التبغ يحترق، والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تمامًا: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقًا بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرةً أخرى. لن ينتهي البؤس أبدًا… وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع.

الاقتباس السابق هو السطور الأخيرة في نص أدبي بعنوان «رسالة فان جوخ الأخيرة» للكاتب السوري «نبيل صالح»، إلا أن النص انتشر على أنه رسالة انتحار فان جوخ، الفنان الهولندي الشهير، التي كتبها بنفسه؛ ربما ذلك لأن الرسالة تحتوي على إشارات لأشهر أعمال فان جوخ وعلى بعض أقواله وبعض الاقتباسات من رسائله، في إطار أدبي قوي. فإذا لم تكن رسالته الأخيرة، فهي الملخص الأخير لحياته.

لكن الحياة التي تصفها تلك السطور حياة قاسية أليمة؛ يتقلب فيها صاحبها بين الأزمات العقلية والنفسية. وربما كانت مبررًا كافيًا لانتحاره في السابعة والثلاثين من عمره. إلا أن هناك نظرية بديلة تنتشر بقوة في الفترة الحالية، ومفادها أن فان جوخ لم ينتحر بل قُتل. لكن قبل أن نبحث في هذا السؤال، لابد أن نستعرض سيرة حياة فان جوخ، أشهر شهيد في تاريخ الفن، لأنه لا يمكن فهم النهاية إلا بفهم الطريق إليها من بدايته.


سيرته الذاتية

ولد فينسنت فان جوخ في مقاطعة برابنت بهولندا في 30 مارس/آذار 1853، وكانت طفولته كما وصفها لاحقًا «متقلبة وباردة»، وترك دراسته في الخامسة عشرة. كان والده قسًا بروتستانتيًا، مثله مثل جده، وكان أعمامه تجار أعمال فنية، وأمضى أخوه الأصغر ثيو حياته كتاجر فني، فكان مقدّرًا له أن يسلك أحد الطريقين: الدين أو الفن.

في عام 1869، انضم فينسنت إلى شركة لتجارة الأعمال الفنية في لاهاي. وفي عام 1873 انتقل لفرع الشركة في لندن، وتعرض هناك لأول صدمة عاطفية في حياته، حيث أحب ابنة صاحبة المنزل الذي كان يقيم فيه، إلا أنها رفضته لأنها كانت مخطوبة سرًا لشخص آخر تحبه. مما جعل فنسنت يصبح أكثر انعزالًا وأكثر تدينًا، حتى أعلن لعائلته، عام 1876، تركه لمجال تجارة الأعمال الفنية وأنه يريد أن يصبح قسًا مثل والده.

استعد فنسنت عام 1877 لامتحان القبول لكلية اللاهوت في جامعة أمستردام، إلا أنه لم ينجح. وكانت محاولته الثانية في التحاقه بمدرسة تبشير بروتستانتية لمدة 3 أشهر عام 1878، ليذهب بعدها كمبشر إلى منطقة مناجم الفحم في بلجيكا، وهناك هاله حالة العمال من الجوع والمرض والفقر والموت في الانفجارات التنقيبية، لدرجة أنه ترك مكان إقامته لأحد الفقراء المشردين وأقام في كوخ صغير حيث كان ينام على القش، وتبرع بكل ما كان يملكه للعمال حتى معظم ملابسه. لكن تلك التصرفات لم تعجب سلطات الكنيسة فأقالته لأنه «يقلل من كرامة الكهنوت». في نهاية عام 1879، ترك الكنيسة معلقًا في أحد رسائله لثيو: «كنت أتمنى أن يقبلوني كما أنا». وعند عودته لمنزل والديه شجعه أخوه ثيو على أن يصبح رسامًا محترفًا بعد أن رأى رسوماته للعمال في بلجيكا.

في يونيو/حزيران 1880، كتب لأخيه ثيو عن فلسفته الفنية اللاهوتية الجديدة والتي مزج فيها الرسم بالطبيعة بالدين: «حاول أن تفهم القيمة الحقيقية لما يقوله لنا الرسامون العظام من خلال أعمالهم وستجد الإله هناك. فشخص ما أخبرنا به أو كتبه في كتابٍ وآخر رسمه في لوحة». وفي عام 1881، أصيب بصدمته العاطفية الثانية حيث رفضته ابنة خالته، التي كانت تكبره بسبع سنوات، لأنه لم يكن قادرًا على أن يعيل نفسه.

