هذا المقال هو مواصلة لمراجعة كتاب «المدارس الفكرية الإسلامية». الجزء الأول هنا.

في كتاب «المدارس الفكرية الإسلامية»، الصادر عن «الشبكة العربية للأبحاث والنشر»، يُبينُ العلامة العوا السببَ في إيثار كثير «من أهل الفكر والفقه من أغلب تلك المدارس» للسلامة، بدلاً من الصدام مع السلطة، فيشرح قائلاً:

كأنهم رأوا أنَّ الفائدةَ التي تعودُ على الإسلام وأهله من العلم النافع، والفكرِ المستقيمِ، أكبرُ من الضرر الذي يترتب على ظلم الحكَّام وبغيهم، ولا سيما أن هذا الظلم كان محدود الدائرة إذا قيس بنفع العامة الذي كفله ترك الحرية للعلماء والمفكرين بعيدًا عن دائرة السياسة.
ثم يقول (ص239):
غير أن عصرًا من العصور الإسلامية لم يخلُ من علماء عاملين أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقدّموا في سبيل ذلك حياتهم رخيصة في جنب إعلاء كلمة الله. ودور العلماء في هذا الشأن، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة، دور ضروري ليظل أداء هذا الواجب منضبطًا بضوابط الشرع.

لكن إشكاليةَ «التغلب بالقوة» وتثبيت الطاعة وإلغاء الشورى ما تزالُ شاخصة، رغم عمرها البالغ ألف سنة أو يزيد. ورغم تنوع اجتهاداتِ المدارس الفكرية الإسلامية التي تناولها العلامة العوا في هذه المسألة؛ إلا أن «مدرسة الصبر على ظلم الحكام وجورهم»، ما تزال أوسع المدارس التي تجذب إليها أغلبية جمهور العلماء والمفكرين منذ موقعة صفين، ومع هذا الصبر الطويل لم تنجح الأمة في حل هذه الإشكالية بعد، بينما توصلت أمم الغرب إلى حل بعد نضالات طويلة، إذ استقرت لديهم «سلطة الأمة»، وأضحى حكامُها خدامَها.

قد تنْحلُّ هذه الإشكالية عندنا حين تستردُ الأمة سلطتها في إقامة الحكَّام بالشورى الحرة، وإقالتهم بالشورى الحرة، وتكون الطاعة الواجبة لأولي الأمر تابعةً لقرار الشورى، وتتقيدُ سلطات هؤلاء الحكام المطلقة، وتتحدد مدة الحكم فلا تستمر كما هي الآن من العرش إلى النعش، وتخف من حولهم مظاهر البذخ والأبهة من القصور المترفة، والألقاب الرنانة. فلا صاحبَ جلالةٍ ولا فخامةٍ، ولا سمو ولا معالي، ولا سعادة، وإنما يكفيهم لقب «رئيس» أو «مسؤول»، منتخب لأداء خدمة عامة، خاضع للرقابة والمحاسبة.


مؤاخذة في «مدرسة» ابن عبد الوهاب

بعض ما ورد في كتاب العلامة العوا بشأن سلفية الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115 ــ1206هـ)، يضع القارئ الحليمَ في حيرة؛ ليس بسبب دعوته لتخليص التدين الإسلامي من مظاهر الشرك والبدع التي شاعت في البيئة التي نشأ فيها. فهذه صفحات محمودة ومشرقة من اجتهاده وجهاده؛ وإنما بسبب الروايات التي تؤكد وقوعه في «تكفير أصحاب البدع والشركيات». وليس ذلك فحسب، بل ذهب إلى «الأمر بقتالهم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدينُ كله لله». وهذه روايات وثَّقَها العلامة العوا – ملتزمًا بمنهجه – من المصادر المعتمدة عند ابن عبد الوهاب نفسه، وعند أتباعِه المخلصين. وقد سرد جوانب منها في الفصل الذي كتبه عنه (ص363-386).

