«الصحة العقلية Mental Health»، ووفق تعريف منظمة الصحة العالمية «هي حالة العافية العقلية التي تُمكن صاحبها من التعامل مع إجهادات الحياة العادية، وتحقيق قدراته وإمكاناته الذاتية، والعمل بصورة منتجة ومثمرة والمساهمة في مجتمعه».[1]

ووفقًا لتعريفها الأكثر ذيوعًا، فإن «السياسة Politics» تشير إلى «من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟»، أي من يحصل على الموارد والقوة –دون اللجوء للعنف– داخل المجتمع، وفي تعريف أكثر تبسيطًا هي «الأنشطة المؤثرة على أفعال وسياسات الحكومة، وهي أيضًا الأنشطة ذات الصلة بالاستحواذ على السُلطة والاحتفاظ بها».

وتُفسد اضطرابات أو اعتلالات الصحة العقلية، وفقًا لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، في المرء ولفترة قصيرة أو مزمنة، واحدة من مجالات أربعة وهي: «الشعور، أو التفكير، أو المزاج، أو السلوك»، لتصيبك بمشكلات شعورية سلبية كالقلق والإحباط أو فكرية كضعف القدرة على التركيز أو مزاجية كالتقلب المزاجي السريع أو سلوكية كالانسحاب من العلاقات والإحساس بالعجز أمام القيام بأبسط المهام، إلى اضطرابات عقلية أشد انحرافًا وخطورة يصف الناس حامليها «بالجنون» الواضح. وتتراوح أشْهر العلل ما بين «الاكتئاب، اضطرابات التغذية، اضطرابات الشخصية، اضطرابات ما بعد الصدمة، الاضطرابات العقلية الخطرة كالانفصام -شيزوفرينيا-».

ولكن هل يمكن لطرح سؤال سياسي مثل: «من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟».. أن يقود أحد المهتمين بمعرفة إجابته من «العامة»، أو المتنافسين على أن يكونوا هم أنفسهم تجسيدًا لهذه الإجابة، ويصيروا «ساسة».. إلى أي من الاضطرابات أو العلل المذكورة؟

متابعتك للأحداث السياسية تؤذيك

نشرت «رابطة علم النفس الأمريكية APA» في يناير الماضي، دراسة بعنوان «السياسة شيء شخصي: تكلفة السياسة اليومية»، سعت لاختبار تأثير متابعة الأحداث السياسية بشكل يومي، على الحالتين النفسية والشعورية لعينة عددها 198 من المواطنين الأمريكيين. فقام الباحثون في تجربة أولى، بسؤال هؤلاء المبحوثين عن:

  1. ما الحدث السياسي الذي سيطر على تفكيرك اليوم؟
  2. ما شعورك تجاه هذا الحدث؟
  3. ما حالتك النفسية والبدنية في اليوم ذاته؟
  4. هل تحمست بتقديم مشاركة أو دعم منك تجاه حدث سياسي في هذا اليوم؟

واستمرت التجربة لمدة أسبوعين، على أن تتكرر الأسئلة في كل ليلة.

وجاءت النتائج كالتالي:

  1. رغم أن الأحداث السياسية التي تابعها هؤلاء الأفراد توزعت ما بين الإيجابية والسلبية، فإن الـ198 فردًا جميعهم كان مجرد انشغالهم وتفكيرهم في الأحداث السياسية اليومية مسبببًا لإصابتهم بمشاعر سلبية. الذين عبروا منهم عن مشاعر أسوأ شدة، أجابوا أن حالتهم النفسية وصحتهم البدنية خلال الأسبوعين كانت تتدهور للأسوأ.
  2. هؤلاء الذين عانوا من مشاعر سلبية أكبر مقارنة بالبقية، كانوا هم الأكثر حماسة للمشاركة متطوعين ومتبرعين بالمال من أجل الأحداث السياسية الجارية.
  3. ثم تضمنت التجربة، البحث بين الـ198 فردًا بالعينة، عمن كان يقوم «بتحويل قناة الأخبار» لإلهاء نفسه بأخرى، هروبًا من الأخبار السيئة حينما تقابله. وتكررت عليهم الأسئلة الأربعة السابقة، وصولًا إلى أن هؤلاء الذين نجحوا في التهرب من الأخبار السياسية السيئة، كانوا هم الأقل حماسًا للمشاركة تطوعًا أو تبرعًا بالمال من أجل حدث سياسي.

