محتوى مترجم
المصدر
TED
التاريخ
2016/11/07
الكاتب
جواليا جاليف

هلا تخيلت للحظة أنك محارب في غمرة وطيس المعركة، وقد تكون جنديًا من جنود المشاة الرومانيين أو رامي السهام في العصور الوسطى، أو ربما أحد محاربي الزولو (والزولو قبائل أفريقية اشتهرت بالبسالة في المعارك).

بقطع النظر عن الوقت والمكان فهناك بعض الأشياء المطّردة في كونك أحد المحاربين السابقين، فمستوى الأدرينالين يكون مرتفعًا، وأفعالك تنبع من هذه الأفعال المنعكسة العميقة التي رسخت وتجذرت لحمايتك وحماية الجانب الذي تنتمي له من أجل هزيمة العدو.

الآن أود أن أدعك تتخيل أنك تلعب دورًا مغايرًا للسابق: دور «المستكشف»، إذ لا تنطوي وظيفة المستكشف على الهجوم أو الدفاع كما المحارب، وإنما محاولة الفهم. فالمستكشف هو الشخص الذي يخرج محاولًا أن يرسم خرائط للتضاريس ويتعرف على العوائق المحتملة، كذلك يرجو أن يكتشف على سبيل المثال أن هناك جسرًا يعبر النهر في موقع مناسب.

لكن فوق كل ذلك ما يريده المستكشف في جوهر الأمر هو أن يعرف الحقيقة القاطعة عما يحاول كشفه، فقط الحقيقة وإن خالفت ما كان يرى في السابق.

دعنا هنا وبعد هذه المقدمة أن نفكر في كل من الدورين السابقين على أنهما «عقلية أو طريقة تفكير» –mindset-، استعارة أو إسقاط للكيفية التي يستخدمها كل منا لمعالجة المعلومات والأفكار في حياتنا اليومية.

ما أحاول المجادلة عنه هنا هو أن القدرة على الحكم السديد والرمي بتوقعات سليمة وصنع القرارات الصائبة في الغالب تكمن في أي طرق التفكير -mindset- تملكه أنت.

لنفحص ونفهم طرائق التفكير التي ذكرناها في ضوء الأفعال الناتجة عنها دعوني أسافر بكم عبر الزمن إلى الوراء حتى نصل إلى القرن التاسع عشر في فرنسا حيث دشنت قصيصة من الورق واحدة من أكبر الفضائح السياسية في التاريخ.


تم العثور على قصيصة الورق هذه في 1894 عن طريق ضباط في هيئة الأركان العامة الفرنسية، وقد كانت ممزقة في صندوق المهملات الورقية، وعند إعادة تجميع أجزائها معًا اكتشفوا أن هناك شخصًا ما في نفس الصف العسكري كان يبيع الأسرار العسكرية للألمان.

لذا بدأوا تحقيقًا موسعًا والتقت شكوكهم سريعًا عند هذا الرجل؛ إنه «ألفريد دريفوس» ليس ذا سوابق في الأعمال المخالفة للقانون ولا يملك دوافع لفعل ذلك على حد زعمهم. لكن «دريفوس» كان الضابط اليهودي الوحيد الذي يحمل هذه الرتبة العسكرية في الجيش.

في هذا الوقت كان الجيش الفرنسي معاديًا وبشدة للسامية.

قاموا بمقارنة خط اليد لـ «دريفوس» بالخط المدون به الملحوظة في قصيصة الورق واستنتجوا أن بينهما تطابقًا على الرغم من أن خبراء الكتابة اليدوية خارج الجيش كانوا أقل ثقة من هذا التطابق، إلا أنهم لم يذكروا شيئًا عن ذلك.

قاموا كذلك بتفتيش شقة «دريفوس» بحثًا عن أي أمارة تعضد تهمة الجاسوسية في حقه، ففتشوا ملفاته ولكنهم لم يجدوا شيئًا يدينه، فزادهم قناعة أنه ليس مذنبًا وفقط وإنما ماكر حاذق ليخفي كل الأدلة التي ربما تدينه قبل أن تقع في أيديهم.

