في عام 2015 قرأ المخرج «عمر هلال» خبرًا عن هروب بعض الشباب المصريين بشكل غير شرعي لأوروبا بعد أن قاموا بانتحال هوية لاعبي كرة جرس مكفوفين، مما سمح باستقدامهم للمشاركة في بطولة دولية تقام فعالياتها ببولندا.

وقتها أيقن «عمر هلال» أنه وجد مثل هؤلاء الشباب تذكرة العبور الذهبية، ليس من مصر لأوروبا، ولكن من عالم الإعلانات الذي برع فيه كمخرج ونال جوائز دولية، لعالم السينما ليقدم تجربته الأولى ككاتب سيناريو ومخرج سينمائي لأول فيلم روائي طويل في مسيرته.

ما بدأ كفكرة عابرة، احتاج لما يجاوز أربع سنوات من التحضير لتنفيذه مع جدول تصوير مُثقل يتنقل بين مصر ولبنان ورومانيا، ليجد الفيلم أخيرًا طريقه لدور العرض السينمائية في ختام الموسم الصيفي لعام 2023.

عودة الطبقة المنسية

يموضع فيلم «ڤوي! ڤوي! ڤوي!» نفسه زمنيًّا في عام 2013، مع خريف ثورة 2011، وانحسار الآمال في تغيير الظروف الاقتصادية والسياسية لملايين الشباب المصريين، لنجد الشاب «حسن» الذي يعمل فرد أمن، وهو يُحاول بشتى الطرق البحث عن تذكرة للهروب من وطن خرج من الغضب للضباب. تارة عبر إقامة علاقات جنسية مع العجائز الأوروبيات في المدن السياحية لكي تمنحه إحداهن تذكرة ذهاب لبلدها، وأخرى عبر البحث عن مكان له وأصدقائه على متن قارب هجرة غير شرعي.

من فيلم «ڤوي ڤوي ڤوي» للمُخرج «عُمر هلال»

يُقدم الفيلم شخصياته منذ البداية بمزاج اكتئابي ملحوظ، تسرب لهم من إحباط الظرف العام ليطبع بالكامل ظرفهم الخاص، لنجد «حسن» وأصدقاءه في حالة يأس تام مع العجز عن الهجرة، ثم ننتقل للمدرب العجوز «عادل» الذي يُمثل أجيالًا سبقتهم في الخبرة، لكن لم تختلف عنهم في الحال، يبحث هو الآخر عن عمل إضافي جوار مهنته المتواضعة كمُدرس ألعاب، وأخيرًا نصل للصحفية «إنجي» التي تجد نفسها تُغطي قصصًا متواضعة لمؤثرين تافهين تنامى صعودهم ليُناسبوا مرحلة انحسر فيها المعنى وطغى عليها العبث وعدم اليقين.

يخلق «ڤوي ڤوي ڤوي» تميزه منذ البداية جوار أفلام المرحلة باستعادته للطبقة الفقيرة وتحت المتوسطة التي تم إهمالها بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، لصالح أعمال تدور حول طبقات أيسر حالًا وأكثر خفة في مشاكلها، أو طبقات تبدو فقيرة لكنها تحيا في ديكور أنيق مُصطنع بالكامل، يُخفي مُعاناتها.

يختار «عمر هلال» بعناية كادرات مشاهده من البيئة الواقعية، يجتمع حسن بأصدقائه في فضاءات عشوائية بحي يُشبه القلعة والحطابة، في المقابر، في أماكن تُعبر بصدق عن الطبقة التي ينتمي لها. تُشكل تلك الحالة البصرية مُبررًا دراميًّا لا تحتاج معه الشخوص لمزيد من الشرح حول رغبتها في الهروب. لو أردت تصوير رجل يُحاول الفرار فعليك أن تخلق جحيمًا بصريًّا لنتعاطف معه.

يُدرك صُناع العمل جيدًا فخ الميلودراما الذي يُحيط بقضية حزينة مثل الهجرة غير الشرعية، تم تناولها باستفاضة في عشرات الأعمال المحلية والعالمية، لذلك يؤسس العمل إيقاعه المنفصل عن تلك الأعمال عندما يجلس حسن وأصدقاؤه ليستمعوا للرجل المسئول عن نقلهم لمركب هجرة غير شرعية، وهو يسرد مراحل الهروب.

ننتقل مع الكاميرا لتصور بصري لحسن وهو ينفذ تلك المراحل واحدة تلو الأخرى، توثق تلك المراحل مخاطر مثل الاختناق والغرق واحتمالات أن يُقتل أحدهم ويُلقى في البحر بمجهولية تامة بسبب نزاعات تافهة على الطعام والماء على متن مركب يضم مئات المهاجرين القلقين.

