الولادة، اللحظة الاستثنائية التي ينبثق فيها ذلك الكائن الحي اللطيف، الذي انتظره والداه بشغف شهورًا، كي يملأ دنياهم صخبًا وآمالًا. هذه اللحظة التي تحظى باهتمام لا مثيل له منذ بدء الخليقة، تكتسب مع مرور الزمن أبعادًا جديدة في الأهمية. هذه الممارسة التي كانت تحدث طبيعيًا في كل زمان ومكان منذ العصور البدائية، أصبحت أكثر تعقيدًا مع ما وصلت له البشرية من إمكانيات طبية تشخيصية وعلاجية، جعلت الكثير من الأفكار والمخاوف المؤرقة تحيط بالولادة، وتسبب خوف الكثير من الأمهات من خوض التجربة، رغم أن نسب المضاعفات والوفيات فيها حاليًا أقل بكثير من الأزمان السابقة.

كذلك فرضت طبائع الزمن، وكون أغلب الأمهات عاملات، نفسَها على طريقة الولادة، فلم يعد الأمر قاصرًا على المنطق الطبي في الاختيار ما بين الولادة الطبيعية، وجراحة الولادة القيصرية، إذ أصبحت تفضل الكثير من هؤلاء الولادة القيصرية اختياريًا لإمكانية تحديد موعد لها، وترتيب نمط الحياة، وظروف العمل على أساسه .. إلخ. وبالطبع خوف الكثيرات من آلام الولادة الطبيعية يظل في مقدمة أسباب اللجوء إلى الولادة القيصرية.

الاتجاه العام، خاصة في البلاد النامية في العصر الحالي يسير أكثر فأكثر صوب الولادة القيصرية، فمثلًا بلغت نسبة الولادات القيصرية في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 32% عام 2016م، وفي مصر تتحدث بعض التقارير عن أن النسبة تجاوزت النصف، مما يجعلها من أعلى النسب في العالم. كذلك وصلت النسبة إلى أرقام قياسية في مناطق أخرى، حيث بلغت 70% في بعض مناطق شمال إيران.

رغم هذه الأرقام، فقد لوحظ في الفترة الأخيرة، خاصة في البلاد المتقدمة التي تملك منظومات صحية متماسكة، تصاعدت الأصوات المطالبة بالعودة إلى الولادة الطبيعية، وجعل القيصرية في أضيق الحدود، ووفقًا للاعتبارات الطبية بالأساس وقد بدأت مثل هذه الدعوات تلقى صدىً إيجابيًا لدى بعض الأمهات، حتى أن بعض من سبق لهن الولادة قيصريًا، يردن في الولادات اللاحقة العودة للطبيعية، رغم بعض علامات الاستفهام حول مدى أمان مثل هذه الممارسة.

تنص القاعدة الطبية الذهبية على أنه لا يفضل الانتقال من الممارسة الطبية الأقل اختراقًا للجسم إلى الأكثر اختراقًا إلا لضرورة، ومن هذا المنطلق، وغيره، ستكون إجابتنا على السؤال الموجود في العنوان.


الولادة القيصرية، إنجاز ولكن

مقطع مبسط عن دواعي وخطوات الولادة القيصرية

تُنسب الولادة القيصرية تاريخيًا إلى القيصر الروماني الشهير يوليوس قيصر، حيث تذكر الرواية التاريخية – لا يمكن التثبت من صحتها – أنه أول طفل وُلِد بشق بطن أمه، وعاش. لكن يرجح المؤرخون أن تلك الممارسة كانت معروفة قبل عصر يوليوس قيصر، وكانت تستخدم بالأساس لاستخراج الطفل فورًا، في الحالات الطارئة التي كانت تتوفى فيها الأم أثناء الولادة.

الولادة القيصرية هي قيام الجراح بعمل شق أسفل البطن، للوصول إلى الرحم مباشرة، وإخراج الطفل منه، دون أن يخرج من الطريق المعتادة عبر عنق الرحم والمهبل. هناك أوضاع طبية معينة تفرض اللجوء إلى الولادة القيصرية، أشهرها تعثر الولادة الطبيعية، حيث لا يكون الطَّلْق كافيًا لإتمام العملية، أو بعض الأوضاع الخاصة للطفل داخل الرحم والتي تحول دون إمكانية نزوله بسلاسة من المسار الطبيعي، أو زيادة كبيرة في وزن الطفل وحجمه مقارنة بأبعاد حوض المرأة، أو في حالة ظهور علامات خطورة حيوية على الطفل تجعل عملية الولادة الطبيعية وما يصاحبها من انقباضات وتغيرات، مخاطرة غير محسوبة، لكن حاليًا الاستخدام الأكثر شيوعًا على أرض الواقع هو الولادة القيصرية الاختيارية التي أصبحت تفضلها الكثير من الأمهات.

