محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2019/02/06
الكاتب
مات فيرشن

حين أعلن خوان جوايدو، زعيم المعارضة الفنزويلية، نفسه رئيسًا انتقاليًا للبلاد في 23 يناير/كانون الثاني 2019، خطا الوضع السياسي في فنزويلا، الهش أصلًا، خطوة أخرى نحو مزيد من التأزم؛ ذلك أن إعلان جوايدو -الذي كان يرأس الجمعية الوطنية حين جُردت من صلاحياتها التشريعية في 2017 لصالح محكمة العدل العليا المشكلة حديثًا، والمؤلفة من مشرعين موالين للرئيس نيكولاس مادورو– أشعل انقسامًا فاض عن الشارع الفنزويلي إلى الميدان الدولي.

حظي جوايدو، رئيس الهيئة التشريعية السابقة مقيدة الصلاحيات، باعتراف بشرعية رئاسته من الولايات المتحدة وكندا وبعض المراكز الاقتصادية الكبرى في أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وبيرو وتشيلي. أما روسيا، فأدانت ما صورته محاولة للقفز على السلطة، فيما دعت دول مثل المكسيك وأوروجواي وألمانيا إلى عملية تفاوض سياسي سلمي تفضي إلى انتخابات جديدة.

إن أكبر مستثمر أجنبي في فنزويلا هو الصين، التي أقرضت الأولى ما يربو على 60 مليار دولار منذ مطلع القرن الحالي، وقد نبهت الصين وسائر داعمي فنزويلا إلى الخطر الذي يتهدد سيادتها الوطنية وحكمها المتحرر من التدخل الأجنبي.

وفي بيان خلا على نحو ملحوظ من أي التزام، قال هوا تشونيينج، المتحدث باسم وزارة الشئون الخارجية الصينية:

إننا ندعو جميع الأطراف المعنية إلى الهدوء والتعقل والسعي إلى حل سياسي تحت مظلة الدستور الفنزويلي من خلال حوار سلمي… إن الصين تدعم جهود حكومة فنزويلا لصيانة السيادة الوطنية والاستقلال والاستقرار… ولطالما كانت الصين ملتزمة بمبدأ عدم التدخل ومعارضةً للتدخل الخارجي في شئون فنزويلا الداخلية.

قدمت الصين –ولم تزل– الدعم السياسي والمالي لفنزويلا، بينما كانت الأخيرة تنزلق ببطء إلى أزمة اقتصادية وإنسانية. لكن رفض بكين الاعتراف بالدور الذي لعبته قروضها ودعمها الدبلوماسي في التردي البطيء للوقائع في فنزويلا ينطوي على دروس ثمينة، يجدر بصناع القرار في فنزويلا وشركائها الدوليين ألا يغضوا الطرف عنها.


أوقات عصيبة مقبلة

في ربيع 2012، دعاني معهد دراسات أمريكا اللاتينية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية (وهو أكبر مؤسسة بحثية صينية متخصصة بشئون أمريكا اللاتينية)، لنقاش حول المخاطر السياسية في أمريكا اللاتينية.

كان موضوع النقاش مثيرًا للاهتمام على نحو خاص، بالنظر إلى القلق المتنامي بشأن الربيع العربي، وما يشكله من تهديد على المصالح التجارية الصينية في مناطق مثل أفريقيا والشرق الأوسط.

آنذاك، أثارت العلاقات الدبلوماسية والمالية والنفطية مع الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز فضول عدد من صناع السياسة ومراكز الأبحاث في الصين. وبالرغم من أن موضوع المخاطر السياسية المحدقة بفنزويلا الغنية بالنفط كان جديدًا بالنسبة لي، فقد قررت المشاركة في النقاش.

كان من الواضح أن فنزويلا تنطوي على مخاطر سياسية بالنسبة لأي مستثمر أو مُقرِض، حتى الصين، أكثر من أي دولة أخرى في النصف الغربي من الكرة الأرضية، بالنظر إلى طيف واسع من التعقيدات، من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المتصاعد، إلى تسييس قطاع النفط وسوء إدارته، إلى تردي وضع تشافيز الصحي.

