ارتبطت سياسات مصر الناصرية كما أوضحنا في الحلقة السابقة بأبعاد عالمية، وتحديدا أمريكية، تم ترويجها باعتبارها إنجازات وطنية. ويعرض هذا التقرير لمعارك خاضتها مصر عبد الناصر، خرج الشعب المصري منها محطما وفاقدا لكرامته، وخرج عبدالناصر زعيما تحيطه هالة من الأكاذيب من صنع إعلام فاسد وشعب مغيب.


ناصر بين حربين 56-67

لا يجادل أحد في أن عبدالناصر قد انتصر على الحلف الأنجلو-فرنسي في معركة القنال ونجح في تأميم القناة.. ولكن هل انتصر عبدالناصر في المواجهة مع إسرائيل؟

يبدو هذا سؤالا مستهجنا، وينتج ذلك عن الخلط الغريب بين موقف الحلف الأنجلو-فرنسي الراغب في إعادة عجلة الزمن الي الوراء، والرجوع إلى الشرق الأوسط بعد انتقاله إلى يد أمريكا، وبين الغزوة الإسرائيلية كجزء من المواجهة (العربية -الإسرائيلية) المستمرة، فلم يكن لإسرائيل مصالح في شركة قناة السويس ولا رغبة في إعادة الوجود (الأنجلو-فرنسي) مرة أخري الي الشرق الأوسط.

يقول جلال كشك:

هما قضيتان منفصلتان وإن اجتمعتا في الزمان والمكان لفترة قصيرة شاذة في حساب الزمن وخارج حركة التاريخ الطبيعية.
هدفت إسرائيل من حرب 56 إلى:

1. فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية.2. تدمير السلاح السوفيتي الجديد الذي حصلت عليه مصر، ونزع سلاح قطاع غزة، ووقف هجمات الفدائيين.3. نقل الوضع العربي من تصور (إبادة) إسرائيل إلى حالة الدفاع، وتحييد مصر عسكريا لأطول فترة ممكنة حتي تكمل إسرائيل استعدادها.

وقبل سفر الوفد الإسرائيلي إلي فرنسا للاتفاق على الحملة أخبرهم بن جوريون بالتوجيه التالي:

1. إسرائيل لن تشن حربا بمفردها.

2. هدفنا هو السيطرة على الشاطئ الغربي لخليج العقبة لضمان الملاحة الإسرائيلية في الممر المائي، وربما نفكر في نزع سلاح شبه جزيرة سيناء ولو تحت إشراف دولي.

ولخص «موشي ديان» نتيجة الحرب بقوله:

لقد تحققت أهداف إسرائيل الثلاث من الحملة: حرية الملاحة الإسرايلية في خريج العقة نهاية الإرهاب الفدائي
تجميد خطة الهجوم المشترك المصري، السوري، الأردني على إسرائيل وقد قبل عبدالناصر حرية الملاحة من وإلى اسرائيل، وقبل وضع حد للإرهاب ضدها

كل ذلك يعني أن التحرك الإسرائيلي في سيناء لم يكن يهدف إلى احتلالها أو إلى إسقاط عبدالناصر.

كانت تجمع مصر مع (سوريا-الأردن) اتفاقية دفاع وقيادة مشتركة، وكانت هذه الاتفاقية عقدة أمام الغزو الإسرائيلي في 56، فلم تكن هناك فرصة لإسرائيل إذا ما قرر جمال عبدالناصر تفعيل الاتفاقية وطلب من دول المواجهة التقدم صوب إسرائيل.. وهذا ما لم يحدث، ليس تخاذلا من قادة تلك الدول، بل وللدهشة كان هذا بأمر من جمال عبدالناصر شخصيا!

كانت كل الظروف الدولية في حالة تعاطف ودعم للعرب. وكانت الظروف العسكرية على الأرض مهيأة لانتصار عربي في حال تم تفعيل الاتفاقية.

وقدم هيكل رأيه في ذلك فقال:

لقد فضل جمال عبدالناصر أن تخوض مصر المعركة العسكرية وحدها لأنها لا تستطيع أن تتحمل مسئولية ما يمكن أن يجري على أرض عربية أخرى قد لا يستطيع أن ينجدها بقوات مصرية في الوقت المناسب، وكان تفضيله أن تقف الأمة العربية كلها مع الشعب المصري بمشاعرها وبما تستطيع عمله دون القتال المسلح

نشاطركم الأحزان!