بعد ذلك شرعوا في التنقيب في تاريخ الرجل الشخصي عن جرائم قد تورط فيها. تحدثوا إلى معلمه ووجدوا أنه قد درس اللغات الأجنبية في المدرسة والذي يكشف جليًا عن رغبة في ذاته للتآمر مع الحكومات الأجنبية ضد بلاده. معلموه أيضًا ذكروا أنه كان معروفًا بقوة الذاكرة والذي يعضد شكوكهم، أليس كذلك؟ كما تعلمون الجاسوس عليه أن يتذكر تفاصيل كثيرة.

ودخلت القضية باحة المحكمة، وَوُجد «دريفوس» مذنبًا. بعد ذلك اقتادوه إلى ميدان عام وجردوه من شارته العسكرية بشكل طقوسي وكسروا سيفه إلى نصفين كصورة من صور تدنيته من رتبته وإهانته.

شيء واحد في الحقيقة يعد مثيرًا بالنسبة لي بشأن قضية «دريفوس»؛ وهو لماذا كان الضباط مقتنعين بشدة أن «دريفوس» كان المذنب؟

أعني أنك ربما عند هذه النقطة تفترض أنهم كانوا يحاولون تلفيق التهمة إليه عن قصد، لكن المؤرخين لا يعتقدون ذلك. وبقدر ما كان الضباط مؤمنين أن التهمة في حقه كانت قوية جدًا وأنه لا أحد غيره مشتبه، يجعلك ذلك تتساءل: أي نوع من العقول البشرية هذه التي تجد في أمارات تافهة دليلًا كافيًا لإدانة الرجل؟


حسنًا، هذا ما يسميه العلماء «الاستدلال المدفوع». إنها الظاهرة التي فيها تقوم دوافعنا اللاواعية ورغباتنا ومخاوفنا بتشكيل الطريقة التي نفسر بها المعلومات والحقائق، فبعض المعلومات والأفكار تمثل لنا الحليف، نود لو أنها تنتصر فنسعى جاهدين لنصرتها والدفاع عنها، وعدا ذلك من معلومات وأفكار تمثل لنا العدو ونرجو لو نرديها قتيلًا، وذلك هو السبب الذي يدعوني لتسمية “الاستدلال المدفوع” بـ «عقلية المحارب».

على الأرجح أغلبكم لم يقم بإدانة ضابط يهودي فرنسي بتهمة الخيانة العظمى من قبل، ولكن ربما تابعتم مباريات رياضية أو أحداثًا سياسية ولاحظتم أنه عندما يقوم الحكم باحتساب خطأ على الفريق الذي تشجعون – على سبيل المثال – ينتابكم الحماس ويملؤكم الدافع للبحث عن سبب يؤكد أنه مخطئ في حكمه. لكن عندما يحكم بالخطأ على فريق الخصم لسان حالكم: مرحى بتلكم الأحكام! ودعونا لا نتفحص فيها زهدًا في صوابها من خطئها!

أو ربما قرأتم مقالًا أو دراسة علمية تؤسس لبعض السياسات المثيرة للجدل؛ مثل عقوبة الإعدام – وهي القتل المرخص كعقاب على ارتكاب جريمة – وفي حال عضّد الباحثون في هذه الدراسة عدم جدارة هذه العقوبة وملاءمتها وكنتم ممن يرون ملاءمتها ثم شعرتم بدافع للبحث عن الأسباب التي تقوّض المبررات التي بُنيت عليها هذه الدراسة، ولكن إن عضدت الدراسة ما تعتقدون من ملاءمة هذه العقوبة ستحكمون بموضوعية الدراسة.

