تقع على أسماعنا أسماء كِبار الكُتَّاب والأدباء، فيتبادر إلى ذهننا أول ما يتبادر صورة تكادُ تسمو إلى الكمال، من مهابةٍ وثقافة؛ تكريمات وجوائز، من أهمِّ الأعمال وعدد الطابعات المُباعة وإلى أي لُغاتٍ تُرجِمَت وكم لغة، ويخفى علينا تمامًا ما يحدث خلف الكواليس، تلك الكواليس التي تخفي وراءها الكثير والكثير من التيه والتخبُّطات مما قد لا يخطر على بالِ إنسان، ومما قد لا يمر به البشر الأكثر عادية وليس الأقرب منهم للكمال، تيهٌ ما بين جنة اليقين ونار الشّك، وما بين نعيم الأمل وجحيم اليأس. 

وما بين هذا وذاك، أُناس لا يكفّون عن المحاولة، أناسٌ ليسوا كأي أُناسٍ، بل أُناس قُدِّرَ لهم أن يرسموا خطىً لكثيرين تأثّروا بحروفِهم وبأحبارِ أقلامهم، أناسٌ تشابهوا في كُبرى محطّات حياتهم، ولكن اختلفوا في تفاصيل قضاء الرحلة أشدّ الاختلاف.

هُنا نتعرَّف على بعضٍ منهم، ونخوض في تفاصيل قد لا يعرفها الكثيرون عنهم؛ كيف كان إيمانهم؟ وكيف كانت نظرتهم عن الدين بل وعن الإله؟ كيف خضعوا لأهوائهم؟ وكيف خضعت أهواؤهم لهم؟

هنا، ننقل علاقة ثلاثة من أعظم أدباء العالم بالدين، كُلٍّ على حدة، بمختلف توجّهاتهم التي تتوازى بلا تقاطع، الآن نرفع الستار عن كُلٍّ من: ليو تولستوي، فيدور دوستويفسكي، وفيكتور هوجو.

عن تولستوي وفلسفته: عالم الدين واللادين

لوحة لـ «ايليا ريبين» عام 1891، ليو تولستوي في دراسته.

فارق كبير بين ما يجب أن يكون وما هو كائن بالفعل، فكما نعرف جميعًا أنه في أغلب المجتمعات لا يرتبط الإيمان بأي اختيار على الإطلاق، بل يكون الأمر عبارة عن وراثة خالصة، ولأننا لا يمكننا استبدال ما هو كائن بما يجب أن يكون؛ فما نطلق عليه نحن إيمانًا، قد يكون في رأي تولستوي لا يشبه الإيمان في شيء، لأنه مُجرَّد من أي اختيار حُر يُعبِّر عن الشخص نفسه، لا عن موروثات تناقلتها أجيالٍ بعد أجيال لم يكن له يدٍ فيها. 

تكشف لنا كتابات تولستوي عن العقل والدين والفلسفة عدة أمور خطيرة تحتاج إلى التوقف والإمعان فيها، أهمّها موقف تولستوي المُركب من الدين الذي سنَّ حوله الأنياب منذ قرَّر الإفصاح عنه؛ حيث انتقد تولستوي تفسيرات ورؤى الفلاسفة الغربيين للدين، وفنَّد الكثير منها، أو على الأقل قدَّم انتقادات جدية حول هذه التعريفات والتفسيرات الشهيرة التي اعتمدها أغلب الفلاسفة والمُفكّرين.

بحسب ترجمة يوسف نبيل لكتاب «ليف تولستوي: في الدين والعقل والفلسفة»، قسَّم تولستوي الدين- عند عامة الناس- إلى ثلاثة معانٍ: 

الأول: وهو المعنى الدارج، وفيه الإيمان المُطلق بأحد الأديان السماوية وكتابها المُقدَّس وتنفيذ كافّة تعاليمها دون جدالٍ فيها بما في ذلك من ماورائيات وغيبيات، وفقًا لهذا التفسير فإن الدين حقيقة لا تقبل الشّك ومن الضروري نشره من أجل خير الناس أجمعين.

الثاني: وهو المعنى الذي يتبناه أولئك الذين يعتبرون الدين ما هو إلا خُرافة والعبادات ما هي إلا انسياق أعمى خلف عاداتٍ انقضت وما لها من سلطان، وفقًا لهذا التفسير فإن الدين خُرافة يجب تخليص الناس منها.