وبنهاية عام 1881، بدأ يفقد إيمانه بالدين الكنسي وكان يدخل في نقاشات حادة مع والده لرفضه الذهاب للكنيسة. لكنه لم يتخلَّ عن فكرة الإله، فيقول في إحدى رسائله في ديسمبر/كانون الأول 1882: «إنها مقولة رائعة لفيكتور هيجو، الأديان تزول ولكن يبقى الإله». ولكنه اعتنق عقيدة الرسم محل الدين تمامًا، فيقول: «سآخذ قلمي الذي فقدته في خيبة أملي، وسأستمر في الرسم. ومن تلك اللحظة تغير كل شيء بالنسبة لي».

فقد تغيرت رؤيته للإله من الإله اللاهوتي الكنسي للإله الفاعل في الطبيعة وفي أرواح الناس. ففي رسالة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1883 يقول: «إن هدفنا هو الإصلاح الذاتي عن طريق العمل اليدوي وفي الاتصال بالطبيعة، هدفنا هو السير مع الإله». وفي رسالة لأخته بتاريخ أكتوبر 1887 يقول: «هل الإنجيل كافٍ لنا؟ لابد أن نجد شيئًا مماثلًا في قوته وعظمته وأصالته حتى نغير المجتمع ككل، مثلما فعل الإنجيل في مجتمع المسيحيين القدامى».

كان فان جوخ يرى، على عكس والده، أن الإيمان لا ينبع من التعاليم، بل من الشعور وخصوصًا شعور أفراد الطبقات العاملة كالفلاحين والعمال. فيقول في رسالته لثيو بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1882:

هذا الشعور بعيد تمامًا عن اللاهوت؛ فالحقيقة أن أفقر الحطابين أو الفلاحين لديه لحظات من العاطفة والإلهام التي تعطيه الإحساس بالمسكن الأبدي … في بعض الأحيان يوجد شيء لا يمكن وصفه في تلك الجوانب، فالطبيعة كلها تبدو وكأنها تتحدث. وبالنسبة لي فإني لا أفهم لماذا لا يرى ذلك كل شخص ولماذا لا يحس به. فالطبيعة أو الإله يفعل ذلك لكل من لديه عينان وأذنان وقلب ليفهم.

وهو ما ظهر جليًا في لوحته الأولى العظيمة «آكلو البطاطا» في أبريل/نيسان عام 1885، والتي يقول عنها في خطاب لأخيه ثيو: «إن الفقراء الذين يأكلون البطاطا قد حفروا الأرض بنفس الأيدي التي يأكلون بها. فهي وجبة استحقوها بأمانة نتيجة عملهم اليدوي الشاق».

لوحة «آكلو البطاطا» لـ فان جوخ

ترك فنسنت المنزل وانتقل لهولندا، وهناك أصبح تلميذًا للرسام الهولندي أنطون موف. وفي فبراير/شباط 1882 قابل بائعة هوى اسمها كلاسينا، الملقبة بـ «سين»، حاملا بطفلها الثاني وابنتها ذات الخمسة الأعوام، والتي انتقلت للعيش معه لسنة ونصف السنة. انتشرت إشاعة أن فنسنت هو والد طفلها، ولكن فنسنت يقول في خطاب لثيو: «كانت تسير مريضة، حاملا، وجائعة في الشتاء»، مما يذكرنا بعلاقته بعمال المناجم في بلجيكا.

إلا أن علاقته بسين أثارت غضب والده بشده وطلب منه أن يتركها في الحال، وهو ما رفضه فنسنت في البدء ولكن في عام 1883 افترق هو وسين بعد تدهور العلاقة بينهما. ثم واجه الصدمة العاطفية الأخيرة في حياته في أغسطس/آب 1884، عندما أحب ابنة أحد جيرانه، والتي كانت تصغره بعشرة أعوام، وأحبته هي الأخرى. إلا أن العائلتين رفضتا زواجهما فحاولت الفتاة الانتحار إلا أن فنسنت أنقذها بإسراعه لنقلها إلى المستشفى.

وفي 26 مارس/آذار 1885 توفي والده من أزمة قلبية وبعدها تصاعد فشله في بيع لوحاته بسبب كونها «مظلمة وكئيبة» عن التيار الانطباعي المعتاد بألوانه المشرقة. فالتاريخ يقول إن فنسنت لم يستطع أن يبيع إلا لوحة واحدة فقط أثناء حياته، رغم أن أخيه كان تاجر لوحات فنية. وتلك كانت مأساة بالنسبة له لأن الفن في نظره هو وسيلة تعبير وتخاطب مع الآخرين للتغير، فإذا كان فنه لا يتواصل مع أحد فإنه ليس له أهمية أو هدف.