أحكامنا متأثرة بقوة بشكل لا واعٍ بأي الأطراف نريد أن ينتصر، ولعلكم تلحظون شيوع ذلك؛ مما يشكل الطريقة التي نفكر بها في شئون الصحة والعلاقات وكيف نقرر من نعطي صوتنا الانتخابي، وما الذي نعتبره عادلًا وأخلاقيًا.

وما يخيفني جدًا حول «الاستدلال المدفوع» أو «عقلية المحارب» هو مدى لاوعيها – حيث تنبع الدوافع من اللاوعي – فيشعر صاحبها أنه موضوعي وذا رأي منصف رغم أنه قد شرع في تدمير حياة رجل بريء!

لحسن حظ «دريفوس» لم تنتهِ قصته بعد، فهذا الكولونيل «بيكارت» صاحب الرتبة العالية في الجيش الفرنسي وكغيره من أبناء الجيش قد افترض أن «دريفوس» مذنبًا وكان معاديًا للسامية أيضًا بشكل غير رسمي، لكن شكًا مفاده: (ماذا إن كنا جميعًا مخطئون في حق «دريفوس») قد بدأ يتسلل لنفسه، والذي حدث أنه قد اكتشف دليلًا على أن عمليات الجاسوسية لحساب الألمان لا زالت مستمرة رغم القبض على «دريفوس» – والمدان بذلك من قبل – ورغم الزج به في غياهب السجن! واكتشف أيضًا أن هناك ضابطًا آخر في الجيش يتطابق خط يده تطابقًا تامًا مع الخط الذي كُتبت به الملحوظة في قصيصة الورق صاحبة القصة بمعدل قد تجاوز تطابق خط يد «دريفوس».

لذا لملم هذه الاكتشافات ووضعها بين يدي قياداته في الجيش. ولكن الذي أثار ذعره واستياءه أنهم انقسموا بين غير مبالٍ بأدلته أو مسوغ ذلك بأن هناك جاسوسًا آخر في الجيش قد تعلّم أن يحاكي خط يد «دريفوس»، واستلم شعلة الجاسوسية بعده، غير أن «دريفوس» لا يزال مذنبا في نظرهم!

في نهاية الأمر تمكن «بيكارت» من تبرئة «دريفوس» ولكن ذلك استغرقه عشر سنوات ولبعض هذا الوقت كان هو نفسه في السجن بتهمة عدم إخلاصه للجيش!


عقلية المستكشف

كثير من الناس يشعرون أن «بيكارت» لا يمكن أن يكون هو بطل هذه القصة – لسعيه في إبانة الظلم – لمجرد أنه كان أيضًا معاديًا للسامية. لكن كون «بيكارت» معاديًا للسامية في نظري هو في الحقيقة مدعاة لإعجابي بأفعاله جدًا؛ لأنه وببساطة كان يحمل نفس التحيزات تجاه «دريفوس»، ونفس الأسباب التي تجعله مواربًا متحيزًا لموقف رفقائه الضباط الذين أصروا على إدانة «دريفوس».

لكن دافعه لإيجاد الحقيقة والتشبث بها هزم كل ذلك.

لذلك أستطيع وصف «بيكارت» بأنه الأيقونة المعبرة عما أسميه «عقلية المستكشف» والذي لا يحركه الدافع نحو تغليب فكرة بعينها لتفوز وتخسر الأخرى، ولكن فقط ليكشف الحقيقة ببكارتها من غير زيف قدر ما وسعه ذلك حتى وإن كانت غير مريحة أو سارة.

هذه العقلية هي ما يشغفني شخصيًا وقد استغرقت السنوات القليلة الأخيرة أفتش وأبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى «عقلية المستكشف».

لماذا يميل بعض الناس أحيانًا أن يتجاوزوا تحيزاتهم ونزعاتهم ودوافعهم ويحاولوا الكشف عن الحقائق والأدلة بموضوعية قدر وسعهم؟

والإجابة هي: المشاعر!

