من الطبيعي أن يأخذ الفقير من الغني وليس العكس، ومن الطبيعي أن تأخذ اللاتينية والساكسونية والأوروبية واليونانية من العربية، وأن تكون العربية هي الأصل الأول لجميع اللغات، وأن تكون هي التي أوحيت بقواعدها وتفعيلاتها وكلماتها إلى آدم كما قال القرآن: «وعلم آدم الأسماء كلها».

المقطع السابق من مقال للطبيب والكاتب المصري مصطفى محمود (1921-2009) حمل عنوان «اللغة التي تكلم بها آدم»، وهو ما كرره باستفاضة في حلقة تلفزيونية شهيرة تحت الاسم نفسه.

بغض النظر عن صحة استدلالات الدكتور مصطفى محمود، قد يتعجب الكثيرون لو علموا أن العرب والمسلمين القدامى أنفسهم لم يجمعوا على رأي كهذا، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من مجرد المعارضة.

أعلن الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» أن السريانية والعبرانية والعربية كانت في الأصل لغة واحدة، تبدلت بتبدل مساكن أهلها ومجاورة الأمم، ليعلن بعدها رأيه دون تحرج قائلًا، إن السريانية هي أصل العربية والعبرية معًا، وإنها لغة إبراهيم، صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم.


منشأ اللغة في التراث العربي

بخصوص منشأ اللغة نفسها، فقد اختلف العرب قديمًا، هل هبطت من السماء أم نبتت من الأرض. تبنى أكثر الصحابة وأصحاب الإمام الأشعري الرأي القائل بالأصل الإلهي للغة، أي أنها توقيفية ألهمها الله إلى الخلق، بغض النظر عن كنه تلك اللغة الملهمة. تبنى المعتزلة وغيرهم الرأي القائل بالمنبع الأرضي للغة، أي أنها اصطلاح، أصوات ارتضاها الناس فيما بينهم علامة على معنى ما.

رأى بعض أئمة المسلمين القدامى أن في اللغة ما هو اصطلاحي وما هو توقيفي واختلفوا أي الجزءين كان الأسبق. على الجانب الآخر، فضل بعض كبار الأئمة، مثل الجويني والغزالي والرازي، عدم القطع برأي في المسألة.

نقل النحوي أبو الفتح بن جني (934-1002)في كتابه قول بعضهم إن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة كدوي الريح وخرير الماء وصهيل الفرس، ورآه ابن جني قولًا مقبولًا. في العصر الحديث، ذهب إلى القول بنشأة اللغة عبر محاكاة أصوات الطبيعة أيضًا مصطفى صادق الرافعي (1880-1937)، وكذلك كان لذلك الرأي ظهور مبكر في العالم الغربي تحت اسم نظرية «باو-واو»، مع عدد آخر من النظريات.


النظريات الغربية المبكرة: بووه-بووه

في عام 1861، نشر العالم اللغوي الألماني ماكس مولر (1823-1900)قائمة نظريات تتناول نشأة اللغة. تنص نظرية «دينج-دونج» مثلًا على وجود علاقة بين الأشياء المحسوسة والكلمات المستخدمة للتعبير عنها، بمعنى أن الكلمات تشتق معانیها من الحروف المكونة لها.

تتشابه نظرية «دينج-دونج» مع نظرية «الاشتقاق الكبير» في اللغة العربية. كان ابن جني وغيره يرون ثمة معنى تدل عليه المجموعات الصوتية باختلاف ترتيبها، فالكاف والميم واللام (ك،م،ل) تدل على معنى الشدة، سواء رتبت فكانت لكم أو كلم أو ملك أو غيرها.

في المقابل، تنص نظرية «بووه-بووه» على أن الكلمات البشرية الأولى كانت أصواتًا تلقائية منشأها الألم أو اللذة أو الغضب أو ما شابه، ثم تطورت تلك الأصوات إلى صيغ أخرى استخدمت مع مشاعر وتفاعلات أخرى.

نتيجة الطبيعة غير العلمية للآراء المطروحة ونقص الأدلة التجريبية، أصدرت جمعية اللسانيات في باريس عام 1866 قرارًا بحظر مناقشة موضوع نشأة اللغة، وهو ما كان له أثر قوي في أوروبا، قبل أن تعود المسألة إلى ساحة النقاش قرب نهاية القرن العشرين.


النظريات الحديثة في نشأة اللغة

افترضت «النظرية الإيمائية» وجود علاقة بين الإيماءات المرئية ونشأة اللغة عامة، واللغة المنطوقة خاصة. يحتج أنصار النظرية الإيمائية ببعض مكتشفات علم الأعصاب، مثل التداخل بين المناطق الدماغية المسؤولة عن حركة الفم والمناطق المسؤولة عن حركة اليد.

يرى عالم اللسانيات والمفكر الأمريكي المعاصر نعوم تشومسكي أن اللغة قد نتجت عن طفرة عشوائية في الدماغ البشري أتاحت للإنسان إنشاء أفكار معقدة أدت إلى تطور اللغة البشرية. يفترض تشومسكي ظهور هذه الطفرة في مجموعة محدودة من البشر ثم انتشرت هذه الطفرة بين جميع أفراد الجنس البشري وفق قوانين الانتقاء الطبيعي.

بينما يعتقد عالم الأحياء وعلم النفس البريطاني المعاصر روبن دونبار أن اللغة جاءت ابتكارًا من الجماعات البشرية القديمة لاستمالة أفرادها وحفظ ولائهم، مثل الأنشطة التي تمارسها سائر الحيوانات بين جماعاتها كلعق الأجساد أو تنظيف الشعر.

دعا اللغوي البريطاني المعاصر جورج يول إلى إعادة توجيه البحث فيما يخص نشأة اللغة. بدلًا من تحليل الأسباب الاجتماعية التي دفعت الإنسان إلى التحدث، يقترح يول البحث في السمات الجسدية المميزة للجنس البشري، وهي التي يراها سبب تميزه عن باقي الكائنات باللغة المتطورة. يمتلك الإنسان أسنانًا متقاربة الطول، عمودية لا تميل إلى الخارج مثل القردة، إضافة إلى التعقيد الشديد لشفة الإنسان ومرونتها.

يشارك اليوم كثير من التخصصات في رحلة الإجابة عن سؤال نشأة اللغة، ما بين أنثروبولوجيين ولغويين وعلماء أعصاب وغيرهم، مع شبه غياب للنظرية التوقيفية، لكن لم يلح في الأفق بعد إجابة يتوسم فيها القدرة على كسب الإجماع في قضية من أعقد القضايا العلمية وأكثرها غموضًا وجاذبية في آن واحد.