يقول أيزنهاور:

إننا لا نستطيع أن نجد أمام العالم أي مبرر سياسي أو قانوني يعطي لإسرائيل حق البقاء في سيناء. إن العالم كله سيتعاطف مع ناصر إذا قرر مواصلة الحرب ضدهم وستكون إسرائيل وحدها بعد خروج الإنجليز والفرنسيين من بورسعيد
يقول جلال كشك في تفسير ذلك:
التفسير الذي وصلنا إليه أن صفقة تمت بين أمريكا وعبدالناصر طالبت فيها أمريكا عبدالناصر بألا يوسع النزاع. أن يمنع دخول الأردن وسوريا الحرب وهي تتعهد بالباقي.. وقد نفذ الطرفان.. ولكن ربح اليهود وخسرنا على المدى القريب والبعيد

تأميم القنال..

كانت شركة قناة السويس تتصرف كشركة استعمارية عنصرية استعلائية تعيش في القرن التاسع عشر، وكان حلم تحرير القنال يراود خيال كل مصري من الملكية إلى عهد عبدالناصر. كانت القناة حلما وهدفا، ولا يقلل من شأن القرار أن اتخذه عبدالناصر، أو أنه اعتمد فيه وبقوة علي الكارت الأمريكي الذي سنشرح دوره في تأمين السيطرة علي القنال.

يصر هيكل دائما على أن العدوان الثلاثي كان رباعيا، وأن أمريكا كانت الشريك الخفي في هذا العدوان على مصر، وهذا تزوير واضح يطرح سؤالا جوهريا: ماذا يخفي هيكل بهذا التزوير الفج؟إن عداء مصر لأمريكا أكبر وأوضح من أن يحتاج لتزوير، ويكفي دورها في قلب انتصار 73 إلى هزيمة. وان كل مصري قتل منذ 67 إلى 73، قتل بدولار أمريكي وبسلاح أمريكي. نحن لا نحتاج الي تزوير التاريخ، ولكن هيكل وأمثاله بتزويرهم يريدون أن يخفوا حقيقة أن المصالح الأمريكية والروابط الأمريكية كانت موجودة وملتقية ومتفقة مع السياسة الناصرية في الفترة من 1952 ربما إلى 1965 بدرجات متفاوتة.

كان قرار المواجهة (بين عبدالناصر وبريطانيا) أيضا سابقا على قرار التأميم. والمنطقة لم تكن تتسع للبريطانيين ولـ عبدالناصر معا. يقول سلوين لويدوزير الخارجية البريطاني واصفا الموقف البريطاني:

الذين يقولون أن السويس كانت مزلقا في تاريخنا لأننا تصورنا أن بريطانيا تستطيع أن تتصرف عالميا بإرادتها المنفردة يخطئون. فنحن لم نكن نجهل حقيقة وضعنا. أما الخطأ الوحيد الذي وقعنا فيه فهو أننا لم نتوقع أبدا الاجراءات التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة ضدنا. فقد كنا تحت تأثير صداقتنا مع آيزنهاور خلال الحرب، ونعتقد أن خلافاتنا تدور في نطاق العائلة

بريطانيا كانت تقاتل معركتها الأخيرة للبقاء في المنطقة. وكانت أمريكا واعية للحظة الضعف البريطانية وعلى أتم الاستعداد لاقتناصها، وكان هذا من حسن حظ مصر وعبدالناصر.

ويتحدث هيرمان فينر في كتابه «دالاس والسويس» عن موقف امريكا من العدوان فيقول:

وهكذا، فمنذ 30 أكتوبر وحتي قرار وقف اطلاق النار والانسحاب استخدم دالاس ومساعدوه المخلصون وسائل قاسية مع حلفائه، وهي شن حملة مسعورة من الاستنكار والتنديد في الأمم المتحدة، ثم منع عن حلفائه إمدادات البترول وحرمهم من أرصدة الدولار، الأمر الذي أدى إلى استنفاد مواردهم المالية. لقد أدت الحرب الصليبية التي شنها دالاس على حلفائه إلى إذلال هذه البلاد لصالح ناصر وصديقه الدائم، الحكومة السوفيتية

وفي رواية «وليم كلارك» مستشار العلاقات العامة لإيدن ما يفيد بأن الولايات المتحدة لم تدخر حتى احتمال الصدام المسلح مع دول العدوان.