ومع أن باحثي معهد دراسات أمريكا اللاتينية رصدوا الاتجاهات المثيرة للقلق في فنزويلا، فإنهم خلصوا إلى أن المصالح الاقتصادية والدبلوماسية الصينية في مأمن من الخطر، وبرروا ذلك بأن لدى فنزويلا الكثير من النفط الذي تحتاجه الصين، والأخيرة بدورها لديها الكثير من المال المستعدة لدفعه مقابل النفط.

بعد 6 سنوات من ذلك، لم يكد يمر أسبوعان على بداية الولاية الرئاسية الثانية لخليفة تشافيز وربيبه نيكولاس مادورو، حتى وجد الأخير نفسه أمام تحدٍ لشرعيته، وسقطت البلاد في أتون أزمة اقتصادية وإنسانية عميقة.

أصبح السؤال عما يتعين على الصين فعله لفهم وإدارة المخاطر السياسية في فنزويلا، واحدًا من أهم الأسئلة –رغم إهمال إجابته طويلًا– في صدد علاقات الصين مع أمريكا اللاتينية وجهودها لتقديم نفسها عالميًا بوصفها شريكًا تنمويًا.

إن العلاقة بين فنزويلا والصين هي العلاقة بين أكبر خزان لاحتياطي النفط في العالم وأكبر مستورد للنفط في العالم، وقد أقرضت الصين فنزويلا من الأموال أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وثمة مسحة من الشخصانية تسم العلاقات بين البلدين مع وجود زعماء أقرب إلى أنصاف الآلهة، لا سيما في الجانب الفنزويلي، وتلك كانت بحد ذاتها كارثة.

تحتل الأزمة المتعاظمة في فنزويلا مساحة كبيرة من الاهتمام العالمي والتغطية الصحفية، وإلى الآن لم تعترف الصين بعد بدورها ومصالحها في الأزمة، ولا هي سعت لمعالجة المأزق في واحدة من أقرب الدول الحليفة لها في أمريكا اللاتينية.

كيف بلغت الأمور هذا المبلغ إذن؟ وبم ينبئنا الموقف الحالي بشأن علاقات الصين مع أمريكا اللاتينية، وجهودها ذائعة الصيت لتحفيز التنمية العالمية والتعاون بين دول النصف الجنوبي من الكرة الأرضية؟


عاصفة عاتية

في الظاهر، تبدو العلاقات الصينية الفنزويلية نموذجًا مكررًا لنمط من العلاقات قائم على تجارة المواد الخام والاستثمار والروابط المالية مع دول أمريكا الجنوبية، ذلك النمط الذي شاع خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

لقد بشّر انتعاش الإنتاج السلعي في الصين بين عامي 2003 و2013 بتدفق تجاري هائل الحجم للمحاصيل الزراعية (مثل فول الصويا) والمعادن (النحاس والحديد الخام تحديدًا) والطاقة (النفط) من أمريكا الجنوبية إلى الصين. وأصبحت الأخيرة الشريك التجاري الأول لدول مثل البرازيل وتشيلي وبيرو، وبدت فنزويلا، كونها خزانًا لأضخم احتياطي نفط في العالم، شريكًا مثاليًا للصين.

وحتى بينما كانت فنزويلا تنزلق إلى أزمتها، كانت الصين تشدد على «التكاملية» الطبيعية للعلاقات بين البلدين، وهو ما عُد ثقلًا يشد الأمور باتجاه الاستقرار وسط العاصفة.

ومنذ البداية، كانت علاقات الصين مع فنزويلا أقوى من علاقاتها مع أي دولة أخرى غنية بالمواد الخام، ليس في أمريكا الجنوبية وحدها وإنما على مستوى العالم.

أسس تشافيز وبنك التنمية الصيني العملاق شراكة دبلوماسية واقتصادية على قاعدة (النفط مقابل القروض)، تلك الشراكة التي أُريد بها استعراض إمكانيات تعاون دول جنوب العالم، والتي بشر بها صعود الصين كقوة عالمية. لكن ما حصل فعليًا كان أن تحولت تلك العلاقة إلى قصة مليئة بالعبر حول الغرور الزائد بالنفس والعواقب غير المقصودة.

