لو كان لصًا لربما كان الأشهر في العالم أيضًا. وظل مصدر ثراءه لغزًا غامضًا، لقدرته على الاختفاء من أمام من يسرقهم في لمح البصر «تعبير حقيقي وليس مجازيًا». مستغلًا قدميه المذهلتين في الهرب منهم، فلن تستطيع الشرطة ملاحقته. بنسبة كبيرة جدًا سيفشلون لأنهم سوف يكتشفون أنه أسرع من الرصاصة في الهواء. ولكن لأنه لم يرغب بأن يكون هاويًا احترف سرقة الذهب. إنه العداء الجامايكي أوسين بولت.


التوجيه الصحيح هو نصف الطريق

الحب وحده لا يكفي لتحقيق كل ما تريده، إذا لم تكن تملك مقومات النجاح فيه فأنت تسير في طريق به الكثير من الإحباط، واليأس والاستسلام. يجب أن تدرك إمكانياتك جيدًا وستحب ما باستطاعتك أن تفعله بها. ستعشقه عندما تتذوق أولى ثمار التفوق فيه.

بيتر تشيك «حارس مرمى أرسنال الإنجليزي، والحارس السابق لتشيلسي» لعب في بداية مسيرته كمهاجم قبل أن يتم تغيير مركزه إلى حراسة المرمى والجميع يعرف ما حدث بعدها وكيف بات تشيك هو أفضل حارس مرمى في تاريخ التشيك. من المؤكد أنه لو لم يتم تغيير مركزه لكان مشروعًا مهاجمًا فاشلًا. هناك كذلك ألبيرتو مورينو ظهير ليفربول الذي يشعرك بأن مستقبله في أي رياضة أخرى لها علاقة بالسرعة فقط وليس كرة القدم. وهناك بولت في بداياته عندما كان يركز على الرياضات الأخرى مثل الكريكت وكرة القدم ولكن العديد من مدربيه الذين لاحظوا سرعته الفائقة أمثال العداء السابق بابلو ماكنيل ولاعب كرة القدم الأمريكية دواين جاريت حثوه على التركيز في ما يعرف بسباقات المضمار والميدان «التي تتضمن الجري على الطريق، والجري عبر البلاد وسباق المشي» تحت لواء ألعاب القوى.


وانطلق التاريخ الماراثوني من جامايكا

كانت البداية في بطولة العالم للناشئين عندما فاز بسباق 200 متر وهو في الخامسة عشر فقط من عمره لتكون دلالة كبيرة على موهبته الخارقة لأنه كان أصغر من يتوج بالميدالية الذهبية وفي العالم التالي لبطولة الشباب. ولم يكتفِ بولت بالذهب فقط ولكنه بدأ بكسر الأرقام القياسية في سباق 200 متر في زمن قدره 20.40 ثانية، وبعدها بدأ بولت بالتركيز على سباقات 200 متر حتى عادَلَ رقم العدّاء الأمريكي روي مارتن في بطولة العموم الأمريكية لألعاب القوى.

وقتها بدأ الجميع بالحديث عن خليفة للعداء التاريخي مايكل جونسون، ويكفي معرفة أن ما فعله يوسين بولت في السادسة عشر من عمره لم يتمكن جونسون من فعله سوى وهو في عامه العشرين. موهبة مثل بولت لم تكن لتهمل قط بالطبع بل تم الاعتناء بها من أجل أن تكون ثروة قومية رياضية للبلاد وهذا الأمر تكلف به المحامي العام هاوارد هامليتون والذي طالب الجمعية الجاميكية لألعاب القوى برعاية بولت وحمايته واصفًا إياه بالعداء الاستثنائي الذي أنتجته جزر الأنتيل الكبرى.


وتذكر البداية لتحفيزك فقط!

بدأت مسيرة بولت الاحترافية مع الكبار في 2004، لم تكن بنفس البراعة بسبب الإصابات التي كانت عائقه الوحيد لإيقافه في بطولة العالم 2004 وفي أولمبياد أثينا في نفس العام أيضًا. وجاء التحدي القادم له في بطولة العالم بفنلندا لتعويض ما فاته باليونان وتأهل بالفعل للنهائيات ولكنه أُصيب مجددًا .

ولكنه لم يكن محظوظًا حتى خارج اللعبة، حيث تعرض لحادث سيارة عانى على أثره من بعض الجروح في وجهه ليتوقف عن التدريبات ومع ذلك كان من أفضل خمسة عدائين في العالم عامي 2005 و2006، وخضع لبعض التدريبات حتى يكون قادرًا على المنافسة في سباقات 400 متر ولكن إصابة جديدة في بطولة الكومنولث في 2006 جعلته يهمل الفكرة مؤقتًا ويعود للتركيز على سباقات 200 متر وبالفعل حطم رقم جوستن جاتلين بالرغم من الطقس السيء في مدينة أوسترافا التشيكية ليلتها.

