عام 1946م قدَّم الفيلسوف الفرنسي سارتر مسرحية «المومس الفاضلة»، والتي اعتمد فيها على حبكة تناقضية فاضحة للعورات المجتمعية، تنبع من اتهام رجل أسود باغتصاب عاهرة بيضاء في ولاية ألاباما، وهي الأحداث التي اتَّخذها واجهة لسكب آرائه الفلسفية الوجودية المناهضة للعنصرية خلال الأحداث.

فالدليل الوحيد على براءة الرجل الأسود هو شهادة العاهرة «ليزي» التي قضت تلك الليلة مع فريد ابن عضو مجلس الشيوخ. ورغم ذلك تمتنع «ليزي» عن مساعدة الرجل الأسود «البريء» بعد هروبه من الشرطة وإلحاحه المتواصل عليها في إخبار الشرطة ببراءته.

تتردد المرأة البيضاء في مساعدة المتَّهم الأسود بسبب تعرضها لضغوط من فريد الذي يريد توريط الرجل الأسود في هذه التهمة، وطوال بقية أحداث المسرحية تتكرر تيمة «الأبيض – الأسود» بلا انقطاع تقريبًا.

خلال هذه الفترة كانت أمريكا تعيش أوج أزمة الفصل العنصري بين البيض والزنوج، والتي تسببت في وقوع العديد من الأزمات القاصمة، منها قضية «سكوتسبورو»، الشهيرة، والتي وقعت عام 1931م، واتُّهم فيها 9 أمريكيين من أصل أفريقي باغتصاب امرأتين بيضاوين. حُكم على الأمريكيين الأفارقة بالإعدام بالرغم من عدم وجود أي أدلة على مزاعم الاغتصاب، بعدما اعتبر القضاء والمحلَّفون أن بشرة المتهمين السوداء دليلٌ كافٍ على إجرامهم.

هذا الحادث تحديدًا أكثر ما أثار سارتر ودفعه لاستغلاله في أدبه وفلسفته ضمن الوقائع الكبرى التي شهدها سارتر في حياته وأثَّرت عليه طوال مسيرته.

عندما يبدأ أبيضان لا يعرف أحدهما الآخر في التحدث معًا فلا بد أن يموت زنجي. قولي إني لم أفعل شيئًا يا سيدتي. قولي ذلك للقاضي، قوليه للمشتغلين بالجريدة فربما طبعوه.
الرجل الأسود متحدثًا إلى ليزي – مسرحية «المومس الفاضلة»

عصر سارتر: التحولات الكبرى

يحكي أحمد عبد الحليم في كتابه «سارتر والفكر العربي المعاصر» أن الحياة المضطربة التي عاشها سارتر أثَّرت بشدة على تكوينه الفكري وآرائه الفلسفية التي قدَّمها طوال رحلته الإبداعية.

عاش سارتر عالمًا صهرته صراعات الحرب العالمية الثانية، فشاهد بأمِّ عينيه احتلال الألمان لبلاد فرنسا، وانضمامه للمقاومة المحلية ضد النازيين، ثم متابعته سقوط قنبلتين ذريتين على اليابان. خلال هذه الأهوال تمسَّك سارتر بمعارضة الأيديولوجيات الشمولية كالفاشية والنازية وانحاز للاشتراكية والديمقراطية في وقتٍ مُبكر من حياته.

يقول عبد الوهاب جعفر في كتابه «البنيوية في الأنثربولوجيا وموقف سارتر منها» إن سارتر شارك عام 1949م في تأسيس «التجمع الديمقراطي الثوري»، وظلَّ مؤيدًا لجميع مواقف الحزب الشيوعي الفرنسي دون أن يكون عضوًا فيه، واستمر حتى اندلعت ثورة المجر عام 1956م يُعبِّر عن أفكاره السياسية من خلال المسرحيات، ومن أشهرها «المومس الفاضلة».

