قبل عامين أثار إعلان «الدندو» جدلاً واسعًا بسبب استغلاله للأطفال في سياق خادش للحياء ولا يراعي الذوق أو الأخلاق العامة،أوقف على إثرها بعد سجالات في المحاكم المصرية وصفحات السوشيال ميديا. تكرر الأمر، بعد عام واحد، مع أغنية «فوتت الغول» لمريم كلينيك وجاد خليفة، التي مُنعت بقرار من وزيري العدل والإعلام في لبنان، لظهور طفلة في مشاهده المخلة بالآداب ما أثار حفيظة الجماعات المعنية بحقوق الأطفال هناك، وبدرجة أقبح استغلت سيدة تدعى ليلى الشبح طفلتيها في كليب فاضح ومسيء بعنوان «الواد دا بتاعي» والقائمة لا تنتهي.

من الطبيعي بل والشائع أن نرى آباءً يسعون لتعويض ما حُرموا منه أو ما فشلوا في تحقيقه في الصغر، في أبنائهم سواء في مجال التعليم أو المهارات كالرياضة والفنون –وهو ما أكدته دراسات علم النفس– وربما يكون ذلك غير معيب، إذا توافق مع مهارات وقدرات الطفل، لكن أن يصل الأمر لحد حرمان الطفل من طفولته وحصاره وإجباره –نفسيًا أو اجتماعيًا- على ارتداء عباءة لا تناسب سنه ولا إمكاناته، بل وربما تتخطى وعيه بسنوات، فهو ضرب من جنون.

وقد شاهدنا مؤخرًا نماذج متعددة لآباء عرضوا أطفالهم للسخرية والمهانة أحيانًا عبر وسائل الإعلام والسوشيال ميديا المختلفة، تستدعي البحث لمعرفة دوافع هؤلاء، وإصرارهم على تعريض أنفسهم وأبنائهم للتهكم، وتأثير ما يفعلونه على أبنائهم مستقبلاً.


نماذج طفت على السطح

وليد العبادي: أصغر بروفيسور في العالم

منذ عام 2015، بدأت القنوات والمواقع المصرية الكبرى تتداول أخبار تفوق «وليد محمد عبادي»، ابن محافظة البحيرة الذي كان وقتها في الصف الأول الإعدادي، وتحت مسمى «العبقري الصغير»، زفّت الأخبار إنجازات مبهرة عن فوز الطالب بألقاب ومسابقات عالمية من بينها «أصغر بروفيسور في العالم» و«أصغر عالم في العالم» و«دعوته للمحاضرة في جامعات أوروبية» و«منح للدراسة بالجامعة الماليزية» و«المركز الأول في مسابقة Nanotechnology أجريت بإيطاليا».

بجانب مجموعة من التصريحات الغريبة التي لا تتناسب مع سنه الصغير بالمرة، والتي جلبت الكثير من السخرية منه ومن أبرزها «أنا كيان علمي» و«البيئة المصرية تقتل المواهب» و«الإعلام العدو الأول للطفل المصري».

ظل الأمر على هذه الوتيرة؛ الطفل يظهر مرتديًا بالطو أبيض للحديث عن نجاحاته واختراعاته ومصدرها الوحيد هو الأب، ولا دليل آخر، حتى ادعى أن نجله فاز بجائزة أرخميدس في موسكو، وهي من أهم الجوائز العلمية في العالم، ليكشف أحد الأشخاص في منشور عبر فيسبوك أن هذه الجائزة لا تمنح إلا للكيانات وليس الأشخاص، وانتشر المنشور سريعًا ما دفع عددًا من المواقع لتقصى حقيقة إنجازات الطفل وكشف زيفها.