وكانت شتوتجارت الألمانية هي الشاهدة على أولى الميداليات الكبرى له بتحقيق البرونزية في نهائي ألعاب القوى العالمي، قبل أن يحقق الميدالية الفضية في كأس العالم لألعاب القوى باليونان، ويكون تغيير اللون للأفضل حافزًا له من أجل أن يثبت موهبته اللامعة وسط الكبار. ثباته على الميدالية الفضية بعدها في بطولات العالم بأوساكا في سباقات 200 متر و400 متر تتابع كانت مؤشرًا على أن المتبقي من أجل الفوز بالذهب مع الكبار هو خطوة واحدة فقط لا غير. الأرقام الخاصة به بدأت بالظهور بعد أن حطم رقم دون كاوري في سباقات 200 متر بعد أن ظل صادمًا لمدة 36 عامًا دون الاقتراب منه أو التصوير حتى.


جدار جامايكا العظيم

ما فعله في بيكين عام 2008 كان خياليًا، حيث احتكر بولت كل الميداليات الذهبية تقريبًا بعد أن أصبح الأول الذي يفوز بذهبيتي سباق مائة متر ومائتي متر، منذ العداء الجامايكي الآخر كواري، والأول كذلك الذي يحطم رقمين قياسيين في نفس الأولمبياد في سباقات مائة متر بزمن قدره 9.69، حتى أنه تباطأ ورفع يده للاحتفال قبل خط النهاية بعشرين متر لأنه ضمن المركز الأول. وكذلك رقم الأمريكي مايكل جونسون بزمن قدره 19.32 ثانية في سباقات 200 متر والذي تجاوزه بزمن قدره 19.30 ، يومها أُذيع في الأستاد كله أغاني الاحتفال بعيد ميلاده الثاني والعشرين قبله بساعات لأن تلك التتويجات قد أعلنت بالفعل ميلاد أسطورة لن تتكرر.

في بطولة العالم لألعاب القوى ببرلين حطم بولت الرقم مجددًا في سباقات مائة متر في زمن قدره 9.58 ثانية، وحتى رقمه السابق في سباق مائتي متر حطمه أيضًا في زمن قدره 19.19 ثانية. وفي اليوم الأخير من البطولة قام عمدة برلين كلاوس فوفرايت بتقديم بولت مع ارتقاع 12 قدمًا من جدار برلين مصرحًا أن بولت أثبت أن المرء بإمكانه هدم الجدران المستعصية التي لا تُقهر، وتم تسليم الجزء الذي يقدر بثلاثة أطنان إلى المتحف العسكري الجامايكي في كينجستون. حتى أن مايك باول حامل الرقم القياسي في الوثب الطويل عام 1991 بـ 8.95 متر صّرح بعد تلك المسابقة بعدة أيام أن بولت قد يصبح أول لاعب بإمكانه القفز فوق تسعة أمتار كون الوثب الطويل حلًا مثاليًا لسرعته وطوله!

ومنذ ذلك الحين اكتسح بولت المركز الأول بكل المشاركات عدا بطولة سباقات 400 متر تتابع في العام الماضي، والتي توج فيها بالفضية بعد أن كان قد كسر الرقم العالمي لتلك السابقات في بطولة العالم بموسكو عام 2012.


الــ «بولت» وحدة قياس السرعة

وفي أولمبياد ريو لا جديد مع بولت في تحطيم الأرقام حيث أصبح أول من يفوز بثلاثة ألقاب أوليمبية في سباقات 100 متر في ثلاث مرات متتالية، هذا الإنجاز بحسب صحيفة نيويورك تايمز سيضمن له لقبًا آخر بخلاف أسرع رجل في العالم وهو أفضل عداء في التاريخ.

جميعنا نعرف محمد علي كلاي أسطورة الملاكمة، والذي وافته المنية في الفترة القليلة الماضية، وبمجرد معرفة مسيرته العملاقة تمنيت أن أحظى بمتابعتها مباشرةً، ولكننا في عصر ربما لا يوجد فيه الأفضل في كرة القدم فحسب؛ ولكن في تاريخ السباحة كذلك فيليبس وكذلك في ماراثونات ألعاب القوى مع بولت وهو أحد من يستحقون أن يُطلق عليهم أفضل رياضي في التاريخ مناصفة مع الثنائي المذكور سلفًا.

التوجيه الصحيح ومن ثم التأسيس المناسب باكتساب الثقة والخبرة كذلك من بطولات الشباب ومن ثم العناية بالمواهب؛ هو الطريق الوحيد لصناعة أسطورة لا تقل إبهارًا عن اختراع القطار الفائق السرعة ولكن بالتدريب وليس بالاستعانة بالقوى المغناطسية، مثلما أصبح بولت قطار بشري فائق السرعة.