فكما أن «عقلية المحارب» متجذرة راسخة في المشاعر الدفاعية (يوصف الشخص بأنه دفاعي إذا كان يميل لتبرير أخطائه ويصعب عليه الاعتراف بها طالما أنها تتفق وما يعتقده) والقبلية (يوصف بالقبلية من يحركه تحيزه وانتماؤه لعشيرته في المواقف)، فإن «عقلية المستكشف» متجذرة راسخة في مشاعر مختلفة، فالمستشكف على سبيل المثال فضولي، لذا أصحاب هذه العقلية يشعرون بالنشوة عندما يتعلمون شيئًا جديدًا، وشعورًا يشبه الحكة يستحثهم لحل لغز ٍغامض، وهم في الغالب يشعرون بالإثارة عندما يصادفون شيئا يتعارض مع توقعاتهم.

كذلك للمستكشفين قيم مختلفة إذ يتبنون فضيلة تجعلهم دائمي اختبار معتقداتهم وما هم به مؤمنون، ولا يتبنون فكرة أن من يبدل رأيه يبدو ضعيفًا، وفوق كل هذا وذاك هم غاية في التواضع وقيمة ذواتهم لا ترتبط بمدى صوابهم أو خطئهم في شأن ما، فيمكن لهم مثلًا أن يعتقدوا بجدارة “عقوبة الإعدام” ثم ما إن يبين لهم عبر الدراسات والأبحاث أنها غير ملائمة تجد الواحد منهم يقول وبأريحية: لعلي كنت مخطئًا!

وكونه مخطئًا لا يجعله ينظر لنفسه على أنه سيء أو غبي.

وتلك كانت ثُلّةُ الصفات التي وجدها الباحثون، كذلك قد وجدت أنا عبر الروايات المتناقلة أن هذه الصفات تفرز حكمًا جيدًا في المواقف.

ولب الأمر هنا وجوهر ما أود أن أمرره إليكم عن هذه الصفات هي أنها لا تعتمد بشكل أساسي على قدر ذكائك أو ما تملك من معرفة.

ففي حقيقة الأمر لا رابط بينها وبين معدل الذكاء (IQ) على الإطلاق، وإنما بالكيفية التي تشعر بها.

وهناك مقولة لـ «سانت اكسوبيري» صاحب كتاب “الأمير الصغير – The Little Prince ” أحب أن أعود إليها مرارًا وتكرارًا تقول:

إن رمت بناء سفينة، لا تسع في حشد الرجال لجمع الخشب وإصدار الأوامر وتوزيع الأعمال، وإنما علمهم كيف يتوقون للبحر الشاسع الذي لا نهاية له.

بعبارة أخرى أزعم أننا إذا أردنا أن نحسن من أحكامنا على المستوى الشخصي والمجتمعي فما نحتاجه حقًا هو ليس مزيدًا من التعليمات والإرشادات المنطقية أو المنمقة بلاغيًا أو إعمال قوانين الاحتمالات أو اعتبارات علم الاقتصاد. فرغم قيمة هذه القواعد البالغة إلا أننا في حاجة ماسة لاستخدام مبادئ وطريقة التفكير الخاصة بالمستكشف. نحن في حاجة لتغيير الطريقة التي بها نشعر، في حاجة لنتعلم كيف نشعر بالفخر وليس العار عندما نكتشف أننا ربما كنا على خطأ في شأن ما، في حاجة لنتعلم كيف نشعر بالإثارة التي يستحثها الفضول بدلًا عن الدفاعية حين نتصادم مع معارف ومعلومات تكسر معتقداتنا وما كنا به متشبثين.

في النهاية أود أن أترككم مع سؤال: ما الذي تتوقون إليه أكثر؟ أتتوقون للدفاع عما تعتقدون وتؤمنون، أم أنكم تتوقون لرؤية العالم في أوضح صورة ممكنة؟

شكرًا لكم.