كما اهتمَّ سارتر أيضًا بمناصرة الأقليات المضطهدة خلال الفترة بين الحربين العالميتين، وبخاصة اليهود والزنوج والنساء والمثليين وغيرهم. وهو ما حاول تحقيقه من خلال مسرحيته «المومس الفاضلة»، والتي انتصر فيها لقضايا الزنوج في الجنوب الأمريكي.

فريد: تريدين الشهادة ضد أبيض لصالح زنجي؟
ليزي: أجل، إذا كان الأبيض هو المذنب.
فريد: مذنب بماذا؟
ليزي: بالقتل.
فريد: لكن الذي قتله ليس إلا زنجيًّا، وسواء أكان مذنبًا أو غير مذنب فأنت لا تستطعين أن تعرِّضي للعقاب رجلًا من جنسك.
مسرحية «المومس الفاضلة»

كيف خرجت المسرحية إلى النور؟

حفَّزت الحرب العالمية سارتر على كتابة أعمال تنتقد العنصرية، لذا عكف على كتابة تلك المسرحية وأنهاها في وقتٍ قياسي.

عندما فرغ من النسخة الأولى منها أخبرته زوجته الفيلسوفة الفرنسية الشهيرة سيمون دي بوفوار أنها سيئة جدًّا فمزَّق ما كتبه ثم أعاد كتابتها من جديد.

قُدِّمت «المومس الفاضلة» على المسرح لأول مرة في باريس في 8 نوفمبر 1946م، وعُرضت في أمريكا لأول مرة في 9 فبراير عام 1948م.

بحسب كتاب «مسرح سارتر» لمايكل كونتات، فإنه على هامش ظهور النسخة الفرنسية من المسرحية إلى النور، قال سارتر للصحافة: إنها ليست مسرحية عن المقاومة، أنا مهتم بالحالات المتطرفة في الحياة، وردود فعل الناس بشأنها.

وعندما عُرضت في الولايات المتحدة صرَّح قائلًا: اتهمني البعض بأنني ناكر للضيافة التي حظيتُ بها في أمريكا واتهموني بمعاداة الولايات المتحدة. أنا لستُ كذلك، أنا فقط ضد العنصرية لأنني أعرف ما تعنيه هذه الكلمة جيدًا، أنا فقط أتعرَّض للعلاقة بين السود والبيض في أي مكان.

وأضاف: أنا مهتم برؤية الحوت في عين جاري. بالأمس هاجمتُ معاداة السامية، واليوم أنتقد العنصرية، وغدًا أحارب الاستعمار. لا أعتقد أن كتاباتي ستغيِّر أي شيء، لكنِّي على الأقل أقوم بواجبي.

لاحقًا جرى تقديم نسخ كوبية وسوفيتية من المسرحية وحققت نجاحًا كبيرًا، خاصة النسخة الروسية التي قُدِّمت في أكثر من 400 ليلة عرض متتالية.

في هذا الوقت كانت أمريكا تحت رئاسة هاري ترومان، الذي غرق حتى أذنيه في التعامل مع مخاطر ما بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية وتنامي القوة السوفيتية في العالم.

خلال تلك الحرب الباردة الجديدة كانت أمريكا تعاني داءً يأكلها بنهم من الداخل، وهو العنصرية.

في العام نفسه الذي ألَّف فيه سارتر مسرحيته كتب العالم الألماني ألبرت أينشتاين مقالاً شهيرًا اعتبر فيه العنصرية «أسوأ مرضٍ في أمريكا».

في مقاله قال أينشتاين للأمريكيين: أكتب لكم كشخص عاش بينكم في أمريكا منذ 10 سنوات تقريبًا. هناك نقطة كئيبة في النظرة الاجتماعية للأمريكيين؛ إن إحساسهم بالمساواة والكرامة الإنسانية يقتصر بشكلٍ أساسي على الرجال ذوي البشرة البيضاء، وحتى الآن الكثيرون يعتقدون أن الزنوج ليسوا أندادًا للبيض في الذكاء والمسئولية.