الثالث: وهو المعنى الخاص بغير المُبالين بالدين، بل والذين يعتبرونه فقط أداةً فعّالة للسيطرة من قِبل الحكومات والدول على قطيعٍ جاهل من الشّعب يؤمَر فيُطاع، وفقًا لهذا التفسير فإن الدين يجب أن يبقى كوسيلة تُمكِّن الحُكّام والمثقّفين وصفوة المجتمع من الضغط على العوام باسم التشريعات والتعاليم الدينية التي تخدم في نهاية المصالح الشخصية.

وفي عُرف تولستوي، فإن الدين هو نتاج التحام العقل مع الفلسفة، فهو يؤمن بما يُرضي عقله ويجيب على تساؤلات فكره، أما عن فكرة الإيمان المُطلق الذي قد لا يضع جوابًا لكل علامة استفهام تطأ رأس تولستوي فهي غير موجودة من الأساس؛ من أجل ذلك رأت الكنيسة إلحاد تولستوي حينما رفض الاعتراف بمجمل عقائدها وبخاصة فيما هو حول ألوهية المسيح وتجسُّده والثالوث والفداء، فقد أفرغ الدين من كل شيء سوى تعاليمه الأخلاقية. 

فالدين بمعناه الحقيقي- لدى تولستوي- يتلخّص في مبادئ بسيطة للغاية كالمساواة البشر جميعًا وإخوتهم وأبوة الإله الواحد لهم، ونبذ الشر والعنف وضبط الذات، وعلى الرغم من بساطة أفكار تولستوي التي يطرحها عن الدين، فإنها لا تتطابق مع الدين الإنساني الذي دعا إليه المفكرون الإنسانيون في عصور عديدة؛ ففكر تولستوي الديني يعتمد على ثنائية: (الإله – الإنسان)، وعلى الرغم من اعترافه بمحاولات الإنسان المُمكنة للسلوك في طريق الكمال، فإنه لن يبلغ الكمال؛ لأنه طريق لا ينتهي.

الإنسان عند تولستوي ليس بديلاً عن الإله، أي أنه ملزم بتنفيذ ناموس الله، وكل منهما له مكانة في العلاقة، ولا يمكن تجاوزه عبر محاولات تأليه الإنسان التي سعى إليها الدين الإنساني؛ فالدين الإنساني- بعيدًا عن تولستوي- ديانة بلا إله، أما عند تولستوي فالأمر ليس كذلك، وينعكس هذا بشدة في تعاليمه الأخلاقية التي تحافظ على تواضع الإنسان، ولا تؤلهه على الإطلاق، واعتبر تولستوي أن العداء مع الدين له جذوره الأخلاقية في الأساس، لا الفكرية. 

ومن هذه الرؤية يمضي باحثًا عن معنى الدين الحقيقي، فلا يجده في المسيحية أو الإسلام أو البوذية أو الكونفوشيوسية، وبقية الأديان الرسمية، فهي كلها بالنسبةِ له مُجرَّد أديان، لكنها ليست «الدين»، وهي- على حدِّ تعبيره- محاولات ظهرت في أوقات وعصور مختلفة؛ استجابة لحاجة إنسانية حقيقية في إيجاد الماورائيات، ثم تدهورت في عصور أخرى لتتحول إلى عقائد منافية للعقل تعتمد على المعجزة والأسطورة ومبادئ عدم المساواة. 

كما عرض كتاب «ليف تولستوي: في الدين والعقل والفلسفة» عدة مقالات تناولت رؤية تولستوي إلى الدين، يقول في مقالة حملت عنوان «ما الدين، وأين يكمن جوهره؟»:

في كل المجتمعات الإنسانية، وفي فترات معينة من حياة تلك المجتمعات، دائمًا ما حلت بعض الأوقات انحرف فيها الدين عن معناه الحقيقي، ثم أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتى فقد الدين معناه الرئيس، وحين تحول إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة الناس يضعف أكثر فأكثر

مما يشير بوضوح إلى أن جذرية أفكار تولستوي أدت إلى صعوبة قبولها؛ فهي لا تتعامل مع الحلول الوسطية أو تستند في دعاويها على العصيان على المصالح الطبقية أو المادية، بل الدينية والأخلاقية قبل كل شيء.. إنه يدعو لعصيانٍ شامل لكل نظام يستخدم كل قواه المادية من أجل ترسيخ العنف والظلم.. إنه عصيانٌ جذري لا يمكنه أن يقبل بأي مساومات.