من فيلم «ڤوي ڤوي ڤوي» للمُخرج «عمر هلال»

 يحيط السرد السينمائي تلك المراحل بحس كوميدي ساخر، يتخفف من الميلودراما وينحاز للعبث عندما تفسد الصفقة لا لخطورتها أو لوضاعة مراحلها إنما لكونها باهظة الثمن وهم لا يملكون النقود!

ندرك أننا أمام فيلم تجاوز الرغبة في المُناقشة والإدانة للتأمل العبثي الساخر، يتبقى فقط إيجاد الفكرة الطازجة التي تُحول ذلك التأمل لحالة سينمائية ناجحة.

قصة قديمة في عالم سينمائي جديد وطازج 

لا توجد قواعد كثيرة لصناعة الأفلام، فقط خطايا، والخطيئة العُظمى هي الضجر.
فرانك كابرا

يجد حسن خبرًا عن فريق كرة من المكفوفين يشق طريقه للتأهل لبطولة دولية في «بولندا»، لتختمر الفكرة في رأسه بانتحال هوية كفيف ليجد تذكرته للسفر.

يكتسب السرد طزاجة وفرادة مُبدعة لأنه في خضم تناوله لقضية قُتلت بحثًا وهي الهجرة غير الشرعية، يفر من فخ الضجر للفرادة بكونه يستكشف بالأساس عالمًا لا يعرفه أحد ليُمرر عبره قصته وهو رياضة المكفوفين، ننتقل ببطء لنجده عالمًا يُمثل حالة أكثر نظامًا من مشهد مُباراة المكفوفين الشهير في فيلم «أمير الظلام» وربما أكثر نظامًا من عالم المُبصرين نفسه. 

يختلف اللاعبون في درجات إعاقتهم لذلك يرتدون جميعًا غمامة داكنة ليدخلوا في حالة متساوية من العمى قبل بدء المُباراة، يمتلك المكفوفون كودًا للحركة، ومُرشدين بالصوت خارج خطوط الملعب، والأهم كلمة «ڤوي» الإسبانية والتي تعني «أنا قادم»، لكيلا يصطدم مكفوف بالآخر، تشكل تلك الكلمة العمود الفقري للعبة، لو لم يلفظها اللاعب ينال مُخالفة، ولو لفظها يُعبد طريقه للمرمى.

من فيلم «ڤوي ڤوي ڤوي» للمُخرج «عمر هلال»

تجمع الفكرة شمل الشخوص المُبعثرة الذين قدمهم الفيلم بإيجاز في بدايته، يجد «حسن» المُدرب «عادل» في انتظاره لتدريبه، بينما تأتي الصحفية «إنجي» لتُغطي أخبار البطولة بحثًا عن قصة أكثر أصالة ومعنًى من المؤثرين التافهين.

بالنسبة لإنجي، في ضباب وطن كامل تخبط مصيره بعد ثورة مُجهضة، يصير الجميع مكفوفين، لذا عندما يجد بعض المكفوفين طريقًا لمعنى خارج إعاقتهم الجسدية، يمنحون أملًا مُلهمًا للمُبصرين في إيجاد معنًى خارج إعاقتهم النفسية وظرفهم الراهن.

بالنسبة لحسن، يتشرب قوانين عالمه الجديد ليتحايل عليها، بحثًا عن مكان له بالفريق، مع تظاهره بفقدان بصره، تصير الحياة أكثر سهولة، ويصير فعل العيش نفسه بطوليًّا في نظر من حوله. ويساعده عشرات الأشخاص الذين لم يكونوا ليعيروه انتباهًا وهو في حالته العادية.

رغم أن الخط الرومانسي المُتوقع والمُتصاعد بين شخصية «إنجي» و«حسن» على مدار الأحداث هو الأضعف فنيًّا في الفيلم، مع افتقاره للمُقدمات والمبررات الدرامية الكافية لحدوثه لاختلاف طبقات وملامح الشخصيتين الجذري مما أدى لظهور التجاذب بينهما بشكل سريع ومُفتعل، إلا إن كليهما يُجسدان المجاز الذي يُمثله الفيلم. 

ماذا يحدث لو سقط المُبصرون ببصيرتهم في حالة ضبابية بلا أمل؟ ظهر التساؤل في تقديم الفيلم لأبطاله كشخصيات في مزاج اكتئابي تتحرك بالقصور الذاتي.

