في البداية، الحديث هنا لن يأخذ منحنى فقهيا حول الحجاب.. والآتي ذكره في هذا المقال هو نقد للهجة الخطاب النسوي السائد بما فيها دعوات خلع الحجاب في ميدان التحرير التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، لكن من منظور النسوية نفسها.

منذ حوالي 24 قرنًا، طالب الفيلسوف اليوناني أفلاطون بالمساواة الجنسية والسياسية بين الرجل والمرأة، وأن النساء لابد وأن يكون لهن تمثيل في أعلى الطبقات في المجتمع، بما في ذلك طبقة قادة الحكم والحرب. وبحسب هذا الرأي نستطيع أن نعتبر أفلاطون أول مفكر أو كاتب نسوي معروف في العالم، وإن لم يكن كذلك، فإن المرأة الآتي ذكرها تعتبر كذلك.

في القرن الخامس عشر كتبت الفرنسية من أصول إيطاليةكريستين دي بيسان (1364- 1430) كتاب مدينة السيدات (Le Livre de la Cité des dames). يعد كتاب دي بيسان من أقدم الكتب التي تنتصر للفكر النسوي. وتُعتبر دي بيسان نفسها من أول النسويات في العالم بعد نشرها لهذا الكتاب، حيث دافعت دي بيسان عن المساواة بين الجنسين وقاومت النظرة الجنسية الدونية ضد المرأة. في مدينة السيدات قدمت دي بيسان نماذج لنساء لا يرقى لهن الشك لقوة فضائلهن. كما قدمت صورة شديدة الأخلاقية عن المرأة، لتكون مدينة النساء مستودع الفضائل وحصن منيع في الدفاع عن المرأة في وجه الهجمات الذكورية الحادة. الناس في مدينة النساء عبارة عن محاربين، مخترعين، علماء، قديسين، أنبياء، زوجات ورعات وبنات مطيعات لأهلهن. المدينة مصصمة بعناية بحيث لا مجال للخطأ، فالجميع يتميز بالطيبة والورع، والجميع متساوي في الحقوق والوجبات، والمرأة لا تقل عن الرجل في القيمة أو الكرامة.

يعتبر عمل دي بيسان نافذة على وضع المرأة في العصور الوسطى، حيث ناقش الكتاب المفاهيم التي لم تكن قابلة للنقاش حول وضع المرأة ومنزلتها وهيمنة المذكر واعتباره جنسيًا أرقى من المرأة. تبنت دي بيسان صورة للمرأة كانت أبرز ملامحها العفة، الثقافة، والجدارة بتولي أعلى المناصب والتساوي مع الرجل. في الصورة الآتية تظهر دي بيسان ترتدي غطاء للرأس وتحاضر لعدد من الرجال..

كريستين دي بيسان

ليس في هذه فقط هناك العديد من اللوحات التي تظهر فيها بيسان بغطاء الرأس..

هل كانت كريستين دي بيسان “عديمة الكرامة” بتبني هذه الرؤية عن المرأة بحسب الدعوة التي أطلقتها دكتورةهدى بدران، رئيس الاتحاد العام لنساء مصر، والتي طالبت فيها فتيات مصر بخلع الحجاب “استردادا لكرامتهن“. هل المحجبة عديمة الكرامة والمكشوفة الرأس بكرامتها؟ ألا تكون لهجة الخطاب النسوي هذه معادلة تمامًا وعلى نفس القدر من التحقير الذي يقدمه الخطاب الديني المتطرف الذي يعتبر المرأة المكشوفة الرأس مصاصة متروكة للذباب والمحجبة محفوظة من الحشرات! الحقيقة، أن لا خلع الحجاب ولا ارتداءه مقياس على تدني وضع المرأة أو تقدمها. فمنذ ناقش أفلاطون من 24 قرنا وضع المرأة وحتى اليوم لم تكن المشكلة أبدًا مقترنة بتغطية الرأس أو كشفها. النسوية نفسها بتعريفها البسيط المتداول معنية من البداية بالمساواة بين الجنسين من خلال العديد من النظريات الاجتماعية والممارسات السياسية، وتهدف النسوية بشكل عام لإحداث تغيير في المناطق التي تعاني فيها المرأة من هيمنة الذكر والحرمان من الممارسات الاجتماعية والسياسية، كما تهتم بتقديم العون للنساء في قضايا العنف الأسري، الحقوق الإنجابية، زواج المثليين، قضايا العمل، المساواة في الأجور والتحرش الجنسي و”التمييز العنصري”.