أي إن الاهتمام بالأحداث السياسية، قد أصاب قواهم العقلية ببعض الأذى، ولكن التهرب من متابعتها أفقدهم الحماسة للتأثير على سؤال سياسي كبير مثل «من سيحصل على ماذا؟ وكيف؟ وأين؟». أو حتى أي من الإجراءات البسيطة المرتبطة به، مثل ما الذي فعلته الحكومة التي تتولى السلطة اليوم؟

السياسيون وأُسرهم أكثر عرضة للاعتلالات!

بفعل العديد من الفعاليات والمشروعات الواجب إنجازها في وقت معين، بجانب إمكانية التعرض للاعتداء من جمهور المعارضين، فضلًا عن قواعد الظهور العام والإعلامي الواجب على أسرهم وأبنائهم الالتزام بها، يصير السياسيون أكثر عرضة لبعض الصدمات والإجهاد، وأسرهم أقل شعورًا بالراحة والانخراط العام.

ففي أعقاب أعمال الشغب التي تعرض لها البرلمان الأمريكي في يناير من عام 2021، أقر عضو الكونجرس «دانيال كيلدي» بأنه أصيب ويتلقى العلاج حاليًا من اضطراب ما بعد الصدمة «Post-Traumatic Stress Disorder»، بفِعل حالة الهلع التي عاشها لفترة حينما كان محتجرًا داخل مبنى الكونجرس، ومنبطحًا على أرضيته للاحتماء من تسلل المتمردين لجدران المبنى، ولفت إلى أنه بسبب هذه الأحداث، صار عصبيًا بشكل أكبر مقارنة بما قبل الحادث.

وأظهرت استطلاعات للرأي في بريطانيا، في عامي 2012 و2016، أن أكثر من 41% من أعضاء البرلمان يعملون أكثر من 70 ساعة أسبوعيًا، بينما 34% فقط من المديرين في قطاعات مختلفة تجاوزا الـ50 ساعة أسبوعيًا. في الوقت الذي أظهرت فيه نتائج أقدم قليلًا، بعامي 1999 و2003، أن الاضطرابات البدنية الناتجة عن التوتر النفسي والإجهاد، مثل الصداع وعسر الهضم ومشكلات النوم، يرتفع متوسطها لدى السياسيين البريطانيين مقارنة بمتوسط حالات الإصابة لفئة المديرين في وظائف بريطانية أخرى.

وبعد اطلاعها على بعض السير الذاتية والظهور الإعلامي ومقابلات مع أطفال بعض السياسيين البريطانيين، قدمت الباحثة البريطانية «إليزابيث هورين» بحثًا تضمن تحذيرًا للسياسيين في بريطانيا، بضرورة بذل مزيد من الجهد لحماية الصحة العقلية لأطفالهم، نظرًا لما ظهر على أبناء من بحثتهم من مشكلات تتصل بسلامتهم النفسية، جراء الدفع بهم أمام الكاميرات والظهور العام، ومناقشة كثير من تفاصيلهم الخاصة في السير الذاتية التي كتبها والداهم لبيعها وتحقيق أرباح.

المثال الأكثر بروزًا، هو الحادث الذي صنعته رئيسة الوزراء البريطانية السابقة «ليز تراس» بمنع ولديها «فرانسيس 16 عامًا وليبرتي 13 عامًا» من التصوير أمام مقر رئاسة الوزراء «10 Downing Street»، ما عكس وعي «تراس» بالتبعات النفسية التي قد تصيب أطفالها جراء الظهور العالم.

حينما تذهب السياسة إلى الحروب، يحضر الجنون

وفقًا للطبيب والباحث في تاريخ الطب النفسي، والمُحاضر أيضًا بجامعتي جلاسكو وايدنبرج بالمملكة المتحدة، «آلان بيفريدج»، فإن وصم –العيب على- أحدهم «بالجنون» يتم عبر طريقتين، الأولى هي «الرأي المهني»، أي أن تخضع الحالة لفحص طبي يُثبت إصابته بالمرض العقلي، وهنا لن يتورع الجمهور العادي أو أي شخص يتأذى من سلوك هذا المصاب أو انحرافاته، في وصمه «بالمجنون Mad» أو «المعتوه/المختل عقليًا Insane»، كما أن لفظ «الجنونMadness» تاريخيًا كان هو التعبير العلمي والشعبي الدارج والموازي للمصطلح الحديث «الأمراض العقلية».

