات على جدرانها تنبئنا بأي معلومات عن أصحابها سوى حِرصهم على الطقوس الجنائزية، كما عُثر بجزيرة أم النار التي تفصلها 20 كيلومتراً عن شرق العاصمة أبو ظبي، على بعض المدافن الركامية والأبنية الخالية من الطين.

خضعت هذه البقعة لحكم الفرس والروم واليونانيين حتى الفتح الإسلامي فانصهرت في جسم الدولة الإسلامية، ومن القرن ال ـ12 وحتى الـ 18 صارت أكثرية هذه التجمعات تابعة لعمان، وعلى امتداد 4 آلاف عام شغل هذا الجزء 13 قبيلة كان تتنقل مع قطعانها من منطقة إلى أخرى وكانت تمارس الزراعة في أراضي الواحات نادرة الوجود، أكبرها قبيلتا بني ياس والقواسم.

بعد حفر قناة السويس ورسم الطريق البحري من أوروبا إلى الهند، زادت أهمية المنطقة وتنبّه الأوروبيون إليها، فاحتلها البرتغاليون لفترة من الوقت، وهنا يؤكد دكتور محمد مرسي عبد الله بأطروحته «قراءة حديثة في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة»، أن بعض الوثائق البرتغالية حكت عن سير بعض الجنود الذين اشتركوا في معركة بجزيرة داس عام 1644 مع بني ياس، وأنهم هدموا قلعتهم، وأسروا الشيخ ومعه 300 من رجاله قبل أن يقتلوهم جميعاً.

وبانهيار النفوذ البرتغالي عام 1680 بدأت حركات هجرة من داخل الجزيرة العربية من عُمان ونجد إلى السواحل، وهنا نشأت مدن جديدة في الخليج العربي مثل الكويت وأبو ظبي ورأس الخيمة، وفي بدايات القرن التاسع عشر بلغ عدد سكان الأخيرة 39 ألف نسمة، امتلكوا 876 سفينة، يعمل عليها 19 ألف بحار، وبفضل موقعها الجغرافي المميز تحكمت تماماً في الحركة البحرية بمضيق هرمز.

وفي عام 1761، اكتُشفت المياه العذبة لأول مرة في جزيرة أبوظبي فاتخذت منها قبيلة بني ياس مقرًا لها، وهكذا ظهرت مدينة أبو ظبي، وبلغ عدد سكانها عام 1833 ميلادياً 1200 نسمة، وفي مواسم صيد اللؤلؤ قد يرتفع إلى 2500، وفي بداية القرن التاسع عشر هاجر أحد فروع قبيلة بني ياس، تحت قيادة عائلة المكتوم، إلى دبي وأسسوا بها إمارة مستقلة.

القواسم وبني ياس

يقول الدكتور محمد حسن العيدروس في كتاب «الإمارات بين الماضي والحاضر»، أن سكان الإمارات ينتمون إلى مجموعتين رئيسيتين، هما تحالف «القواسم» وتحالف قبائل أبو ظبي، هاتان المجموعتان برزتا في منتصف القرن الثامن عشر، وتقاسمتا الإمارات فيما بينهما، القواسم في الشمال وقبائل أبو ظبي في الجنوب.

أما تحالف أبو ظبي فلقد تشكل من أربع قبائل رئيسية، هي: بني ياس، والظواهر، والعوامر، والمناصير.

بدا أن القبيلتين المحليتين في طريقهما للاستئثار بهذه المنطقة، لكن عطل ذلك الغزوات التي تعرضتا لها من الدولة السعودية الأولى بداية من سنة 1800م، حتى دخل البريطانيون على الخط، وهم بعكس البرتغاليين الذين كانوا يحملون آثار العصور الوسطى من تعصب ديني ورغبة في تكوين إمبراطورية أوروبية بالشرق، بينما جاء الإنجليز بعقلية التاجر الساعي لمصالحه الاقتصادية فقط.

أما القواسم، فلقد برزوا كقوة بحرية ضاربة وبرعوا في عمليات القرصنة البحرية، وتجرؤوا على القوة العظمى بريطانيا، التي دانت لها سواحل المنطقة، فبدؤوا في مهاجمة أي سفينة تحمل علمها، فقررت لندن تصفية وجودهم وإنهاء دولتهم، وأرسلت حملتها العسكرية الأولى إلى الخليج عام 1805 بقيادة الكابتن سيتون، وتم عقد معاهدة 1806 تضمنت 6 بنود أعادت السلام إلى المنطقة، وتعهد القواسم بحماية السفن والممتلكات البريطانية التي تصل إلى موانيهم.

إلا أن المطالبة اللاحقة من سلطان بن صقر زعيم القواسم بأن يتلقى مبالغ سنوية مقابل حماية السفن وتقيم الخدمات لها، اعتبرتها بريطانيا نقضًا للاتفاقية فأرسلت قوة ضخمة بقيادة الكابتن واينرايت والكولونيل سميث عام 1809 خربوا عاصمة القواسم برأس الخيمة، وخلال الأعوام التالية دخل الطرفان في سلسلة ممتدة من الاشتباكات الحربية البحرية إلى أن وقعاً معاً معاهدة عام 1814 حمل نفس مبادئ معاهدة 1806.

وبالرغم من هذا لم تتوقف هجمات القواسم على السفن البريطانية، فجردوا حملة ضخمة تضمنت 4 آلاف مقاتل و3 سفن حربية كبيرة عادت للعاصمة رأس الخيمة من جديد، وكبّدوا القواسم خسائر بلغت ألف قتيل وجريح، حتى دخلها البريطانيون 9 ديسمبر/كانون الأول 1819، وتم إنزال العلم القاسمي ورفع محله العلم البريطاني، كما أحرقت كافة سفنهم، واحتلت الشارقة وأم القيوم وعجمان، ولم تنج من التدمير حتى مدينة دبي التي لم يتورط أهلها في أعمال القرصنة بسبب توجههم لأعمال التجارة وصيد اللؤلؤ.

وأعلن شيخ القواسم استسلامه، وأجبروه على التوقيع على اتفاقية إذعان عام 1820 قضت على القوة البحرية له، وتعهد بوقف كافة الهجمات على السفن، وجعلت أعداء بريطانيا السابقين أطوع حلفائها لتأمين تجارتها، وكانت هذه المعاهدة بداية سيطرة الإنجليز على الخليج وعربه وعرّابيه ولم ترفع يدها عنه عسكريًا إلا ديسمبر/كانون الأول 1971.

وفي سبيل تحقيق مصالحهم الاقتصادية، حوّل الإنجليز المنطقة لقوقعة معزولة عن العالم، وبموجب اتفاقية 1892 منعوا الحكام من الاتصال بالتجار الأوروبيين أو العرب دون إذن، وحاربوا الوجود الفرنسي والروسي والألماني والعثماني، ومنعوا إقامة مشروعات سكة حديد أو منح امتيازات تنقيب عن النفط، وهكذا عطلوا تأخر نمو المنطقة لنصف قرن بسبب هذه السيطرة الاحتكارية إلى أن انطلقت الوحدة السباعية، وهي ليست أمرًا طارئًا على زمن التسعينيات فحسب، وإنما تجلى سابقًا في القرن السابع عشر، عبر دولة يُعرب التي ضمت أراضي الإمارات ودولة عمان، وعاشت لمدة 100 عام قبل أن تنهار بسبب التصدعات الداخلية.