ساندي شو والجدة غير المسئولة

الطفلة ساندي التي لم تبلغ بعد العاشرة من العمر نموذج آخر للاستغلال الصارخ من الأهل، وهذه المرة من الجدة. فقد ظهرت الطفلة لأول مرة في فيديو ساخر وهي تتشاجر مع جدتها التي ترفض إطعامها، ونظرًا لكون الطفلة ممتلئة ظن الجميع أن الجدة تحاول تعويدها الطعام الصحي، لكن سرعان ما تتابعت الفيديوهات التي لوحظ فيها تدني مستوى تربية الطفلة وتبادلها السباب مع جدتها وتطور الأمر لمزيد من الابتذال مع تفعيل الجدة لصفحة خاصة بالطفلة على فيسبوك اجتذبت حتى الآن ما يزيد عن 250 ألف شخص، ونشرها فيديوهات للطفلة ترقص على أغاني مهرجانات.

لم تكتف الجدة بما تنشره للطفلة من فيديوهات تسيء إليها اجتماعيًا وتعكس البيئة غير السوية التي تعيش بها، وبدأت في استغلال الطفلة وصفحتها في نشر دعاية سياسية للرئيس عبد الفتاح السيسي، بجانب فيديوهات راقصة لها –أي للجدة- تتفاعل بها وحدها مع الجمهور، ما دفع الكثيرين للقيام بحملة عبر الفيسبوك للمطالبة بتخليص الطفلة الضحية من براثن الجدة التي تسيء استخدامها.

فريدة طارق: طفلة معجزة بقدرات أقل من العادية

استضافت الإعلامية إيمان الحصري طفلة تدعى فريدة طارق تبلغ من العمر خمس سنوات، وتدعي والدتها أنها «ثاني أذكى طفلة في العالم» وأنها «سفيرة الطفولة العربية»، وبعد دقائق من بداية الحلقة طلبت المذيعة من الأم أن تطرح عليها بعض الاختبارات التي تبرز مهاراتها، لتفاجأ بأنها مجرد أسئلة عادية، وأن الطفلة تتلعثم وتفكر كثيرًا قبل الإجابة، فتنهي الفقرة وتبادر بالاعتذار عبر حسابها الرسمي على فيسبوك.

الغريب أن الأم لم تتراجع واستمرت على إصرارها بأن طفلتها تمتلك قدرات خارقة، ورفضت تصريحات الحصري رغم أنه من شاهد الحلقة لا يحتاج الكثير من التفكير ليدرك حقيقة الأمر.

محمد وائل: مخترع ومحاضر دولي وسفير للطفولة في الثالثة

قصة محمد وائل الطالب بالصف الثاني الابتدائي أكثر غرابة، حيث تنقلت الأم بطفلها البالغ من العمر سبع سنوات، بين قنوات التليفزيون المصري والقنوات الخاصة؛ مثل برنامج مساء دريم، وبرنامج صباح البلد، وبرنامج نهارك سعيد، وبرنامج بنات وولاد، وغيرها الكثير، وادعت أن طفلها بدأ اختراعاته في سن الثالثة، وأن اختبارات ذكاءٍ أجريت له بالمركز القومي للبحوث أكدت عبقريته وأنه تم تكريمه من اليونسكو.

وحصل على لقب أصغر محاضر في العالم –لإلقائه محاضرات لأقرانه في مكتبة مصر العامة-وتم تكريمه من وزير التربية والتعليم، وجلّ ما اخترعه هي أشياء مجمعة من تفكيك ألعابه الخاصة، مثل: طائرة لا تطير، وسيارة تقف على عصي عندما يزدحم المرور، كما يفترض هو أو تفترض والدته.

صلاح هشام والبوتجاز الذي يعمل بالمياه

ظهر الطفل هشام صلاح مع الإعلامية منى فاروق في برنامج مساء دريم، وادعى اختراعه بوتجاز يعمل بالمياه؛ تقوم فكرته على عزل العنصرين المكونين للمياه وهما الأكسجين والهيدروجين، واستخدام الأكسجين كمحفز للهيدروجين القابل للاشتعال، واستنكرت والدته في اللقاء عدم تجاوب أكاديمية البحث العلمي مع ابتكار ابنها، وبالطبع أثار اللقاء الكثير من السخرية عبر فيسبوك من الطالب واختراعه.