من يوميات الحرب..

كان عبدالناصر قد أجرى تقديرا للموقف قبل التأميم وقدر أن احتمال التدخل العسكري سيتناقص من 80 % في الأسبوع الأول من قرار التأميم إلى 20% في نهاية أكتوبر، وقدر أن الغزو سيكون من ناحية الإسكندرية وليس من ناحية القنال. كما قدر عبدالناصر كما يحكي هيكل أن بريطانيا أو فرنسا لن يستعينا بإسرائيل في أي عملية ضد مصر لأن ذلك (يقلب الدنيا) في العالم العربي ضدها.

وكنتيجة لهذا التقدير المزري، اتخذ عبدالناصر قرارا في 8 أغسطس بسحب القوات المسلحة المصرية من سيناء. كان هناك إصرار في القيادة المصرية على رفض كل الدلائل والمعلومات المؤكدة والمتواترة التي تؤكد العدوان، ومنها بعض المصادر التي أبلغت عبدالناصر شخصيا بالعدوان بتفاصيله وبمشاركة القوات الإسرائيلية وتحركاتها، ومنهم سفراء وملحقين عسكريين وأعضاء حاليين وسابقين في مجلس الثورة.

بل إن رواية مثل رواية «البغدادي» أكثر هولا إذ يقول أنه على أثر تلقي عبدالناصر هذه المعلومات: «قرر تفادي أي احتكاك أو صدام مع قوات اسرائيل، ولذا أمر جمال عبدالناصر بانسحاب الفدائيين الذين كانوا في قطاع غزة».

فكيف يمكننا أن نفسر هذا إذن.. نزوات ديكتاتور يعبد رأيه.. أم ثقة في المخابرات الأمريكية واطمئنان لتقديراتها؟

نكمل القراءة في يوميات الحرب..

وبعد بداية الإنزال الإسرائيلي في السويس، يحكي هيكل أن جمال عبدالناصر لم يكن على علم بهذا، وإنما علم من نبأ أذاعته الأسوشيتد برس! ويكمل هيكل تعليقه قائلا: «ثم إن الطريقة التي بدأت بها العملية لم تنقل لديه الإحساس أنه أمام أمر خطير».

ثم يحكي «عبداللطيف البغدادي» أن مجلس القيادة اجتمع ليقرر مقابلة العدوان بالحرب واستخدام القوة الجوية لقصف قوات العدو ثم قصف طائراته ومطاراته لإحكام السيطرة الجوية، ثم حضر بعد ذلك «محمد صدقي محمود» رئيس أركان حرب القوات الجوية، وصدرت إليه الأوامر بضرب القوات الاسرائيلية عند ممر متلا ثم مهاجمة مطارات العدو، فكان جوابه أنه يصعب على القاذفات التحرك الآن لعدم وجود بنزين لها بقاعدة غرب القاهرة، وهي القاعدة التي تأوي القاذفات الجوية من طراز اليوشن!والمصيبة الأكبر أن رئيس أركان القوات الجوية هذا استمر في منصبه 11 عاما بعد ذلك ليكرر فعلته مرة أخرى في عام 67.كانت الـ 24 ساعة التي تأخر فيها الطيران المصري حاسمة، وكان يمكن أن تقلب موازين المعركة كلها لصالح مصر. فقد كانت مصر تمتلك 180 طائرة ميج و24 قاذفة يوشن، وكان الطيران المصري متفوقا على الطيران الإسرائيلي. وكان الخوف الإسرائيلي الأكبر هو أن تستخدم مصر طائراتها بصورة سريعة ضد العدوان وخصوصا قاذفاتها بعيدة المدى والتي يمكن أن تصل لتدك تل أبيب وتدمر العقيدة القتالية الإسرائيلية؛ لذا نقرأ إصرار «بن جوريون» على تأجيل التحرك الإسرائيلي حتى تدمر الطائرات البريطانية سلاح الجو المصري، ولكن طلبه قوبل بالرفض من الجانب البريطاني. وكان الحل هو تقصير الوقت بين الهجوم الإسرائيلي والتحرك البريطاني أمام سلاح الجو المصري.