بالرغم من انخفاض معدلات المضاعفات والوفيات، تظل الولادة القيصرية جراحة كبيرة، تتضمن شق البطن، والتخدير النصفي أو الكلي. فعلى سبيل المثال، احتمالية حدوث الوفاة في الولادة القيصرية هي تقريبًا ضعف الولادة الطبيعية.


8 فوائد للولادة الطبيعية

فيديو مبسط يشرح خطوات الولادة الطبيعية

الولادة الطبيعية هي انتظار ومراقبة حدوث العملية الطبيعية في وقتها وأوانها، بعد أن يكون الطفل قد أكمل 37 أسبوعًا على الأقل، وإلا تكون ولادة قبل الأوان. يبدأ الرحم في الانقباض بشكل يتزايد كمَّا وكيفًا بالتدريج حتى تصل إلى 3-5 نوبات في خلال 10 دقائق، وهذا معدل كافٍ لإخراج الطفل. يتزامن مع هذا انثقاب الكيس الأمنيوسي المحيط بالطفل داخل الرحم، وتسرب السائل الأمنيوسي، وبدء ذوبان السدة المخاطية في عنق الرحم، والذي يبدأ في التغير استعدادًا لنزول الطفل، حيث يبدأ في الاتساع رويدًا رويدًا. قد تستغرق هذه العملية عدة ساعات فحسب، وقد تصل إلى يوم أو يومين، خاصة لدى من يلِدْن للمرة الأولى. ونقطة الوقت تلك، من أبرز أسباب تفضيل الأطباء وكثير من الأمهات لإجراء الولادة القيصرية لإمكانية تحديد موعدها، وإنجاز الأمر في وقت قليل بدلًا من المراقبة والانتظار.

يميز البعض بين الولادة المهبلية عمومًا، والولادة الطبيعية، بمعنى الخالية من استخدام المسكنات، والتي يتم ضخها إلى السائل الشوكي حول النخاع الشوكي بالظهر، وذلك لتقليل الألم، وهو ما يعرف شعبيًا بالولادة بدون ألم. يخشى البعض من مضاعفات مثل هذا الإجراء، مثل هبوط الدورة الدموية إذا زادت الجرعة عن الحد، مما قد يؤثر على نبض وتنفس الطفل، وكذلك حدوث آلام بالظهر، أو تسرب للسائل الشوكي .. إلخ. لحسن الحظ فتلك المضاعفات نادرة الحدوث، وللأم اختيار الأنسب لها، ما بين ولادة طبيعية مطلقًا تتحمل ألمها بدلاً من المخاطر المحتملة للدواء، أو الولادة بدون ألم مع الوضع في الاعتبار احتمالية حدوث تلك المضاعفات على ندرتها. وهذه طائفة من فوائد الولادة الطبيعية:

1. تجنب مضاعفات محتملة للولادة القيصرية

أشهر مضاعفات الولادة القيصرية هي ألم شديد بالبطن مكان الجرح، وغالبًا ما يستدعي استخدام مسكنات قوية للغاية كالمورفينات في الساعات والأيام الأولى. كذلك قد يحدث تلوث بكتيري في جرح البطن يُصَعِّب التئامَه، أو قد يحدث التلوث داخل الرحم (يقل هذا كثيرًا مع التعقيم الجيد). كذلك نتيجة فتح البطن قد يحدث توقف مؤقت لحركة الأمعاء يستدعي التوقف عن الطعام والشراب لحين عودتها، كذلك تفقد الأم في القيصرية مقدارًا أكبر من الدم، وهناك أيضًا مضاعفات التخدير.

أيضًا فترة النقاهة بعد الولادة القيصرية أطول كثيرًا، مما يحرم الأمهات من القدر الكافي من النشاط لمراعاة طفلها منذ اللحظة الأولى. قد يصحب فترة النقاهة عدة أيام من الرقود بالسرير، وهذا يبطئ حركة الدورة الدموية، فيزيد كثيرًا من فرص حدوث جلطات بأوردة الساقين والرئة، خاصة وأن الحمل عمومًا يزيد قابلية الدم للتجلط.