أومن أن تعاليم يسوع الإنسان تعبر عن إرادة الله بوضوح، ومن ثم أرفض أطروحة إلهية المسيح والصلاة له، وأعتبر ذلك أعظم تجديف
تولستوي

من ثم بشَّر تولستوي بدينٍ جديد مناسب لتطور البشرية الحالي يُحاكي دين المسيح، ولكن من دون اللاهوت والتصوُّف، دينٌ دنيوي! لتحقيق النعيم على الأرض دون النظر أو الإنكار لنعيم الآخرة، إنما بتركيزٍ مُطلق على الحياة فحسْب، والذي كان من نتائجه إعادة كتابته للأناجيل الأربعة بحيث يخلو النص من الميتافيزيقيا اللاهوتية والخوارق الإعجازية، فيصبح إنجيلًا مرشدًا للحياة الأخلاقية العملية، وفي 1902م أصدر تولستوي الإنجيل الجديد، بعنوان «الإنجيل المختصر The Gospel in Brief».

وفي 20 فبراير سنة 1901 قدّم المجمع المقدس رسالة إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين بخصوص تولستوي تحوي أن المجمع المقدس- لاهتمامه بأبناء الكنيسة الأرثوذكسية، وحفظهم من العثرات المؤدية إلى الهلاك وخلاص الضالين- قد أصدر حكمًا ضد «الكونت ليون نيكولايافتش تولستوي»، وتعاليمه الكاذبة المضادة للمسيح والكنيسة، ووجد مناسبًا لحفظ سلام الكنيسة أن ينشر ذلك الحكم في جريدة «أخبار الكنيسة» بعد أن لقّبوا تولستوي بالمُعلِّم الكاذب، لاضطهاده للمسيحية والهرطقة وتقويض أركان جوهر تعليمها المؤسس على الإيمان بالمسيح.

سرعان ما استشاطت صوفيا زوجة تولستوي غضبًا، وأرسلت إلى المجمع المقدس تُدافع عن زوجها وتتهم الكنيسة بإغلاق أبوابها في وجهه بدلًا من فتح ذراعيها إليه، فجاءها رد المطران أنطوني ينصحها فيه بلوم زوجها لا الكنيسة، وبتحميلها مسؤولية السكوت عن أقواله وأفعاله، ويحذرها من أن رجال الدين حين عرفوا بخبر مرضه تساءلوا كثيرًا حول جواز الصلاة على جثته من عدمها طبقًا لتعاليم الدين المسيحي وهو الذي أنكر وجوده، واختتم الخطاب بمواساتها على ما حلّ بها.

وأخيرًا أتى رد تولستوي الذي لم يرد به في أول الأمر على قرار المجمع المقدس، والذي لم يكن ينوي الرد عليها لولا أن بعث إليه زملاؤه من كبار الكتّاب والمشاهير يتساءلون تارّة ويتهكمون تارّة، قائلًا:

البعض منهم يوبخني على إنكاري ما لست أنكره، والبعض الآخر ينصحني بأن أومن بمن لم أترك الإيمان به، وبعضهم يوافقني على أفكاري، ولكني لا أعتقد أنه يوجد من يعتقد اعتقادي، وإن وُجد فلا يجسر أن يصرح به على رءوس الأشهاد

أوضح تولستوي في تلك الرسالة ما يؤمن به وما لا يؤمن به بأدق التفاصيل، كإنكار التثليث، والاعتراف بإله واحد روح ومحبة وأصل كل شيء بغض النظر عن فكرة الدين، والإيمان بالبعث ومبدأ الثواب والعقاب، مؤكدًا انقطاعه التام عن تتميم طقوس الكنيسة والاستغناء التام عن خُدّامها ذاكرًا أنه أوصى جميع أقاربه بعدم دعوة أحد من خدمة الكنيسة عند موته، بل يطرحون جثّته الهامدة دون صلاة تمامًا كما يطرحون أي شيء فاسد لا لزوم له، لكي لا يزعج أحدًا بموته كما أزعجهم بحياته.

دوستويفسكي: المسيح ومن بعده الطوفان 

 

يقول جورج شتاينر (George Steiner) في كتابه «تولستوي أم دوستويفسكي Tolstoy or Dostoevsky»: الشاغل الأكبر لدوستويفسكي كان سؤال «كيف نكون؟»، أما تولستوي فكان شاغله الأكبر هو سؤال «كيف نحيا؟»، ولهذا فإنه رغم اتفاقهما على كون الإنسان يحيا بالإيمان، إلا أنهما اختلفا في تصور شكل هذا الإيمان، وشكل هذه الحياة.

 ومن ثم يمكن القول، إن الفرق بين دوستويفسكي وتولستوي هو الفرق بين المسيح الأرثوذكسي بوصفه (إله- إنسان) ويسوع بوصفه معلم بشري حامل لإرادة الله، هو الفرق بين مسيح رسائل بولس وإنجيل يوحنا (الإنجيل الرابع)، ومسيح الأناجيل الثلاثة الأولى. 