لكن من بين هذه الجوانب ما يندى له الجبينُ، وتقْشَعِرُّ من هول فظاظته وفظاعته الأبدانُ. أعني بذلك قصةُ ابن عبد الوهاب مع أخيه الشيخ سليمان الذي اختلف معه في أول أمره. لقد رأى الشيخ سلمان عدم جواز تكفير المُعيَّن؛ أي تكفير شخص بعينه أو مجموعة بعينها. وسجل مؤاخذاته على أخيه ونهجه في رسالة بعنوان «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية».

تقول القصة إن الشيخ سليمان أرسلَ رسالته تلك مع شخص اسمه «سليمان بن خويطر»، ليوصلها إلى أتباع أخيه، فما كان من الثاني إلا أن «أمرَ بقتلِ من حملَ الرسالة»، خشية تأثيرها على أتباعه، وبالفعل قتل الرسول. بعدها كَتبَ ابنُ عبد الوهاب رسالةً، لا ليعلن فيها ندمه على هذه الجريمة وتوبته منها، وإنما للرد على رسالةِ أخيه سليمان، بعنوان «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد». (راجع الرواية من مصادرها الموثقة وتعليق العلامة العوا عليها في كتابه هذا (ص371-380))

لسنا في مجال مناقشة أي من اجتهادات ابن عبد الوهاب في محاربة البدع ومظاهر الشرك، ولا دوره في تأسيس الدولة السعودية الأولى وتحالفه مع ابن سعود. فلهذا ولذاك أهلُه من المتخصصين. وإنما ما يُكدِّرُ الخاطر، ولا يسر عينَ الناظر، في كتاب العلامة العوا، التماس الأعذار لأمر ابن عبد الوهاب بقتل «سليمان بن خويطر» الذي حمل رسالة سليمان بن عبد الوهاب في الرد على أخيه محمد، أو حتى روَّج لما فيها على قول بعض المؤرخين.

نقل العلامة العوا أن الدكتور عبد الله الصالح العثيمين قد «التمس سبب غضب ابن عبد الوهاب» على الرسالة وحاملها، فقال إنه «كان يخشى تأثيرَ هذا الكتاب في نفوسِ الآخرين، ولذلك أمرَ بقتل من أحضره» (ص375)، ثم استطرد العلامةُ العوا بعد قول العثيمين، وقدم أربعة أسباب شرح بها تلك «الخشية» (ص375-376). ثم قال: «من أجلِ ذلك كله كان موقف ابن عبد الوهاب من رسالة أخيه الشيخ سليمان موقفًا مختلفًا تمامًا عن موقفه من مخالفيه الآخرين، وليس من عمل هذه الدراسة أن تفصلَ بين أصحاب المدارس الفكرية وأتباعها، وبين خصومهم، إنما همها الأساسي معرفة أثرهم في حياتنا الثقافية والفكرية والدينية والسياسية» (ص377).

قبل ذلك، انتهى العلامة العوا إلى القول بأن واقعة أمر ابن عبد الوهاب بقتل سليمان بن خويطر تظل «محلاً لمزيد تقصٍ وبحثٍ ودراسة لأسبابها وملابساتِها، وهذا كله قد يؤدي إلى زيادة اليقين بصحة المشهور المتداول [أي الأمر بالقتل]، أو إلى الشك فيه، أو إلى ثبوت بطلانه، وكل ذلك لا يؤثرُ في الصورةِ العامةِ المجملةِ التي تحاولُ هذه الدراسة استخلاصها للمدرسة الوهابية، باعتبارها الإحياء الثالث للفكرة السفلية» (ص375).

لكن ليس بالإمكان قبولُ ما انتهى إليه العلامةُ العوا في هذا الفصل المؤسف من فصول «مدرسة ابن عبد الوهاب». فما تزال الأسئلةُ الخاصة بتلك الواقعة مشرعة ومروعة، ومنها: أينَ هو الموقف المختلف لابن عبد الوهاب من مخالفيه الآخرين؟ ألم يزري على جميع مخالفيه ويصفهم بالجهل وعدم القدرة على التمييز بين دين محمد ودين عمرو بن لحي الذي أدخل الأصنام إلى الكعبة قبل الإسلام (ص372)؟ ولماذا لم يوجه ابن عبد الوهاب أمر الانتقام (إن ثَبُت) إلى شقيقه الشيخ سليمان، وقد وصفَه بأنه «زائغ ومُلحد ومن أعداء الدين» (ص377)، ثم أمر بقتل حامل رسالته، فهل «حمل الرسالة» لتوصيلها أشد وقعًا على نفس ابن عبد الوهاب من تأليفها وكتابتها، أم أن دم بن خويطر ليس من صنف دم أخيه؟