ثم أصدر عبدالناصر أمرا للقوات المصرية بالتقدم شرقا وعبور القناة واتخاذ وضع الهجوم وكانت القوات في حالة اندفاع إلى سيناء، ولم تلبث القوات أن أمنت مواقعها واستعدت للتحرك إلى الأمام؛ ولكن أن أصدر عبدالناصر أمرا بالانسحاب الكامل من سيناء!

وكان هذا الانسحاب مصيبة في حد ذاته.. انسحاب بدون خطة ولا تنظيم.. فألقي الجنود عتادهم الثقيل وخلعوا ملابسهم العسكرية وهاموا على وجوههم في سيناء. والحقيقة أن «عبدالحكيم عامر» وضباطه رفضوا أمر الانسحاب ورأوا أن الاشتباك مع العدو الصهيوني على أرض سيناء مهم للقضية العربية استراتيجيا؛ فكيف يجوز للثورة أن تنسحب في أول مواجهة لها مع الاحتلال؟

وانفرط عقد الجيش المصري تماما.. تقول «جولدا مائير» إنهم انتقوا خمسة آلاف فقط كأسرى من بين ثلاثين ألف جندي مصري كانوا هائمين في سيناء المكشوفة معرضين للطيران الإسرائيلي.

تحول الجيش المصري إلى جيش محطم بنص كلام عبدالناصر مع البغدادي. وخسرنا أسلحة الصفقة الروسية فكان هذا “أكمل نصر في الحروب المحدودة” كما وصفه هيكل.


خرافة عدم الإنحياز..

هدف مؤرخو الناصرية وفي مقدمتهم هيكل إلى صرف الأنظار عن هزائم عبدالناصر بانتصارات مشروخة سودوا عنها آلاف الصفحات: فكان انتصار باندونج وحلف بغداد وصفقة السلاح.

وكم نادى الإعلام بأن عبدالناصر قد تحدى الإستعمار قديمه وجديده بذهابه إلى مؤتمر ينادي بعدم الانحياز، فكان الاشتراك في باندونج عملا بطوليا وصفعة للإمبريالية الأمريكية بالذات.

ولن نتمسك كثيرا بالرواية التي أثبتها «مايلز كوبلاند» والتي تزعم أن خطة العمل المصرية في مؤتمر عدم الانحياز وضعها خبراء من واشنطن ولكننا سنثبت ما قاله:

قبل سفر عبدالناصر إلى باندونج كان أصدقاؤه الأمريكان منتعشين، وكانوا أيضا يشجعونه على الاعتقاد بأنه سيجد لنفسه مكانا في نادي الكبار. وجاء خبراء من واشنطن لكتابة ورقة عمل، وترجمت هذه الورقة للعربية بواسطة علي صبري على أساس أن يستعير عبدالناصر بعض ما بها من أفكار.

وهذا المؤتمر شارك فيه العديد من الدول التي بأراضي بعضها قواعد بريطانية، وبعضها مرتبط باتفاقيات دفاع مشترك مع العديد من الدول الاستعمارية، فأي شجاعة من ناصر في ذلك إذن؟

إن شعار عدم الانحياز لم يكن موجها بالدرجة الأولى ضد المسعكر الغربي. فالمعسكر الشيوعي كان لا يزال متأثرا بنظرية «ستالين» عن انقسام العالم إلى معسكرين: معسكر الاستعمار، ومعسكر السلام. ولا أحد يستطيع أن يجلس على السور، فإما أن تقع في هذا الجانب أو ذاك.

إذا هذه النظرية موجهة بالدرجة الاولي ضد روسيا. ضد التيار الذي كان يجذب كل حركات التحرر الخارجة عن طوع الاستعمار الأنجلو-أمريكي حتى وإن نجح الروس في تطويقها فيما بعد.

ويلخص مايلز كويلاند نجاحات ناصر في مؤتمر باندونج فيقول:

وكما رأت أمريكا عبدالناصر قوة صدام و حاجزا ضد الشيوعية، كذلك رأى السوفييت في ناصر إمكانية لدخول قصر لعبة الأمم في الشرق الأوسط. وكانت باندونج بداية مسيرة اللعب على حبال التناقضات بين الغرب و الشرق.