فالنسوية إذا كانت ترفض هيمنة الذكر على الأنثى من منظور جندري، فإنها أيضًا ترفض كل أنواع التمييز ضد المرأة على أساس اللون، العرق أو “الدين”. وأي تمييز لفرد على آخر من منطلق ديني ليس فقط تمييزا عنصريا بل يتناقض جوهريًا مع ما تتبناه النسوية منذ أفلاطون. لا يمكن بأي حال من الأحول تمييز غير المحجبات على المحجبات باللفظ واعتبار من تخلع حجابها متنورة “عندها كرامة” ومن ترتدي حجابها “معندهاش كرامة”. هذه الدعوات لن تكون صفعة على وجه الإسلاميين بل صفعة على وجه النسوية نفسها. بل إن مثل هذه الدعوات توضح كيف أن الخطاب النسوي المعاصر في مصر بلغ حدًا من “الهيافة” لا يمكن معه فتح نقاش عقلاني يتم فيه تبادل وجهات النظر والآراء حول القضايا التي تثقل بحق كاهل المرأة.

وإذا كان الخطاب النسوي المعاصر يفترض أن الإسلاميين يكنون العداء للمرأة وقد بسطوا سيطرتهم على المرأة. فالسؤال الواجب طرحة هو ماذا قدمت النسوية للمرأة! لا خلاف على أن المرأة تعاني من أوضاع شديدة القمع وأن وضع المرأة في العالم العربي والإسلامي غير إنساني بشكل عام. لكن في ظل هذه الأوضاع غير الإنسانية التي تعاني منها النساء خاصة في الأرياف والقرى والنجوع كانت الجمعيات والمساعدات التي يقدم فيها الإسلاميون طوق نجاه للعديد من الأسر التي يأست من مؤسسات الدولة المترهلة ومن البيروقراطية الحكومية. قدم الإسلاميون الرعاية الصحية والمساعدات المالية لأسر شديدة الفقر. ومع أن الأمر كان لمجرد الحشد الجماهيري لتيار إسلامي بعينه في معركة سياسية مع الدولة، إلا أن المرأة في تلك المناطق حقيقة لا تهتم بغرض مَن يساعدها مِن وراء مساعدته لها، المهم أن تحصل على ما تحتاجه فقط. في الوقت الذي كان فيه الخطاب النسوي يعتبر العلمانية بشكلها الأوربي جوهر نضاله ولم تجن النسويات من وراء هذا النهج إلا مزيدا من الانفصال عن مشاكل المرأة عميقة الجذور. في مصر على الأقل، كان الإسلاميون أكثر تغلغلًا ووصولًا لمشاكل المرأة بحق. صحيح أن النشاط النسوي أحدث بعض التغيير بخفض معدلات الأمية ومقاومة ختان الإناث، إلا أن النسوية بشكلها المعاصر لم تستطع أن تنفي عن نفسها شبهة التغريب والتلحف بالعلمانية الغربية، وهذا بحد ذاته كان وسيظل عائقًا أمام وصولها للمرأة في مجتمع ليس فقط شرقيا بل يغلب عليه الطابع الإسلامي أيضًا. ولا يقودنا هذا النموذج إلا إلى مزيد من الاحتراب الأهلي والحنق الاجتماعي. وقبل تبني مثل هذه الدعوات العنصرية والترويج لها، هل نضع بعين الاعتبار ما حدث في سوريا في الثمانيات أثناء فترة حكم حافظ الأسد، عندما تبنت الدولة لهجة خطاب نسوي شديدة التطرف في إطار صراعها مع قوى الإسلام السياسي، ما أفضى في النهاية إلى أن العديد من المحجبات كن يُجبرن على خلع حجابهن في الشوارع تحت تهديد السلاح. هل يجب أن نصل لهذا الحد لندرك أن عاقبة “الهيافة” أخطر مما نتصور؟

الدعوة لخلع الحجاب والتي هي في جوهرها دعوة للتمييز العنصري لن تضر الإسلاميين بقدر ما ستكون حجة لهم على أن المعركة الدائرة معركة دينية، وأن الحرب حرب على الرموز الإسلامية. ولو أن بين النسويات في مصر واحدة تتمتع بالقليل من العقل لأعلنت رفضها التام لهذا الهراء الذي يضع النسوية اليوم في خندق واحد مع بطش الدولة بالإسلاميين على نهج ما حدث في سوريا. كما أنه يجعل الخطاب النسوي على نفس خطى الخطاب الإسلامي المتطرف المهووس بالسيطرة على جسد المرأة! ألا يكون تسفيه المحجبات وتميز غير المحجبة على المحجبة مناقضا جوهريًا لفكرة حرية المرأة التي تنادي بها النسويات! مرة أخرى، خلع الحجاب صفعة على وجه مَن! الإسلاميين! حقًا! ألا تتميز الدعوة لخلع الحجاب بقدر شديد من السلطوية التي تهدف إلى تغيير نمط المجتمع و”تحقير” كل من لا ينخرط في مهرجان خلع الحجاب! صفعة على وجه مَن! الإسلاميين! حقًا!