2. عودة سريعة إلى النشاط والوضع الطبيعي

في أغلب حالات الولادة الطبيعة، يمكن للأم أن تعود لممارسة أنشطة حياتها المعتادة منذ اليوم الأول، وأبرزها الاهتمام بوليدها قلبًا وقالبا. كذلك لا تكون بحاجة للراحة بالسرير لأكثر من ساعات بعد الولادة، فتتحرك مبكرًا، وتتجنب أضرار الرقود بالسرير. وأيضًا تساعد الولادة الطبيعية وانقباضاتها، في سرعة عودة الرحم والبطن إلى الحجم الطبيعي بعد الولادة. في المقابل، فكما أشرنا سابقًا، غالبًا ما تحتاج الأم بعد القيصرية لعدة أيام على الأقل من النقاهة.

3. رضاعة أفضل

تساعد النقاهة السريعة بعد أغلب الولادات الطبيعية، الأم في رعاية طفلها وإرضاعه بشكل أفضل ومنذ الدقائق الأولى في حياته، وهذا مفيد للغاية له، فالرضعة الأولى تتضمن ما يعرفه الناس بلبن السرسوب، والذي يكون غنيًا للغاية بالأجسام المضادة المفيدة لمناعة الطفل. تساهم الولادة الطبيعية في تحسن كمية ونوعية لبن الأم، وكفاءة عملية الرضاعة، مقارنة بالقيصرية، نتيجة دفق الهرمونات أثناء عملية الولادة، وعبور الطفل عبر المهبل.

4. تنفس أفضل للطفل

تساهم انقباضات الرحم وعضلات الأم على جسم الطفل، خاصة أثناء عبوره في الجزء السفلي من الرحم، والعنق، ثم المهبل، في تخلص الرئة من السوائل بداخلها، فتكون أفضل استعدادًا لبدء عملية التنفس بمجرد الخروج إلى النور، وبالتالي تقل فرص حدوث مشاكل التنفس المبكرة، والحاجة لوضع الطفل على دعم تنفسي في الحضّانات. كذلك أظهرت بعض الدراسات أن الطفل المولود طبيعيًا أقل في احتمالية التعرض لحدوث الربو الشعبي وأنواع مختلفة من الحساسية.

5. جرعة من البكتيريا المفيدة

من أهم عوامل الحفاظ على مناعة الجهاز الهضمي، وجود تنوعات من البكتيريا الصديقة داخل الأمعاء. خلال عبور الطفل من القناة المهبلية، فإن جسمه يحصل على نسبة أكبر من تلك البكتيريا الطبيعية التي تساهم على المدى القصير والمتوسط والطويل في الدفاع المناعي عن الجهاز الهضمي، وكذلك في تحسين جودة عمل الهضم، وامتصاص بعض المواد الحيوية مثل فيتامين ك وغيره.

6. نضج أكثر لمخ الطفل

أثناء مرور الطفل عبر القناة المهبلية، وضغط عضلاتها على رأسه، يفرز جزء هام في المخ – وهو الـ hippocampus والذي يعرف بحصان البحر أو قرن آمون – بروتينًا مميزًا اسمه UCP2، يعتقد العلماء أنه يساهم في نضج وظائف المخ، من خلال تنظيم عمليات السلوك والذاكرة ورد الفعل تجاه التوتر، وكذلك يساهم في تسهيل بدء عملية الرضاعة الطبيعية لدى الطفل.

7. حضور الزوج

أثناء الولادة الطبيعية، من الممكن أن يتواجد الزوج بجوار زوجته لدعمها بشكل مباشر، مما يضفي أجواءً استثنائية من الدعم النفسي والمعنوي، ويجعل التجربة إضافة حقيقية لرصيد الحب بين الزوجيْن. ويمكن الاستعانة بمتخصصات في التوليد، وإجراء العملية برمتها في المنزل في حالة كانت مؤشرات الطفل جيدة في آخر متابعاته. لكن في حالة الولادة القيصرية، يكون من الصعوبة بمكان تواجد الزوج داخل غرفة العمليات.

8. أوفر للجيب

وهذه نقطة حيوية للغاية في الزمن الحالي، خاصة مع تفاقم أسعار الخدمات الطبية حول العالم. الولادة الطبيعية في أغلب الحالات قد لا تزيد مجمل تكلفتها المادية – في حالة عدم حدوث مضاعفات لأي منهما – عن ربع تكلفة الولادة القيصرية. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا يبلغ متوسط تكلفة الولادة الطبيعية ما بين ألفين إلى 4 آلاف دولار بالمنزل، وضعفها بالمستشفى، وتزيد قليلاً في حالة الولادة بدون ألم، أما الولادة القيصرية فقد تصل إلى حوالي 20 ألف دولار.