والطريقة الثانية هي «الوصمة الشعبية» تجاه من اتفقت أفعاله وأفكاره مع الأفعال والأفكار السلبية التي يقدم عليها المريض العقلي، وبخاصة لو أدت لانحرافات لا يليق بفاعلها سوى وصمه «بمعتوه أو مختل عقليًا»، وهي وصمة قد يؤيدها أطباء بعد مقارنتهم هذه الأعراض بالأعراض العلمية للمرض العقلي، ولكن يظل عدم إجراء الفحص السريري للحالة، حائلًا أمام دقة التشخيص الطبي ويُحيطها كذلك بانحيازات سياسية من الأطباء الذين أيدوها.

ومن الأمثلة على الطريقة الثانية، وثّقت مقالة لـ«آلان»، اتهامات «بالجنون» من صحفيين وسياسيين موجهة إلى رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير»، بفضل قراره بشن الحرب على العراق، مؤكدين أن «بلير» مُصاب بخيالات وأوهام تصور له بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وهي السمات التي تتفق وأعراض المرض العقلي، وأوردت المقالة أربع شهادات على الأقل، لأطباء ومعالجين للصحة العقلية تؤيد إقرار «المرض العقلي» على «بلير»، وفقًا للحجج ذاتها، مطابقة تصرفاته بأعراض المرض العقلي. ودون الفحص السريري، فقد شكك «آلان» في موثوقية هذه الأراء كلها، واكتفى بوصم «بلير» «كسياسي شرير». وهي الطريقة ذاتها التي اعتمدت كتابات سياسية وطبية عليها في توجيه اتهام الجنون لشخصيات أخرى مثل «تشرشل، وكيندي وروزفلت»، بينما تأرجح أفظعهم «أدولف هتلر» ما بين وثائق لفحوص تثبت جنونه، وأخرى مبنية على تقويمه فقط.

وعلى مستويات أخرى تربط الحروب والأمراض العقلية، قدرت دراسة على الحرب العالمية الأولى، أن بعد خمسة أسابيع فقط من الحرب، أصيب 98% من المقاتلين بمجموعة من الأمراض والصدمات العقلية والعصبية، تم اقتراح مصطلح «رُهاب الحرب War Neuroses» للتعبير عنها. وقدرت دراسة أخرى لهذا العام، أنه بمراجعة مناطق الصراعات المسلحة بالعالم من عام 2005 حتى 2023، اتضح تعرض مواطنيها واللاجئين منها للاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف، مقارنة بأي فرد أخر خارج منطقة صراع مسلح.

ما بين السياسة والصحة العقلية، كيف النجاة؟

القواعد العامة للحفاظ على السلامة والرفاه العقلية قادرة على الحماية من أي أحداث تدور حولك، ولكن ثلاثة منها هي الأقرب لموضوعنا:

  1. أن تتحدث إلى من يمكنه دعمك، فليكن لديك دومًا من يمكنه سماعك وتثق في رأيه وما يمتلكه من معرفة، كي تنعما معًا بنقاشات هادئة ومطمئنة ومثمرة أيضًا.
  2. اعط شيئًا لمجتمعك، تطوع كي تقنع عقلك أنك قدمت شيئًا ما لما يجري حولك، بأي من المؤسسات الأهلية.
  3. وأخيرًا، قم بإدارة ما تتعرض له من ضغوط، فإن الحماسة الشديدة تتلف شيئًا ما فيك، والبلادة الشديدة تطفئ شيئًا آخر، ولذلك فلتهتم ولتتحمس ولتشارك إن أمكن، ولكن عليك أن تختار معاركك «Choose Your Battles».
المراجع
  1. حول ترجمة «Mental Health»: تترجم منظمة الصحة العالمية مفهوم «Mental Health» إلى العربية في بعض الأحيان إلى «الصحة العقلية» كما ورد بالمصدر السابق، وأحيان أخرى إلى «الصحة النفسية» كما في المصدر التالي: (الصحة النفسية، منظمة الصحة العالمية، تاريخ الدخول 11 مايو 2023، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/3m4ae6jf) ولكن بمقارنة التعريف نفسه في المصدرين السابقين الصادرين عن المنظمة، فهما متطابقان تمامًا، يُضاف إلى ذلك تمييز ترجمة مفهوم «Mental Health» إلى العربية عن مفهوم «Psychological Health» الذي لا يمكن ُترجمته للعربية سوى إلى «الصحة النفسية».