كانت هذه المأساة من أسباب اكتئابه المزمن. ففان جوخ القسيس المرفوض من الكنيسة لأنه ليس خاضعًا لشروطها، كان أيضًا مرفوضًا من تيار الفن المعتاد في عصره. فالفنانون في عصره بتيارهم الانطباعي، كانوا يهتمون بالجماليات وبوصف العالم كما يظهر لهم سطحه الخارجي. ولكن فان جوخ، كان يرسم كأنه يخوض غمار تجربة دينية روحية يتصل فيها بالطبيعة وبالقوى المطلقة وراء تكوينها وبما وراء العالم وبالرغبة في تغير الواقع تغيرًا اجتماعيًا أخلاقيًا، فلم يتحمل طريقة زملائه في عصره بالرسم لمجرد الرسم والفن لمجرد الفن. لقد كان الفن حياته ومهمته الروحية.

فدخل فنسنت في حالة اكتئاب عميقة وكان يشرب الخمر بكثرة إلا أنه عاد للعمل في عام 1886 بألوان أكثر إشراقًا. وفي عام 1888، زاره الفنان غوغان وتكونت صداقة بينهما فأقام عنده ورسمه وهو يرسم لوحة عباد الشمس، واقترح عليه أن يغير أسلوبه في الرسم ليعتمد على الخيال والذاكرة. ولكن غوغان كان متكبرًا ومتغطرسًا فتدهورت العلاقة بينه وبين فنسنت رغم إعجاب فنسنت الشديد به. وفي ديسمبر/كانون الأول 1888، بعد مشادة مع غوغان، عاد فنسنت لغرفته وانتابته نوبة عقلية وهلاوس، فقطع أذنه اليسرى بموس حاد، ثم ضمد جرحه ولف الأذن المقطوعة بالورق وذهب بها ليعطيها لإحدى العاهرات. وعثرت عليه الشرطة في اليوم التالي ونقلته للمستشفى. ولم يستطع فان جوخ أن يتذكر أحداث تلك الليلة مما يعطي الانطباع بأن النوبة التي أصابته كانت شديدة.

استمرت النوبات تنتابه حتى وافق طوعًا على اللجوء إلى مستشفى سان بول دي موسول النفسي في جنوب فرنسا في 8 مايو/آيار 1889. وخلال الأسابيع التي قضاها في المستشفى كان يرسم ما يراه خارج نافذة غرفته. وفي منتصف شهر يونيو/حزيران، أنتج فان جوخ عمله الأفضل وهو لوحة «ليلة النجوم». ثم تركها في مايو/آيار 1890 وانتقل للريف الفرنسي الذي يقول عنه في رسالة لثيو بتاريخ 10 يوليو/تموز: «إن اللوحات التي أرسمها ستخبرك ما لا أستطيع صياغته في كلمات؛ وهو كم أجد الريف صحيا ومنشطا»، حتى أنه كان يرسم بمعدل لوحة كاملة يوميًا. ولكن بعدها بأسبوعين مات فان جوخ نتيجة إصابته برصاصة في الصدر.


واقعة الانتحار

إن الرواية المتعارف عليها ترويها ابنة صاحب المنزل، ذات الثلاثة عشر عاما في حينها، والتي تقول: إن فنسنت ترك المنزل بعد الإفطار كعادته إلا أنه لم يعد إلا ليلًا ممسكًا ببطنه، وصعد إلى غرفته متألما. وعندما صعد إليه صاحب المنزل وجد أنه مصاب برصاصة، وقال له: «لقد حاولت قتل نفسي». وأثناء الليل، قال فنسنت إنه ذهب للحقول كعادته في الفترة الأخيرة لكي يرسم، وإنه أطلق على نفسه الرصاص عند الظهر، وأفاق ليلًا وأخذ يبحث عن المسدس ليكمل ما بدأه إلا أنه لم يجده، فعاد للبيت. جاء الطبيب وضمد جرحه إلا أنه أعتبر الحالة ميؤوسا منها لأنه لا يمكن إخراج الرصاصة، وبالتالي سيتلوث الجرح آجلًا أم عاجلًا.

وطوال الليل أخذ فان جوخ يدخن في هدوء ويغفو من حين لآخر. وفي الصباح، زاره ضابطان ليستجوباه عن محاولة الانتحار، فرد قائلًا: «أرجو ألا تتّهما أحدا. لقد تمنيت أن أنتحر». ثم جاء ثيو ليجده في حالة معنوية جيدة، إلا أنه بعدها بساعات مات. وكانت كلماته الأخيرة لأخيه هي: «سيستمر الحزن إلى الأبد».


