إنها أيام ثقال، أيام لا تكف أنفك عن شم رائحة الموت في كل مكان، ليالٍ ثقيلة تلك التي نعيشها منذ انتفاضة الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي. ترقد على سريرك ليلًا تتابع الأحداث، تشاهد مقاطع مرعبة لا نراها في أفج أفلام الرعب دموية، تستيقظ نهارًا -مجبورًا- تحاول عيش حياتك ومحاولة اللحاق بعجلة الحياة السريعة التي لا ترحم من يغفل عنها بضعة دقائق، تنظر في وجوه البشر صباحًا لتجد الحزن، الكآبة، الخزي وانعدام الحيلة محفورين على أوجه الجميع مع عيون أرهقها البكاء. 

أكثر من ثلاثين يومًا في هذا الحزن المستمر، ومهما حاولت تقديم الدعم بأبسط الطرق المتاحة لك تشعر بعدم الجدوى، أنك لم تقدم شيئًا حقيقيًا، أنك بلا فائدة حقيقة، وعلى يقين أن وجوه أولئك الأطفال المغطاة بالدماء ستظل تطاردك مادمت حيًا، صباح/ مساء الخير، هنا الوجوه الحقيقية من الإنسانية المزيفة التي نعيش بها في عام 2023، ينقل لكم يوميًا من تحت أنقاض غزة. 

انظر إلى الوجوه لتعرف معنى «قهر الرجال» 

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ .
حديث صحيح، رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي محمد ﷺ 

ليس من الغريب أن يحتوي حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه لرجلٍ من الأنصار جملة «قهر الرجال»، التي تعني أن يستولي أحد من الرعاع ويتسلط على المرء، وبالأخص الرجال في ثقافة عربية تقدر الرجل وقوته وسيطرته وحرمة حياته وبيته ونسائه. فحتى كفار قريش حينما حاصروا بيت الرسول رفضوا أن يقتحموا منزله بمجرد سماع أصوات نساء في الداخل متمسكين بالقوانين والعادات التي تحكمهم وقالوا «يا للعار أيُقال علينا تسورنا الحيطان على بنات العم في خدورهن، وهتكنا ستر حرمنا». 

لذلك من الطبيعي جدًا في ثقافة مثل تلك أن يكون «قهر الرجال» شيئًا قويًا يتساوى مع «غلبة الدين». وحاليًا كل ما يعيشه المرء في الأحداث الجارية هو الهم، الحزن، العجز، الجبن -من بعض الأطراف- وقهر الرجال، وليتنا حتى نعيش مع عرب يتسمون بنفس أخلاق عرب كفار قريش.

من الناحية الأخرى، وكفرد مستقل يصاحبك إحساس مستمر بأنك عاجز قليل الحيلة أمام معاناة مجموعة من الأفراد، وهكذا هو الأمر عند تجريده من كل الصفات التي تحشر حشرًا حتى تتعاطف، فلا هم إخوتك المسلمون، ولا هم إخوانك العرب، ولا هم جيرانك وتتشارك معهم الحدود وما يضرهم بالتأكيد سوف تذوقه قريبًا، هم فقط مجموعة من البشر، أطفال جياع ينتظرون دورهم في طابور الموت وأنت لا تقدر على فعل شيء حقيقي لهم. 

الأسوأ أن الحياة حولك لا تقف على معاناتهم، فهناك من يباشر عمله بشكل طبيعي، من يأكل ويسافر ويرفّه عن نفسه ويضحك في العروض الترفيهية كأن شيئًا لم يكن. حالة من القلق المستمر ومتابعة الأخبار وسماع التحليلات والكثير والكثير من مشاهد القتل والأطفال المرعوبة التي لا تذهب عن عقلك لحظة واحدة.

هذا هو «مبدأ إجبار التكرار» الذي حدثنا عنه سيجموند فرويد منذ قرن تقريبًا، بشكل لا إرادي تمامًا يعيد عقلك تقديم المشاهد المؤلمة مرارًا وتكرارًا، فتجد نفسك في أشد لحظاتك انشغالًا تسمع صوت الطفل وهو يلقن أخاه الصغير الشهادة بكل الثبات الذي لا يتناسب تمامًا مع سنه ولا مع الأهوال التي رآها منذ قليل، أو صورة طفل صغير نجى حالًا من القصف يرتجف من الرعب، صوت الأم وهي تقول «أبيضاني وشعره كيرلي وحلو» وهي على وشك الانهيار، سيظل مخك يردد «كان عايش والله وقالي يا كمال يا كمال!».

لعنة أبدية تطاردك مخك بلا هوادة. في ظل كل هذا، تشعر أن حتى تنفس هواء وأوكسجين لا يشوبهم رائحة التراب جراء القصف هو أنانية، تشعر بالذنب لأنك آمن في منزلك محاط بعائلتك وفوق رأسك سقف وتستطيع شرب الماء في أي وقت تريد. 

لعبة يلعبها معك عقلك بسبب إحساس القلق المستمر الذي يعانيه الجميع، وبالأخص في كل مرة تتصاعد الأحداث وتزداد مشاهد العنف، يرجع ذلك لأن العقل يستنكر على نفسه أن يكون هادئًا في سلام وكل المعطيات الخارجية تدفعه دفعًا تجاه القلق، لذلك يقدم لنفسه بنفسه -حتى في أشد اللحظات راحة- أسبابًا لتجديد عاصفة القلق. وهذا التصاعد المستمر للقلق هو ما سيؤدي في القريب العاجل لحالة الاحتراق النفسي؛ وهي حالة تصيب النفس والجسد معًا نتيجة كثرة القلق، وتكون أغلب أعراضها جسدية مثل الإرهاق المستمر والأرق ونوبات الهلع بجانب التقلبات المزاجية والسلوك العدواني في بعض الأحيان، لذا يجب هنا تحديدًا كسر دائرة القلق وتقديم الدعم النفسي لأنفسنا.