من ناحيته، رأى تشافيز في الصين شريكًا أساسيًا في عملية الهيمنة على الإنتاج الغزير للنفط، وفرض أجندة ثورية محليًا وفي السياسة الخارجية معًا.

إن زيادة الصادرات الفنزويلية للصين لم تلائم خطاب تشافيز المؤسس على تقليل الاعتماد على التصدير للولايات المتحدة فحسب، فصفقات «النفط مقابل القروض» الهائلة مع بنك التنمية الصيني (والتي بلغ مجموعها 40 مليار دولار قبل وفاة تشافيز في 2013) وفرت تدفقات ثابتة ومضمونة لتمويلات سياسية واقتصادية، لم يكن للدائنين الدوليين الآخرين أن يقبلوا توفيرها أو يقدروا عليه.

ومن خلال الإلحاح على حسن نوايا الصين الاشتراكية والثورية، وجد تشافيز شريكًا مناسبًا، وإن كان صموتًا، في أجندته الثورية البوليفارية بالداخل والخارج.

أما بالنسبة للصين، فسرعان ما تحولت علاقة تجارة واستثمار عملية مع دولة أمريكية جنوبية غنية بالسلع إلى شيء مختلف كليًا؛ ذلك أنه بدلًا من أن تبتاع الصين النفط الفنزويلي مثلما تفعل الهند مثلًا، عقد بنك التنمية الصيني المملوك للدولة سلسلة من صفقات (النفط مقابل القروض)، وإلى الآن لم تزل تلك القروض تشكل أكبر نفقة تمويل صينية لأي دولة أخرى بالعالم.

إن شراهة بنك التنمية الصيني في عهد تشن يوان –رئيس مجلس إدارة البنك السابق والعضو المتنفذ بالحزب الشيوعي– لإقراض فنزويلا يمكن تفسيرها جزئيًا بمحاولة البنك تثبيت وضعه باعتباره الممول الصيني الأساسي لصفقات الطاقة العالمية.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن أضخم قروض البنك لفنزويلا، بما فيها قرض بقيمة 20 مليار دولار في 2010، جاءت كمصدر جديد ضخم للسيولة النقدية من النظام المالي الصيني، في خضم الأزمة المالية العالمية.

لقد أقنع تشافيز وبنك التنمية الصيني نفسيهما بأنهما داهيتان سياسيًا واقتصاديًا، وأن شراكتهما قابلة للحياة، لكن في عام 2012 تنامى شعور بعدم الارتياح تجاه فنزويلا في الصين، ومخاوف بشأن صحة تشافيز المعتلة.

توفي تشافيز في 2013 ليخلفه رجل لم يحظَ بذات القدر من ثقة الصين، وكان ذلك في وقت هوت فيه أسعار النفط، وما جرى بعد ذلك كان كارثة بالنسبة للشعب الفنزويلي، قوضت كل مصلحة للصين في علاقتها مع فنزويلا.

أفضى الانهيار –الكامل تقريبًا– في إنتاج النفط الفنزويلي إلى عجز البلاد عن خدمة القروض الصينية البالغة 60 مليار دولار، فضلًا عن عجزها عن الوفاء بشحنات النفط المتفق عليها في الصفقات مع الصين.

الأسوأ من ذلك أن أزمة إنتاج النفط الفنزويلي ساهمت في رفع أسعار النفط عالميًا، وهو ما تسبب في رفع الفاتورة الإجمالية لواردات النفط في الصين. ومن جميع الجوانب، كانت العلاقات الصينية الفنزويلية مطبوعة بخلل شديد لم تسلم من أضراره الحكومات ورجال الأعمال والمواطنون في البلدين.


دروس أكبر

ليس من المستغرب أن السلطات الصينية والفنزويلية لم تجهر بالاعتراف بأن العلاقة بين البلدين لم ترقَ إلى مستوى التوقعات بشأنها منذ عشر سنوات. ولئن كانت الصين قد قلصت بشكل كبير قروضها لفنزويلا خلال السنوات الأخيرة، فكلما لاحت إشارة على انزلاق الأخيرة نحو أزمتها أكثر، صاغ صناع السياسة الخارجية الصينيون بيانات منمقة حول أملهم في استقرار الأوضاع بفنزويلا.