الرواية البديلة

لكن تم التشكيك في رواية الانتحار هذه عدة مرات بدءًا من ثلاثينيات هذا القرن. وفي عام 2011، نشر الصحفيان ستفين نايفه وجريجوري سميث، الحائزان على جائزة بوليتزر الصحفية المرموقة في الولايات المتحدة، سيرة ذاتية لفان جوخ يؤيّدان فيها تلك النظرية لعدة أسباب مهمة:

  • لم يتم العثور على المسدس وراء تلك الحادثة.
  • لم يتم العثور على أدوات فان جوخ التي كان يستعملها في الرسم.
  • رسومات فان جوخ في فترته الأخيرة كانت لا توحي بأي كآبة أو اضطرابات عقلية.
  • رسائله لأخيه كانت توحي بارتياح صحي ونشاط إبداعي.
  • لم يترك رسالة انتحار. وحتى الرسالة التي وجدوها معه بعد موته وظنوا أنها رسالة انتحار، اتضح أنها مسودة لخطابه الأخير لثيو بتاريخ 23 يوليو/تموز 1890. بل إنه في هذا الخطاب يتحدث عن انخراطه في العمل ويطلب ألوانًا إضافية له ولأحد أصدقائه.
  • بعض الأطباء الشرعيين، بعد فحص روايات الشهود عن مكان إصابته بالرصاصة في جانبه الأيسر ووصف فتحة الدخول بـ «النظيف» وأن فان جوخ يستعمل يده اليمنى، يقولون إنها لا تستقيم مع محاولة انتحار.

لو كان هذا الكلام صحيحًا، فمن قتله؟

في الثلاثينيات من هذا القرن زار الأكاديمي الأمريكي جون ريوالد وسأل أهل المنطقة ليجد أن الشائعات تقول إن فان جوخ قُتِل خطأً على يد بعض الصبية، وإنه تحمل الذنب ليحميهم. وبهذا يكون فان جوخ قد مات نتيجة قتل خطأ وليس انتحارًا. ويضع الصحفيان «ستفين نايفه»، و«جريجوري سميث» النظرية الكاملة البديلة التي تقول إن فان جوخ كان يعرف أولئك الصبية، وكان أحدهم «رينيه سيكريتان»، ابن صيدلي فرنسي وذو ستة عشر عامًا في حينها، مولعًا بأفلام رعاة البقر الأمريكيين لدرجة أنه اشترى زيًا تذكاريًا بالقبعة وكل شيء.

واشترى أيضًا مسدسًا إلا أنه كان معيبًا وكان يطلق النار خطأ في بعض الأحيان، على حسب رواية رينيه نفسه في حوار له مع إحدى الصحف الفرنسية عام 1956 قبل أن يموت بعام. ويقول فيه إن المسدس «كان يعمل عندما يريد»، وإن القدر هو من أراد أن يعمل يوم أصاب فان جوخ. ويعترف فيه أنه هو وأخوه كانا يضايقان فان جوخ بلا رحمة، فكانا يضعان الملح في قهوته والشطة على فرشاته لأن من عادات فان جوخ عند الاستغراق في التأمل لعق الفرشاة، إلا أنه يقول إن فان جوخ هو من سرق المسدس منه.


خاتمة

لوحة آكلو البطاطا

إن تحمل فان جوخ لذنب القتل الخطأ لكي يحمي الصبية يستقيم مع شخصيته المضحية. كما أن أمنيته كانت فعلًا أن يموت، كما كان يتمنى في بعض رسائله القديمة. إلّا أن فكرة الانتحار بالنسبة له كانت مرفوضة أخلاقيًا وقانونيًا، حيث إنه كان يعتقد أن الناجين من الانتحار يجب القبض عليهم وسجنهم. ولهذا فموته في قتل خطأ يتحمل هو ذنبه، يعتبر وسيلة خروج من حياته المثقلة بالهموم الدينية والمشاكل العاطفية والمادية والنوبات العقلية التي تنتابه؛ أي أنها تمنحه الخلاص المطلق بدون أي ذنب.

وعلى أية حال، سواء كانت الواقعة انتحارا أو قتلا خطأ، فإن الأمر سار كما أراده فان جوخ. إلا أن تلك الرواية البديلة قد أثارت الكثير من النقاش بين القليل المؤيد لها والكثير المعارض لها. وهو ما يمكن تلخيصه في مقولة أحد أمناء متحف فان جوخ للصحفيين، إن ما يقولانه سيعتبر: «هرطقة ضد إنجيل فان جوخ المتعارف عليه، لأن واقعة انتحار فان جوخ هي النهاية العظمى لشهيد الفن المصلوب وتاجه المصنوع من الأشواك».

المراجع
  1. Steven Naifeh and Gregory White Smith: Van Gogh: The Life
  2. Van Gogh Letters