على نقيض تولستوي الذي أقرّ بأخلاقيات الدين دون الدين، وأقرّ بوجود الإله دون الإقرار بألوهية المسيح، جاء دوستويفسكي الذي رفع المسيح فوق الدين، بل فوق الحقيقة ذاتها، غير مُكترث بما يقرّه الدين أو حتى بمدى اقتناعه به، هو يكترث فقط بتقديس المسيح بروحانية تفوق إيمان رجل كدوستويفسكي..

أنا ابن هذا العصر، ابن الكفر والشّك، ذلك هو حالي اليوم، وأعلم أني سأبقى كذلك حتى أموت، كم كلّفني عذاب تعطُّشي للإيمان هذا التوق الذي يتعاظم في روحي كلما وجدت مزيدًا من الحُجّة، لكن أحيانًا يهبنا الله لحظات من السكون التام، حينها أشعر بالحب يغمرني، ويغمر الآخرين من حولي، وعبر مثل هذه اللحظات شكّلت لنفسي رمزًا للإيمان، حيث كل شيء واضح ومُقدَّس بالنسبةِ لي، هذا الرمز بسيط للغاية، أن أومن بأنه لا يوجد شيء أجمل وأعمق وأرحم وأشجع وأكثر معقولية وكمالًا من المسيح، حتى أنه إذا برهن لي أحدهم على كون المسيح خارج الحقيقة، وكون المسيح ليس هو الحقيقة، فإني سأفضل حينها البقاء مع المسيح، لا الحقيقة

الحقيقة أن دوستويفسكي اعتبر المعاناة الإنسانية أولى مراحل الخلاص كما جسّدتها قصّة المسيح، فكان «دوستو» مقتنعًا أن القلب الذي يعاني هو وحده القلب القادر على خلق الإبداع، بالتالي اهتمّ دوستويفسكي بأعماق الحياة النفسية للإنسان، وبقدرة هذه الحياة على الإتيان بتصرفات شديدة التطرُّف، وقد عاش دوستويفسكي على دواخل النفس البشرية، ونجد ذلك جليًّا في مختلف أعماله أبرزهم كارامازوف الذي سمى فيها فصلًا كاملًا بالتمرُّد راح فيه يطرح تساؤلات يثور فيها على ادّعاء الأديان إرساء قيم العدل مبرهنًا على ذلك بالظلم الواقع على الأطفال مُتسائلًا مرارًا وتكرارًا: «ما ذنب الأطفال»؟

يمكن القول إن دوستويفسكي كان سيكولوجيًا عظيمًا قبل أن يكون أديبًا عبقريًا، فرواياته تنقلنا إلى أعماق وخواطر النفس البشرية قبل أن تنقلنا إلى عوالم أبطاله، حتى أن بعض النُقّاد قاموا بتصنيفه فيلسوفًا ليس فقط كأديب، وقد أرجعوا ذلك إلى فلسفته الدينية التي ترتكز على اللامعقولية المسيحية المُسيطرة على معظم أعماله، كالخاتمة في رواية «الجريمة والعقاب – Crime and Punishment» التي يُطهِّر فيها حب «سونيا – Sonya» لــ«راسكولنيكوف – Raskolnikov» من جريمته، وكأنها المسيح الذي أحيا لعازر من الموت بعد أربعة أيام من دفنه.

 تلك اللامعقولية التي وصفها الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركيغارد – Søren Kierkegaard» بأنها (تناقض)، ووصفها بولس الرسول بأنها (حماقة)، فيقول في رسالة ﻛﻮﺭﻧﺜﻮﺱ الأﻭلى [1: 18]: «فَبِشارَةُ الصَّلِيبِ حَماقَةٌ فِي نَظَرِ الهالِكِينَ، لَكِنَّها قُوَّةُ اللهِ فِي نَظَرِ الَّذِينَ يُخَلَّصُونَ».

آمن دوستويفسكي بالإنسان وحريته لأن الحرية شرط الإيمان الوجودي الحقيقي الذي يوحد ذات الإنسان، فيهتدي قلبه للتمييز بشكل صحيح للخير والشر. ومن ثم رفض الكاثوليكية البابوية أو الاشتراكية الروسية بوصفها صورًا مختلفة للتنظيم القسري الذي يختزل الإنسان، ويقيد حريته تحت مسمى إنقاذه من نفسه بهدف الوصول إلى اليوتوبيا، مثلما ظهرت في قصيدة المفتش الأكبر.