 ظهورها في مصر

أما عن مسرحية «المومس الفاضلة للفيلسوف الوجودي سارتر فلقد اهتممتُ بكتابة مقدمتها العربية. هذه المسرحية وعدد آخر من روايات سارتر تتحدَّث عن بنات الهوى وعن الزنوج – أي عن الأقلية المنبوذة – فرغم أن الجنس ضرورة حيوية، ولكن الناس ينشدون الجنس ويرفضون احترام اللاتي قدمنه لهم».
أنيس منصور – في صالون العقاد كانت لنا أيام

أعادت الفنانة المصرية إلهام شاهين الحديث عن مسرحية سارتر بعدما أعلنت أنها بصدد تقديمها على المسرح.

برغم كل هذا الصخب فإن الممثلة المصرية لم تكشف أي تفاصيل بخصوص هذا المشروع إلا «دردشة عابرة» جمعتها ببطلة أول نسخة مصرية من المسرحية، وهي الفنانة سميحة أيوب.

كواليس الظهور المسرحي المصري الأول لـ «المومس الفاضلة» كشفها أحمد حمروش، أحد الضباط الأحرار والمدير السابق للمسرح القومي، في كتابه «نسيج العمر»، والذي أكَّد فيه أنه قبل ثورة يوليو لم يُقدِّم المسرح القومي أي مسرحية لأي كاتب أجنبي مُعاصر، وإنما اكتفى فقط بتقديم مؤلَّفات شكسبير وموليير.

تغيَّر هذا الموقف بعد قيام ثورة يوليو، فسعت إدارة المسرح إلى تنشيط عروضها الفنية عبر تقديم 3 مسرحيات لكتَّاب أجانب معاصرين، وهي: «تحت الرماد» للأمريكي «جون شتاينبك»، و«انظر خلفك في غضب» للبريطاني جون اسبورن، و«المومس الفاضلة» لجان بول سارتر.

المفارقة أن الطرح الأول للمسرحية في عهد ثورة يوليو لاحقه نفس الجدل الذي نعيشه اليوم، ولنفس الأسباب أيضًا.

يحكي حمروش: نشرت الأهرام نقدًا حادًّا لمسرحية «المومس الفاضلة» التي قامت ببطولتها سميحة أيوب، لكن النقد كان خارجًا عن الموضوعية وبعيدًا عن مناقشة القضايا الفنية، منصبًّا على التشهير باختيار المسرحية في حد ذاتها باعتبار أن اسمها منافيًا للتقاليد والقيم السائدة، دون تعمُّق في معرفة أبعادها الإنسانية.

وبحسب رواية حمروش، فإنه ذهب إلى محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام واشتكى له من هذا الهجوم، فاعتذر له هيكل واعتبر هذا الهجوم «أمرًا مفزعًا».

وبرغم هذا الجدل ظلَّت مصر – ومن خلفها العالم العربي – على احتفائها بسارتر ومؤلَّفاته الفكرية ومسرحياته منذ تأييده لمصر على حساب فرنسا خلال أزمة تأميم القناة سنة 1956م. الاحتفاء المصري/ العربي بسارتر تجلَّى في زيارته الشهيرة إلى مصر في مارس 1967م، والتي قابَل فيها نخبة من المثقفين المصريين وحاضَر في جامعة القاهرة والتقى بالرئيس عبد الناصر وتشفَّع عنده في المعتقلين السياسيين فقبل الشفاعة، وأفرج عنهم ناصر إكرامًا لخاطره!

سارتر وزوجته سيمون دي بوفوار في ضيافة جمال عبدالناصر

وأيضًا، عام 1977م، انتقد الدكتور يحيى هشام حسن فرغل، مدير مكتب شيخ الأزهر وقتها، في مقاله «سجل التيارات المعادية للإسلام» في مجلة الأزهر الاحتفاء بأدب الفيلسوف سارتر، وانتقد تدريس مسرحية «المومس الفاضلة» في معهد الفنون المسرحية، كما اعترض أيضًا على إشادة أحد البرامج الثقافية في التلفزيون المصري بأعمال سارتر ودعوة المذيع المصريين لقراءتها!