تُمثل «إنجي» مُحاولة استعادة المعنى للخروج من الضباب، بينما يُجسد «حسن» اعتناق العبث، بالاستفادة من الضباب نفسه ليكون نصف مبصر وسط عميان، مما يمنحه ميزة تفوق في سياق مهزوم بالكامل. يكتمل مثلث الشخصيات بالكابتن «عادل» المُمزق بين أحلامه القديمة وواقعه المُثقل وفشله الذي يتوج حياته الطويلة، لذلك ينحاز أمام خيار المعنى أو العبث، للعبث.

يستفيد الفيلم من التقديم الذكي لحالة أبطاله الفقراء في النصف الأول، فلا يبدو أبطاله أشرارًا بالكامل، رغم انخراطهم القاسي في خديعة وسط عالم أفراده من ذوي الاحتياجات الخاصة، وسياقه رياضة وبطولة لتحدي الإعاقة الجسدية، ثم تطور الخديعة حد تورطهم في جرائم متنوعة، إلا أن اليأس الذي بدأت به الحكاية والذي يسمح لصاحبه بركوب البحر بحثًا عن فردوس على الضفة الأخرى في مُغامرة عدمية كل مؤشراتها تُشير للهلاك، يجعل خديعة كتلك أقل وطأة ويجعل مبرراتها حاضرة للمتلقي، خاصة مع حفاظ إيقاع الفيلم على التنقل طوال الوقت ببندول ذكي بين الكوميديا والجدية، فلا يبدو الفيلم في أي لحظة ككائن لا تُحتمل خفته أو ثقله.

تمتلك الطبقة التي تنتمي لها «إنجي» رأس مال ماديًّا ومعنويًّا يكفي لتحاول استعادة المعنى من جديد، بينما ينتمي «حسن» ورفاقه لطبقة انسحقت بالكامل، لا تكفيها طاقتها لاستعادة توازنها إنما الهروب بفتات ما تبقى لمكان آخر.

قوة الأدوار المساعدة

أعتقد أن المُمثل الرئيسي هو أفضل مُمثل مُساعد، لأنه المُمثل الوحيد الذي يُمكنه أن يساعد كل ممثل آخر في الحكاية.
كيفين كوستنر

يقول «عمر هلال» إنه لم يُغامر بالوجوه التي منحها أدوارها في الفيلم، منذ البداية حضر الأبطال الرئيسيون – نيللي كريم ومحمد فراج – في ذهنه خلال الكتابة، وكانت المهمة المتبقية هي اختيار الأدوار المساعدة والتي اعتمد فيها على خبرته في مجال الإعلانات، حيث دقائق مُكثفة لمنح الرسالة، لا بد فيها من اختيار الوجه المناسب للمكان المناسب لكل لقطة.

لم يتفرد «ڤوي ڤوي» فقط في استعارة عالم سينمائي فريد لقضية قديمة، إنما في توزيع أدوار الحكاية بعناية، تمتلك كل الشخصيات حضورها بغض النظر عن مساحة الدور، خارج مثلث الشخصيات الرئيسي لفراج ونيللي كريم وبيومي فؤاد، يتألق مُمثلون شباب مثل طه دسوقي وأمجد الحجار وممثلون كبار مثل حنان يوسف ومحمد عبد العظيم.

في مشاهد بعينها، يمنح المُمثل الرئيسي الفرصة للأدوار المساعدة لتتألق وتحمل ثقل الدعابة أو التراجيديا على عاتقها في المشهد، مما خلق مواقف شديدة الذكاء في خفتها أو ثقلها، يرتهن ذكاؤها لطبيعة الموقف، لا تدور في فلك إبراز نجم بعينه على حساب الحبكة. 

تظهر تلك الحالة حتى في الحملة الدعائية للفيلم، والتي أظهرت أبطاله في وضعية وقوف واحدة بالنظارات المُعتمة كأنهم أفراد متساوون في فريق تمثيلي يوازي فريق المكفوفين الكروي الحقيقي. 

الحياة في مكان آخر

قولنا المدينة مش هتساعنا، لوينا بوزهم لووا دراعنا.
ويجز

جسد الشيخ «حُسني» في فيلم «الكيت كات» قبل ثلاثين عامًا شخصية المكفوف الذي يمتلك بصيرة وفراسة تفوق المُبصرين، يتوق ابنه في الفيلم للسفر للخارج، بينما يُحاول الأب إقناعه أن عجزه في وطنه معنوي، وليس ماديًّا، وأن عليه تخطيه ليجد نفسه، ينتهي الفيلم بالأب وهو يقود بإعاقته الدراجة البخارية ليسقط بابنه في النيل. جيل قديم يقود جيلًا أكثر شبابًا للمصير نفسه، الغرق!