صفقة السلاح..

||فشل ناصر في تحويل الدول الأفريقية ضد إسرائيل، وهو لم يكن هدفا جادا من أهدافه على أي حال. ولكنه نجح في كسب تأييد واسع آسيوي-أفريقي للقرارات المضادة للإمبريالية في الأمم المتحدة، وكذلك حق تقرير المصير، ودور متزايد في العالم الآسيوي-الأفريقي؛ مما أدى إلى تقديم الانجليز والفرنسيين والأمريكان مساعدات أكثر لمصر في محاولة لشرائه […] في باندونج أسعد عبدالناصر الطرفين: الأمريكان لأنه خفف الحملة على الغرب، والروس بتأييده الحملة على الاستعمار

تبدأ قصة السلاح في مصر عندما حظرت بريطانيا تصدير السلاح إلى مصر، وتدهورت العلاقات مع حكومة الوفد عام 1950، وطلبت حكومة الوفد سلاحا من الاتحاد السوفيتي ولكنهم رفضوا ذلك. وتوالت المحاولات المصرية لتغيير وجهتها إلى الشرق من أجل السلاح في الأعوام التالية؛ ولكن الرفض كان يأتي دائما من جانب السوفييت. استمر ذلك إلى عام 1954 حين أبلغ الاتحاد السوفييتي «محمد نجيب» بموافقته المبدئية علي بيع السلاح الي مصر.

ويعلق «حمروش» مؤرخ يوليو قائلا:

إذا صحت هذه الرواية فهي لا تعني أكثر من اندفاع نجيب في مطالبته للسلاح من السوفييت في وقت كان جمال عبدالناصر يعتقد أن الوقت لم يكن ملائما لاتخاذ هذه الخطوة الجريئة التي تعني احتمال صدام مع إنجلترا وأمريكا

إذن فكسر احتكار السلاح كان خطوة طبيعية ومتقدمة على عبدالناصر وعلى الثورة نفسها، ولم تكن العقبة في تلك الفترة في الجانب المصري، بل في رفض السوفييت ذلك لكيلا يؤدي ذلك إلى فتح جبهة جديدة في الحرب الباردة. والأهم من ذلك أن عبدالناصر كان أقل المتحمسين لطلب السلاح من الاتحاد السوفييتي. ويقول عبدالناصر في حوار له مع النيويورك تايمز مؤرخ ٦/١٠/١٩٥٥:

إنني أخطرت واشنطن فى شهر يوليو بأننى سأشترى أسلحة من روسيا إذا لم تزودني أمريكا بالأسلحة، ولكنهم لم يكترثوا لذلك

وقد اعتذر ناصر مرات عديدة في خطبه عن خطيئة شراء السلاح من الروس.

عبدالناصر إذن أجبر على (كسر احتكار السلاح) كما لم ينتج هذا عن وعي منه بحتمية المجابهة مع الغرب المرتبط عضويا بإسرائيل ولا عن قناعة بتحرير الإرادة المصرية.

وما يغفل عنه الكثيرون أن إسرائيل استفادت من ارتماء دول المواجهة العربية في أحضان الاتحاد السوفييتي؛ فقد فتح لها ذلك خزائن الغرب على مصراعيه مستفيدة من استقطاب الحرب الباردة لمصلحتها، فكانت سياسة اسرائيل هي منع أي اتفاق سلاح أمريكي-مصري، وحاولت أن تنسف مكاتب أمريكية في القاهرة كما حدث في «عملية لافون».

وفي الوثائق التي أوردها «كوبلاند» يثبت أن المخابرات الأمريكية لم تكن على علم فقط بالصفقة، بل في حالة رضا بها لما في ذلك من حل للمشاكل الداخلية وتقوية موقف ناصر الشعبي.

فكانت الصفقة حلا يرضي كل الفرقاء: فهو يعفي أمريكا من إلحاح عبدالناصر في طلب السلاح مع تعذر طلبه بسبب الضغط اليهودي، كما كانت الصفقة تسعد النظام المصري وتخفف من توتر احتياجه للسلاح، وتسهل على الجانب الأمريكي التوسع في إمداد إسرائيل بالمعونات بحجة موازنة الوجود السوفييتي. أما في الشرق الأوسط فكان الحديث عن صفقة السلاح والانتشاء بالنصر ينقذ القيادة من حرج استعمال السلاح ضد إسرائيل. وكانت الصفقة أيضا حلا مؤقتا يقضي على الحل البديل لكسر احتكار السلاح، ألا وهو إنتاجه محليا؛ وما من أمة يمكن أن تتحرر إرادتها إلا بإنتاجالسلاح.