في الحالات السابقة نلاحظ تشابهات كثيرة؛ فالادعاءات متكررة وتكاد تكون واحدة، الاستناد إلى أسماء جمعيات محلية مغمورة أو دولية غير موجودة، جوائز وهمية وشهادات وميداليات ما أنزل الله بها من سلطان أو من جهات غير مختصة كالإدارات التعليمية وخلافه، لا أدلة، فقط تأكيدات الأهل!


لماذا يضع الأهل أطفالهم في هذا الحرج؟

يفسر أحمد عبد الله، أستاذ الطب النفسي كليه الطب جامعة الزقايق، حالات إصرار بعض الأهالي على وضع أطفالهم في مكانة أو مجال لا يناسب سنهم أو قدراتهم بغرض الشهرة بأنه: «نتيجة طبيعية لفوضى التربية التي تعانيها مجتمعاتنا العربية وبخاصة مصر؛ ففي البلدان المتحضرة يتم التعامل مع الطفل على أنه ابن البلد؛ وهناك قيم ثابتة متعارف عليها للتنشئة يلتزم بها الأهل والإعلام وحتى المدارس، ومن يحيد عنها أو يُسيء للطفل يتم معاقبته بدرجات متفاوتة بحسب الخطأ، حتى يصل الأمر لنقل الطفل إلى دار رعاية في حال أساء إليه الأبوان، حتى إن كان ذلك عن غير قصد، وهو ما نفتقده هنا، لذا يخرج أطفالنا مشوهين نفسيًا وليس من الصعب توقع أن يصبحوا آباء وأمهات غير مؤهلين ولديهم نقص يضر بأطفالهم».

بالعودة للحالات السابقة، يعتقد عبد الله أن هناك العديد من التفسيرات التي تفسر مثل هذه الأفعال غير المقبولة من الأهل تجاه أبنائهم:

أولها، ظن البعض أن ما يفعله شيء إيجابي لتحفيز الطفل؛ بمعنى أنه يضعه على الطريق الصحيح، وعندما يجد مردودًا جيدًا كالشهرة أو المال يتجه للمبالغة.

ثانيها، تبرره نظرية التملك؛ بمعنى اعتقاد الأبوين بأن طفلهما هو صنيعتهما وهما من ينفقان عليه، لذا يصبح ملكًا لهما ومن حقهما أن يرسما له حياته بل ويعوضا فيه ما فقداه في الصغر.

ثالثها، هناك من يفعل ذلك بدافع «هوس النجومية أو الشهرة»؛ أي رغبة الأهل في تحقيق النجومية عن طريق الطفل بأي شكل، حتى لو كان من خلال السخرية والسباب، والتي يعتبرونها «ضريبة الشهرة».

بينما ترى د. رحاب العوضي، استشاري الصحة النفسية وأستاذ علم النفس السلوكي، أن مثل هذه التصرفات الشاذة من الأهل يقف وراءها عاملان أساسيان؛ الأول هو الجشع والطمع في المال والشهرة وهنا يكون لدى الأهل دافع أكبر لاختلاق الأكاذيب وتضخيمها ونشرها، ويرفضون أي محاولات تكذيب، مثلما حدث مع وليد عبادي والطفلة فريدة طارق. والثاني خلل الإدراك العقلي للآباء فيما يتعلق بقدرات الأبناء، وهذا ربما يتضح أكثر في حالة الطفلين محمد وائل وصلاح هشام، وفي مثل هذه الحالات يظن الآباء أن ظهور أبنائهم في الإعلام سيفيدهم، وعادةً ما تكون كذباتهم عن غير وعي لأنها نابعة من سوء تقدير وجهل.


نتائج كارثية!

أتصور أن تؤدي مثل هذه الأساليب في حال استمرارها لسنوات طويلة إلى خلق إنسان مشوه؛ فالكذب لا ينشئ شخصًا ناجحًا أو سويًا أبدًا، ربما يُصاب بالإحباط عندما ينضج في حال أدرك الموقف السيئ الذي وضعه أهله به، وربما يتحول أيضًا لإنسان ناقم على كل شخصية ناجحة بمجهودها لفشله في تحقيق الأمر نفسه.
د. رحاب العوضي

في السياق ذاته يؤكد الكاتب جورج مونبيوت في مقال حديث له بصحيفة الجارديان، أن الأبناء الذين وُلدوا لآباء طموحين، غالبًا ما يحيون حياة بائسة ومنهكة، إذ يتعين عليهم التخلي عن حقهم في الطفولة والحصول على الحنان واللعب، في مقابل دوامة التعلم للغات والمهارات والرياضات وغيرها من المهارات، ظنًا من الأهل أنهم بذلك يمنحونهم مستقبلاً أفضل.

