عبد الرحمن عادل

كعدد غير قليل من المفكرين المهمين، لم يُقرأ الدكتور المسيري إلا بعد موته، إذ أخذت كتبه تنتشر على نطاق واسع، وصارت المفاهيم والنماذج التي صاغها حاضرة في كثير من الكتابات والأبحاث والنقاشات؛ ولكن هل حقا قُرأ المسيري؟ أغلب الظن أن الإجابة بالنفي إذا ما نظرنا إلى النقد الذي يوجه إليه. هذا النقد الذي يبدأ عند البعض من كونه ناقلا من النقد الغربي للحداثة تحديدا مدرسة فرانكفورت، ويصل عند آخرين إلى حد نفي صفة الإسلامية عن أفكاره. وعموما فإن البدأ من النقطة الأولي هو مربط الفرس، بل هو مفتاح فهم المسيري نفسه.

يمكن أن نعرض هنا لكون أولى كتابات المسيري -الفردوس الارضي- خُطت في الستينيات تزامنا مع كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد“. وقد ضُمن كتابه فصلا أو مبحثا عن الخلاص بالسلعة والتشيؤ؛ ولذا فإن كونه تقاطع مع ماركيوز أوجه من القول بأنه كان ناقلا عنه. لكنني لا أفضل البدأ من هنا.. فلنمض إلى أبعد من ذلك، ولنبدأ مع الهيبز بحسبانهم “متمردي النسق ” لا “المتمردين عليه”. فكل نسق كما أنه يخلق أتباعا فإنه يخلق المعارضة أيضا، أو بالأحرى من نظنهم معارضة.

لقد سبق وأن قلت أن القيم الروحية لا يجب أن تُبعث، بل على العكس، فالتحقق التاريخي للعلم والتكنولوجيا قد أتاح إمكانية ترجمة القيم إلى مهام تقنية وتجسيدها ماديا! فالمشكلات الغائية التي كانت تعتبر خطأ مشكلات أخلاقية وأحيانا دينية يجب أن تستعيد الآن مكانها كمشكلات تقنية!(1)، المفكر صاحب هذا الاقتباس هو نفسه هربرت ماركيوز، واحد من أبرز نقاد العقلانية التكنولوجية والتشيؤ. كيف يستقيم ذلك؟! وأين المسيري “الناقل” من هذا؟ يستدعي هذا التناقض الحديث عن فن كسر النسق أو بعبارات المسيري الحديث عن أهمية الدرس المعرفي.

بالطبع لا يمكن أن نتوقع من المسيري أن يكتب مثل هذا، أو علي الأقل لا يمكن أن نستنبطه من كتاباته. ذلك لأنه بينما يقفماركيوز داخل النسق يقوم المسيري بتكسيره. هذا الخروج علي النسق لا يُتصور إلا من خلال مركز مغاير كليا؛ إذ يؤدي هذا المركز الجديد وظيفتين: الأولى هي تعرية النسق القائم، أو بمعني آخر، ربط عدة ظواهر متعددة ومختلفة ببعضها البعض وردها جميعا إلي النطاق المركزي للنموذج*، والوظيفة الثانية هي خلق أدوات نقد وتحليل جديدة -حتي لو بدت متقاطعة مع أدوات نموذج آخر- وفي حالتنا، فنحن نتحدث عن شيئين فقط: التوحيد في مقابل الحلول وما دونهما تفاصيل.

قد يُظن أن هذا ليس خلقا او إبداعا في الأدوات، وأنه لا يزيد عن كونه تطورا. والسبب خلف هذا الظن هو أن طبيعة التحول الجوهري -أي الانتقال إلى مركز مختلف- دقيقة. هذا التحول هو الذي “يولد إمكانية التركيب” بدلا من السقوط في التفكيك؛ وهذا هو مأزق كثير من المفكرين. إذ أن إستمرار وجودهم داخل نفس نظام المعرفة يخولهم فقط أن: يفككوا النسق ثم يعيدوا إنتاجه مرة أخرى كحالةماركيوز ونقضه للعقلانية التكنولوجية وكونها، -في رأيه- الحل في آن. أو أن يعروا النسق تماما ويتركونا مع ركام التفكيك كحال فوكو مع تحليله للسلطة. بينما التركيب/الكسر/التجاوز يعني الخروج علي النسق تماما من خلال “مركز جديد” مغاير يتيح امكانية إعادة رسم العالم بشكل مختلف.