إذا ما ثبت أن ابن عبد الوهاب لم يأمرْ بقتل حامل الرسالة، فهو بريء وأجره على الله، والإثم على من اتهموه بلا دليل، فهذا ما يقتضيه الإنصاف. أما إذا أثبتَ التمحيصُ والبحث الذي دعا إليه العلامة العوا قصة أمره بقتل «سليمان بن خويطر» لهذا السببِ وحدَه – أي حمل الرسالة إلى من طلب الشيخ سليمان منه توصيلها إليهم – يجعل من ابن عبد الوهاب قاتلاً لنفس بريئة، دمها في رقبته إلى يوم الدين، ما لم يكن أولياء الدم قد عفوا عنه.

ثم نسأل، أهذه حقًا واقعة – حال ثبوتها – «لا تؤثر في الصورة العامة للمدرسة الوهابية»، أم أنها أثَّرت وما تزال تؤثر؟ وماذا عن «قاموس» التفسيق والتكفير والشتائم والسباب الوارد في حديث ابن عبد الوهاب عن خصومه ومخالفيه في الرأي، إلى جانب تجهيلهم والاستعلاء عليهم، ألا يستحق هذا القاموس إدانة ورفضًا وبراءة منه وممن يرضون به؟ في جميع الحالات، لن تفرغ من قراءة هذا الجزء من الكتاب (ص363-386) إلا وأنت حزين مقطب الجبين.


أفضل ما تبقى لنا

لنترك تلك المسألة المؤسفة، ونمضِ للتعرف على ما استخلصه العلامة العوا في خاتمة الكتاب، وما رآه «أنفع» ما خلفته اجتهادات كل مدرسة شملها البحث. وأسوق هنا خلاصة ما استصفاه منها كما ورد في الكتاب (ص467-468)، لكن في عبارات مختصرة على النحو الآتي:

1. الخوارج: تركت مدرستُهم فكرة عدم انحصار رئاسة الدولة الإسلامية في قبيلةٍ أو عائلة أو طائفة أو فئة بذاتها دون سائر الناس، وأن شرطَ الولاية هو الكفاءة وحدها. وهذا – حسب كلام العلامة العوا – «الذي يجعل رئاسة الملوكِ والرؤساءِ الحاليين لجميع الدول الإسلامية رئاسة صحيحةً، فليس فيهم من يدّعي أن ولايته سببها نسبُه القرشي، والذين ينتسبون إلى قريش منهم تولوا عروشهم لأسباب لا شأن لها بالقرشية، وجميع هؤلاء الرؤساء والملوك حكام غلبةٍ، تصح ولايتهم من باب أن الضرورات تبيح المحظورات عند جمهور علماء المسلمين، ولكنها تصحّ صحةً أصلية لا استثنائية، بسبب طول المدى الزمني الذي بقيت في أثنائه حال الضرورة، كما هو الحال في فكر الخوارج». (ص467، ص386)

2. الشيعة الإمامية: تركت مدرستُهم فكرة «الحب العميق لآل بيت النبوة والانتصار لهم»، ثم تركت في طورها المعاصر «فكرة ولاية الأمة على نفسها»، و«فكرة رضا الأمة» كأساس لشرعية السلطة. كما التقت في تطورها المعاصر مع فكر أهل السنة القائل برد الأمر كله إلى الأمة، وتأييدِ الانتخابِ الحر، والولاية المقيدة من حيث المدة ومن حيث الاختصاص». (ص468-469)