ويضيف مونبيوت أن معدلات إصابة الأطفال بالاضطرابات النفسية والعقلية والاضطرابات والأذى الذاتي، تضاعفت نتيجة للضغوط التي يتعرضون لها من الأهل، ولافتقادهم العقلية المرحة والفرح والرضا والدفء الأسري والعائلي، مقابل الالتزامات الجادة والإنهاك العقلي والنفسي والجسدي، بسبب طموحات الأهل المبالغ بها.

فيما يحذر الطبيب النفسي، كارل بيكهاردت، من خطورة «الاستثمار المبالغ فيه» من قبل الآباء في أبنائهم وعقد الكثير من الآمال عليهم، والتأثير السلبي الخطير لذلك على الأبناء في حال فشلوا في تحقيق طموح آبائهم، ما يُعرضهم دون شك للشعور بانخفاض تقدير الذات والشعور بالذنب، والعزلة وعدم القدرة على التكيف، مع شعور متبادل بالذنب من الأهل باعتبارهم جزءًا من معاناة أبنائهم.


الإعلام الجاهل: شريك رئيسي في الجريمة

لا يمكن أن يفوتنا ونحن نستعرض كل هذه الحالات، أن نشير إلى جهل الإعلام وسطحيته باعتباره عنصرًا شريكًا في كل هذه الجرائم التي ارتكبت وما زالت ترتكب بحق هؤلاء الأطفال؛ فمن أبسط أخلاقيات الأداء الإعلامي المهني التحقق من صدق ودقة أي خبر أو معلومة قبل بثها على الرأي العام، وهو ما لم يفعله واحد من كل هذه البرامج والتقارير التي ساهمت في الترويج لأكاذيب وادعاءات الأهل في الحالات المذكورة سلفًا، بل وجعلت الأطفال مادة دسمة للسخرية والمهانة رغم أنهم ضحايا بالأساس لجهل الأهل وعدم مهنية القائمين على البرامج على وجه الخصوص.

وفي حين خرجت المذيعة إيمان الحصري لتعتذر عن استضافتها للطفلة فريدة طارق ووصفها بالطفلة المعجزة دون سابق تحقق مما ادعته والدتها، وسعت جريدة الوطن للتحقق من حقيقة فوز وليد عبادي بجائزة أرخميدس من عدمه، لم تخرج أي من المواقع أو القنوات الأخرى للاعتذار عما بدر منهم في حق الأطفال، وعما جلبوه لهم من السخرية، بل الأكثر غرابة أن المزيد من البرامج عاودت استضافة هؤلاء الأطفال عن جهل وعدم متابعة لما يدور على صفحات السوشيال ميديا.

وفي كل الحالات السابقة كان التركيز الإعلامي -وحتى الرسمي من قبل مسئولي الدولة- ينصب على التقاط الصور وتكريم الأطفال والشهرة على حسابهم، ربما ترويجًا لفكرة أن مصر ولّادة، أو أن البيئة المصرية الحالية لا تزال قادرة على تخريج العباقرة.

تلخيصًا؛ يحتاج الآباء في مجتمعاتنا إلى المزيد من التوعية بشأن أهمية تقبل أطفالهم واحتضانهم كما هم، والوعي بحدود قدراتهم وإمكاناتهم، بجانب تفهم ضرورة منح الطفل الفرصة ليخطو مراحل حياته تباعًا وبالتسلسل الذي يساعدهم على عيش طفولة سوية وسعيدة، كما ينبغي على وسائل الإعلام أن تتحلى بقدر أكبر من المهنية خاصة فيما يتعلق بظهور الأطفال عبرها، والحرص التام على عدم الإساءة إليهم أو استغلالهم بأي شكل.