فهم هذه المناورات يعتمد بالأساس على فكرة أن المنهج يخرج من رحم الإبستمولوجيا؛ ولذا فإن أي تغير في الأخيرة يجعلنا بصدد أدوات ومنهج مختلف. فلو أن المنهج البنيوي مثلا قد أبدع أدوات فإن مرد ذلك إلى إحدى المقولات الإبستمولوجية التي يستند إليها المنهج كـ “موت الإنسان” و “تفكيك الحقيقة/المطلق”؛ تلك المقولات التي مكنت من إكتشاف البنية التي تتلاعب. وعليه فإن تغير الإطار الإبستمي يعني تغيرا في الأدوات، وبالتالي في التفسير. فالتشيؤ لدى ماركيوز نتاج العقلانية التكنولوجية بينما لدى المسيري هونتاج علمانية شاملة لا تدرك إلا من خلال المقابلة مع التوحبد -باعتباره نظاما للمعرفة. تلك المقابلة التي لا تنعقد إلا إذا كنا خارج النسق العلماني. كذلك فإن تغير الإطار الإبستمي يطرح تغيرا في الأسئلة؛ فبدلا من أن يصب الاهتمام علي التساؤل حول آليات عمل السلطه الحديثة/الدولة ووسائل هيمنتها يطرح صديقنا السؤال حول شرعية وجودها أصلا؛ هذه الشرعية التي تستند إلى كونها موضع الحلول -وغني عن البيان ان طرح هذا السؤال لا يلحقه إلا السعي لكسر النسق. يبدو هنا التمايز واضحا بين النسقين: التعرية/التفكيك في مقابل الكسر والتجاوز.

إن المشروع المعرفي الغربي (كافر) بالمعني العميق للكلمة. فهو ليس كافرا بالإله وحسب، وإنما كافر بالإنسان أيضا، إذ يعلن موت الإنسان باعتباره كائنا متميزا عن الطبيعة؛ ثم ينتهي به الأمر إلى أن ينزع القداسة عن كل شئ وينكر المعنى(2). بمقدار رؤية المسيري متأثرا بالخطاب التوحيدي -إن جاز هذا التعبير- مثل خطاب سيد قطب، بمقدار ما نراه بعيدا عن أن يكون “ناقلا”، بل متمركزا حول التوحيد، ساعيا للتركيب غير مكتف بالتفكيك. ومما قد يجدر بنا ذكره هنا، أننا عندما نجد أيمن الظواهري يؤمن على حديث المسيري ويحيل إليه، فإن ذلك لم يكن باعثا علي الدهشة، خاصة وأن الظواهري فعل ذلك في سياق الإشارة إلى “معارضي” النظام العالمي/المتمردون علي النسق “من هذا المنظور فإن العدو الأول للنظام العالمي ليس القومية العربية الأخذة في التراجع، وإنما هو كل من يقف ضد الاستهلاكية العالمية. الإسلام كأيدلوجيا إنسانية عالمية، ومنظومة قيمية. فمن المنظور الإسلامي نحن لن نأت إلى هذا العالم كي نبيع ونشتري، وإنما لنامر بالمعروف وننهى عن المنكر(3).

هل قدم المسيري بديلا إذن.. أين هو؟ ينضم هذا السؤال إلى قائمة الأسئلة الأكثر بلاهة وكسلا. إن عصر البيان الشيوعي قد ولّى ولم تعد البدائل تأتي قطعية واحدة -هذا علي فرض أنها كانت تأتي كذلك!- إن البدائل تشكلها حركة المجتمعات في تفاعلها مع الواقع، إذ تنشئ الحركة صدمات متتابعة تؤدي في النهاية إلى نقطة البداية الحقة: ما الأسئلة التي علينا طرحها؟ هل البنية مستحيلة؟

لم أكتب هذه السطور المتواضعة دفاعا عن الدكتور المسيري -رحمه الله- أو انبهارا به، كما أنني لم أكتبها لأني أرى البعض يقدم نقد للمسيري بكل استهانة واستسهال. في حوار له قبل وفاته بأيام سئُل: ما الذي تحلم به الآن؟ رد سريعا:الانتهاء من أعمالي وزوال إسرائيل. كان مهموما، لذلك كتبت، لنتابع همه.


الإحالات:

* هذا التحليل للظواهر المختلفة و ردها جمعيعا لمركز واحد أي كشف الوحدة الكامنة خلف التنوع ، وهو الذي يجعل البعض يري المسيري يكرر نفسه .

(1) هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 245.

(2) عبد الوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، ص 213.

(3) أيمن الظواهري، التحرر من دائرة العبث والفشل (هنا).