لطالما رفضت الصين لعب أي دور علني في الجهود الإقليمية الأمريكية اللاتينية، على غرار مجموعة ليما، لمساعدة فنزويلا في العثور على طريق أكثر استدامة للخروج من الأزمة. وبعبارة أخرى، فقد نفضت الصين يديها من الأزمة التي ساهمت في صنعها ثم رفضت المساهمة في حلها.

ووراء تعقّد العلاقات الصينية الفنزويلية، تكمن دروس لم توَفَّ حقها من الاهتمام؛ فمن الجلي أن فنزويلا تظل حالة اختبار مهمة لكيفية فهم -أو إساءة فهم– الباحثين ومسئولي الحكومة ورجال الأعمال في الصين للمخاطر السياسية في أمريكا اللاتينية وخارجها.

لقد كان هناك اعتقاد قوي في الصين بأن علاقة تكاملية مبنية على النفط، ومرتكزة إلى روابط وثيقة بين الرجل الأول في فنزويلا وأحد أكبر البنوك الصينية، هي علاقة لا يمكن أن تهتز، وظن الطرفان أن صفقات (النفط مقابل القروض) تؤمّن للصين تدفق النفط وتسديد القروض بمأمن من تقلبات السياسة والاقتصاد في فنزويلا.

كل هذه الافتراضات انقلبت رأسًا على عقب في فنزويلا، أما الصين فقد اعتمدت خيارات مشابهة مع دول نامية غنية بالموارد الطبيعية في أفريقيا وآسيا. ومن الصعب العثور على حالة مماثلة لفنزويلا لكن زيمبابوي في عهد «موجابي» وكمبوديا بقيادة رئيس الوزراء «هون سين» تبدوان نموذجين قريبين.

ويمكن النظر إلى العلاقة المبنية على القروض الهائلة بين الصين وفنزويلا باعتبارها إشارة تحذير للدائنين والمدينين على السواء، في الوقت الذي تتطلع فيه الصين إلى توسيع مشروعات البنية التحتية ضمن مبادرة الحزام والطريق.


الخلاصة

خلال ست سنوات خلت منذ نقاش معهد دراسات أمريكا اللاتينية، كتبت وتكلمت وألقيت محاضرات حول العلاقات الصينية الفنزويلية، الشبيهة بقطار بطيء الحركة تحطم في حادث. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة اقترفت خطايا أعظم في أمريكا اللاتينية وسواها، لكن شيئًا ما يجب أن يتغير.

يتعين على الصين، كبلد يسعى إلى تحسين إدارة المناخ في الداخل والخارج، الاشتباك مع الأزمة الفنزويلية للتفكير في طرق مبتكرة يمكن بواسطتها تطوير موارد النفط الفنزويلية بطريقة مستدامة. وبالنظر إلى دور الصين المتنامي كمصدر مهم للقروض لمشروعات البنية التحتية والطاقة، فإن اعترافًا أكثر أمانة بالدور الصيني في فنزويلا مطلوب بإلحاح.

بينما كنت، على مدار سنوات، أبحث وأكتب عن الصين وفنزويلا وأحاضر في جامعة صينية (تركت جامعة تسينجهوا الصيف الماضي)، أثار دهشتي أنه بالرغم من أنني كنت أطرح انتقادات بنّاءة –فيما رأيت– فإنه لم يحدث مرة واحدة أن تعرضت لأي عرقلة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.

كان العكس هو الصحيح في الواقع، حتى في مؤتمرات مراكز الأبحاث والحوارات الإعلامية والمحافل الأخرى. وربما كان ذلك أمرًا مثيرًا للعجب، بالنظر إلى الحساسية الصينية المعروفة تجاه أي نقد لسياستها الخارجية، وإلى ضيق مساحة حرية التعبير في المؤسسات العامة.

لقد أنصت الصينيون لي بتهذيب، لكن مسئولي السياسة الخارجية والبنوك في الصين يجب أن يتبنوا نهجًا أكثر حساسية وتعاطفًا تجاه أمريكا اللاتينية ومناطق نامية أخرى، وعندئذٍ فقط قد يغدو بوسعهم تفادي الأخطاء التي تقترفها قوى عالمية أخرى.