3. الزيدية: تركت مدرستُهم «مبدأ مشروعية الثورة على الحاكم الظالم، والسعي لإقامة حكم الحق [العدل]، وأن الإمامةَ ليست محل نص، وإنما موضع اجتهاد يخطئ الناس فيه ويصيبون». كما تركت فكرةَ «جواز وجود إمامين في قطرين في وقت واحد، وهو أساس فقهي لتعدد الدول الإسلامية القائمة اليوم، بشرط التعاون الكامل فيما بينها والموالاة التامة من بعضها لبعض». (ص469)

4. المعتزلة: تركت مدرستُهم «فكرة الاحتكام إلى العقل، وضرورةَ فهم الحكم الشرعي في نطاق قدرته وإمكانيات إدراكه (…) ولم يكونوا يعارضون قط نصوص الشرع برؤية العقل». (ص469)

5. الصوفية: تركت مدرستُهم، في صورتها الخالصة من البدع والخرافات «حب الزهد، وتقدير الزاهدين، والشجاعة في الحق؛ ولا سيما في مواجهة المستعمرين والطواغيت». (ص470)

6. أهل السنة والجماعة: تركت مدرستُهم «الموقفَ القرآني الذي انبثق عنه الجميع، وهو الأصل والمرجع، وهو الوسط المتوازن الذي لا يميل ولا ينحرف، وهو موقف الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة. وهو منهج يتوسط بين العقل والنقل، ولا يسرف في التأويل، ويقبل الدليل الصحيح من السنة، وهو موقف مفتوح للمسلمين كافة». (ص471)

7. السلفية الوهابية: تركت مدرستهم «منهجًا جديدًا في العمل لنشر الدعوة وتحقيق انتصارها؛ ذلك هو منهج التعاون مع الحكام وكسبهم إلى صف الدعوة ليكونوا مناصرين لها لا خصومًا». (ص471)

8. السلفية الإصلاحية: تركت مدرستهم «فكرة العودة بالدين إلى ينابيعه الأولى، وفهمه على طريق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف»، وكذلك «فكرة تحرير العقل من قيد التقليد، وهي الفكرة التي فتحت باب التجديد والاجتهاد من أواخر القرن الثالث عشر الهجري». (ص472)

9. الإخوان المسلمون: تركت مدرستهم «فكرة شمول الإسلام للحياة كلها. والجمع بين التصور النظري للإسلام وفرائضه وأحكامه وبين العمل الحركي لإحياء الالتزام به والدعوة إليه والنزول على حكمه (…) وضرورة الاهتمام بالفرد فالأسرة فالمجتمع فالعالم، لتحقيق البلاغ الواجب لدعوة الإسلام». (ص473)

10. السنهوري وعشماوي والشاوي: ترك أولهم – عبد الرزاق السهنوري باشا – فكرة «الخلافة الناقصة» و«إقامة منظمة جامعة للدول الإسلامية (…) ووجوب النهضةِ القانونية والدستورية التي تحفظ الحقوق، وتحقق المساواة استنادًا إلى الشريعة». أما ثانيهم – حسن العشماوي باشا – فترك فكرة «الاعتدادِ إلى أبعد مدى بالحريات الفردية والجماعية»، وفكرة «احتمال تطبيق الشريعة لحلولٍ متعددة للمشكلة الواحدة، وأنه ليس هناك حتمية فكرية، أو فقهية إسلامية، بل تنوع». وأخيرًا، ترك ثالثهم – العلامة توفيق الشاوي – فكرة أن «العمل الدائب أكبر قربة إلى الله»، مثلما ترك «فكرة التفرقة بين الشورى الواجبة الملزمة، والاستشارة المندوبة المعلمة: الأولى هي وسيلة اتخاذ القرارات في الشؤون العامة، والثانية هي وسيلة التحققِ من صواب الرأي ورجحان المصلحة. (ص473-474)

في النهاية، يظل أفضل ما تركه العلامة العوا في هذا الكتاب قوله إن «الإسلام» يسع أهل القبلة كافة، فلا تبديع ولا تفسيق ولا تكفير، أما الخطأ والصواب فبابه واسع. وليس في الدنيا دين، ولا مذهب فكري يجعل للمصيب أجرين وللمخطئ أجرًا واحدًا إلا هذا الدين القويم العظيم».