بيومي فؤاد من من فيلم «ڤوي ڤوي ڤوي» للمُخرج «عُمر هلال»

يُجسد الكابتن «عادل» الذي قام بدوره بيومي فؤاد، الجيل الذي كان شابًّا في زمن «الكيت كات»، والذي يجد نفسه الآن في مرحلة الكهولة، يحيا اليأس نفسه الذي طبع بداياته الشابة، في مشهد من الفيلم يدور بين الكابتن وابنه الذي يُعاني من شلل نصفي، تنعكس الأدوار ويُخبر الابن أباه أن يهرب من البلاد ولا ينظر وراءه، يتلقى الجيل المهزوم نصيحة الفرار تلك المرة من أجيال الأبناء الأصغر سنًّا، بينما بعد مُحاولات مُستميتة من أم «حسن» لاستبقاء ابنها في وطنه تُخبره في النهاية أن يفر ولا ينظر وراءه.

يستخدم «عمر هلال» في نهاية فيلمه أغنية الروك البريطانية الشهيرة baba o’riley والتي غنتها الفرقة البريطانية the who لنعي جيل الستينيات الذي ثار في باريس وأوروبا وكل بلدان العالم بحثًا عن الحُرية لكنه لم يجد سوى الضياع.

تقول كلمات الأغنية:

في الحقول بالخارج، أقاتل لأجد قوت يومي، لم أعد أحتاج القتال لأثبت أنني على صواب، لم أعد أحتاج الغُفران.

يقول «عُمر هلال» إن لمسة الجيتار الأمريكية مع قصة مصرية أبطالها من القلعة تمنح الأمر بأكمله الطابع العبثي، تنجح كلمات الأغنية في تأطير حالة العبث لجيل لم يعد يُريد إثبات شيء، ولم يعد يطلب الغفران، إنما فقط يبحث عن الحياة في مكان آخر.

تمنح الأغنية عزاءها وحنانها لأبطال الحكاية، تتحرر من إدانتهم أو منح حكايتهم إكليل النجاح، تُخبرهم أنها تتفهم دوافعهم وحسب للهجرة نحو فردوس مُتخيل ولئلا ينظروا للوراء فتقول:

لا تبكِ، لا ترفع عينيك، هي فقط أرض الضياع للمُراهقين … الخلاص من هُنا، والسعادة باتت قريبة، اخمد نارك ولا تنظر إلى ما دون كتفي.

يؤطر صناع العمل الرؤية نفسها في أغنية الفيلم الدعائية لويجز «حلوة منك»، والتي تنتقل في مونتاج رشيق بين مشاهد الفيلم بكادراتها الواقعية، وبين حالة سحرية بالأبيض والأسود فيها يرتقي البشر صعودًا من سجن المدينة وظلامها نحو سماء جديدة وانبعاث جديد، بينما يُردد المُطرب ببساطة:

قولنا المدينة مش هتساعنا، لوينا بوزهم لووا دراعنا.

كيف يستعيد العبث حكاية قديمة؟

قبل صدور الفيلم بأيام قليلة فر المصارع المصري «سيف الدين شكري» خلال بعثة رياضية لأوروبا ليسير على خطى زميله «أحمد بغدودة» الذي فر في مايو من العالم الحالي من بعثته الرياضية المصرية.

لا يُناقش «ڤوي ڤوي» قضية خيالية أو جديدة أو ظروفًا اقتصادية لم تُعرض من قبل، كل ما قيل سبق قوله وربما ينتمي بالكامل لعالم ما قبل 2011، ولكنه يمنح ما يرويه نكهة عبثية ساخرة شديدة الفرادة، يصعب الوصول لها إلا بعد سنوات من الأمل والبحث عن المعنى والتحطم، نعود لزيارة قضايا قديمة، لم يُشفَ أصحابها من أدوائها، إنما منحتهم السنوات فقط شفاءً من الأمل.

من فيلم «ڤوي ڤوي ڤوي» للمُخرج «عُمر هلال»

يُجسد «ڤوي ڤوي» زيارة ساخرة جديدة لحكاية قديمة، قدمها مُخرج نجح في فيلمه الأول أن يجد لنفسه صوتًا وحضورًا خاصًّا، كذلك نجح في توزيع ثُقل حكايته على أدوار رئيسية ومُساعدة في هارموني صنع في النهاية قصة رشيقة تتنقل بين الجد والعبث دون أن تفقد توازنها، لا تُهين ذكاء المتلقي بمنحه الأمل ولا تُثقله بفقدانه، في عالم المكفوفين توجد قواعد صارمة تعوض فقدان البصر، لكن في عالم المُبصرين لا توجد القواعد نفسها حال فقدان البصيرة، لذلك تصير تلك الحكاية في تأرجحها وضبابيتها أكثر صدقًا في التعبير عن واقعنا من حكايات مُخلصة لقواعد لم تعد فاعلة.