نخجل حتى من تقديم الدعم النفسي لأنفسنا

كاتبة هذه السطور -كونها متخصصة نفسية- تعاني هي شخصيًا من صدمة- trauma مشابهة لما يعيشه أطفال وأهالي غزة تؤمن بشدة بضرورة التمسك بالسواء والدعم النفسي في ظل هذه الأحداث. مع ذلك، أشعر كذلك بالخيانة حينما أحاول أن أهون على نفسي أو على الآخرين وطأة المعاناة النفسية الناتجة عن الأحداث المؤلمة التي تراها الأعين كل ثانية. 

في مثل تلك الأمور في الأغلب يكون من الأخلاقي أن ينشر تحذير مرفق مع الصور المؤلمة- trigger warning يحذر المرء من احتمالية تحفيز الصور والمقاطع الصدمات النفسية الخاصة بكل فرد، ولكن في الوضع الحالي أنت مجبر على الرؤية، على المعرفة، فلا يمكنك أن تكون معزولًا عن كل هذا الألم الذي يعانيه المحيطون بك، حتى لو سيعود عليك ذلك بالألم النفسي، فيكفي الصمت والتواطؤ العالمي الذي يعانيه أهالي غزة، وأنت كفرد مسؤول متحلٍ بالإنسانية يجب أن ترى وتشعر بمعاناتهم، من الجانب الآخر، يجب ألا تتهاون في حق نفسك أن تكون معافى نفسيًا، حتى لو لم يكن ذلك من أجلك، افعله من أجل القضية، فإن سقطنا كلنا في حفرة الاكتئاب وانعدام الحيلة وأكلنا الاحتراق النفسي فمن سيكون صوت هؤلاء الذين هم بلا صوت؟ 

أعلم أن الألم أكبر من أي كلمات مواساة فارغة، وتكنيكات دعم نفسي تحاول تطبيقها مع نفسك أو مع معالجك النفسي، لكن تطييب جروح نفسك هي كذلك نوع من المقاومة بشكل أو بآخر. يجر العقل البشري الفرد جرًا للانغماس الشديد في متابعة الأحداث، فتشعر بالقلق والتوتر الشديد بمجرد ترك الهاتف والابتعاد عن الصحف وقنوات الأخبار، حالة من الانغماس النفسي في الأحداث والخوف من عدم المعرفة أن تحدث الكارثة الكبرى وأنت في غفلة. ومن هنا تبدأ أولى خطوات حماية النفس من الاحتراق؛ وهي تحديد وتقنين وقت متابعة الأخبار وتصفح وسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل الأحداث والصور والمقاطع المؤلمة، فليكن مثلًا خمس دقائق كل ساعة تلم بهم بأهم الأخبار التي حدثت الساعة الماضية، وينقل ذلك للخطوة الثانية؛ وهي خلق مساحة موازية آمنة يوجد بها بعض الأمور الترفيهية والأخبار التي لا تخص الأحداث المؤسفة التي نعيش بها، فرصة لإعطاء المخ راحة من الأحداث المستمرة التي لا تهدأ.

والأهم من تطبيق هذه التكنيكات، هي «العقلية – mindset» التي تعالج المعلومات والخطوات أثناء تنفيذها. هناك قاعدة نفسية شهيرة في العلاج المعرفي السلوكي وهي «المشاعر تتغير حينما تتغير الأفكار» وبها يقوم الفرد بتتبع خط سير أفكاره ويعدلها وتلقائيًا تتغير المشاعر، ويستخدم هذا التكنيك في تخطي العلاقات الفاشلة مثلًا، ويمكن تطبيقه في الوضع الحالي في تتبع الأفكار المؤدية للشعور بالذنب تجاه الأحداث. الحقيقة أن إحساس الذنب هذه المرة هو إحساس جمعي يشترك به كل الأفراد، ويأتي من الإحساس بالعجز تجاه مساعدة كل البشر الذين يُقتلون كل ثانية، ولأن إحساس العجز يصعب على المخ تقبله يقلب تلقائيًا لإحساس بالذنب، لأن بالنسبة للعقل لوم النفس أسهل بكثير من الاعتراف بالضعف والعجز. عليه يجب مراقبة أفكارنا الداخلية و وضعها في المكان الصحيح لها وتسميتها باسمها الحقيقي دون الخضوع لألعاب العقل.

أنت حقًا تصنع فارقًا 

وأخيرًا، لا تسمح لأحد التقليل من المساعدات التي تقدمها، حتى لو لم تفد هذه المساعدات في شيء إلا في مساعدتك على الشعور بشكل أفضل تجاه نفسك، فقد نجحت جدًا. فمن المهم في هذه الفترة أن ترى نفسك شخصًا مساعدًا حنونًا، يكفي أن تنظر للعالم الخارجي فتجد القسوة في كل مكان.

لذا كن أنت الرحمة التي تريد أن تراها في العالم. وبالتأكيد حاوط نفسك بمن هم يشبهونك فكريًا ومعتقدًا فيما يتعلق بالأحداث و صعوبتها، فالدعم النفسي الجمعي الذي نتلقاه من الآخرين الذين يعانون مما نعانيه ويتلقونه نفسه منا يكون في الكوارث الكبرى مثل التي نعيشها الآن أفضل وأكثر فاعلية من الدعم الذي سيقدمه لك فرد خارج دائرة الألم.