 لقد كان حلم دوستويفسكي هو أن تتحول الدولة إلى كنيسة، لا أن تتحول الكنيسة إلى دولة كحال البابوية الكاثوليكي، أي أن ينشأ مجتمع مسيحي أرثوذكسي، يكون جميع قاطنيه رهبانًا مسؤولين عن بعضهم البعض؛ فالوجود الإلهي بالنسبة لدوستويفسكي هو صمتٌ يخاطب القلب، لا لغة يدركها العقل التقليدي الذي يمتنع عليه إثبات وجود الإله أو نفيه بشكل قاطع وفق الفلسفة الكانطية.

ولكن هذا الإسقاط بل والتجليل لم يرفعا تُهم التناقض والإلحاد عن دوستويفسكي، فقد أظهر في كثيرٍ من أعماله تمرُّدًا وشكوكًا لا يخطئهما قارئٌ له، فرواياته تُعطي أسبابًا كبيرة عديدة لعدم الإيمان والمادية المطلقة التي تقود أول ما تقود إلى العدمية.

يمكن أن نجد أعظم تصور لذلك في رواية الإخوة كارامازوف في الحوار الشهير بينه وبين أخيه ظهر إيفان الحقيقي، مرة أخرى: هل إيفان ملحد؟ يفاجئ إيفان القرّاء ويُعلنها صريحةً وهو المنكر لكل حقائق الإيمان في جلسة المقاضاة الأولى، بأنه يؤمن بالله بوجود الله دون أي نقاش، لكنه يرفض أقداره ولا يفهم المغزى منها، في عبارة هي الأقرب لمنظور دوستويفسكي نفسه لا بطل روايته، فيقول لأخيه في جلسة الحوار الشهيرة: 

إنني أومن بوجود نظام كوني شامل يضفي على الحياة معنى، وأومن بانسجام أبدي علينا أن نذوب فيه جميعًا ذات يوم فيما يبدو. أومن بالكلمة التي يتجه إليها الكون الكلمة التي هي الله. ألا ترى هذا الرأي؟ ألا فاعلم إذاً الآن ختامًا لكل ما قلته إنني لا أقبل العالم على نحو ما خلقه الله، ولا أستطيع الموافقة على قبوله رغم علمي بوجوده. لست أرفض الله، ولكني أرفض العالم الذي خلقه ولا أريده

في إشارة واضحة إلى أنه لا يقبل العالم على نحو ما خلقه الله، ولا يستطيع الموافقة على قبوله رغم علمه بوجوده، أي أنه لا يرفض الله، بل يرفض العالم الذي خلقه، والطريقة التي أوجده عليها. 

فيكتور هوجو: أبو بكر الشِّعر الفرنسي

 
/ picryl

هل من قول فصل في أن رائد الشعر الفرنسي فيكتور هوجو اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين؟

يُقال في بعض الحوارات الشهيرة التي تناقلتها الصحف الفرنسية، إنه اعتنق الإسلام قبل وفاته بثلاث سنوات بل واختار لنفسه من الأسماء أبا بكر مُستندين في ذلك على نهج كثيرٍ من قصائد هوجو التي التحفت بشالٍ من روحانيات الدين الإسلامي وأهم رموزه، مما أثار كثيرًا من الريبة حول شيخ الشعراء الفرنسيين، فهل كتابة شِعر المديح في رسُل إحدى الديانات دليل على اعتناقها؟

كان الدين الإسلامي حاضرًا في مجموعات فيكتور هوجو الشعرية، وخصّه الأديب الفرنسي بثلاث قصائد، أبرزها: «العام التاسع للهجرة – L’an neuf de l’Hégire» والتي ضمنها في ملحمته الخالدة «أسطورة القرون – La Légende des siècles» كتبها في منفاه في بلجيكا بتاريخ 15 يناير 1858 وتعد من أجمل ما كتب أديب غربي عن الرسول الكريم، وتناول خصاله الجليلة وصفاته وأعماله:

كان عالي الجبين، خدّاه ملائكيّان
حاجباه غير كثيفين وعيناه عميقتان
عنقه أشبه بمحبقة زهور فضيّة
سمَتُ نوحٍ ذلك العارف بسرّ الطوفان
حاكمٌ إذا احتكمَ إليه رجلان فإنه بهيبته
يترك المُدان مُعترفًا والمتضرِّر مُطمئنًا
يصغي بصمت ولا يتكلم إلا آخر المتكلمين
لا يجري على لسانه دائمًا غير ذكر الله

تُظهر القصائد اطلاع هوجو على سيرة الرسول وصحابته وأهل بيته، وتفاصيل حياته ووفاته ووصاياه في خطبة الوداع من خلال أسلوب هوجو الشاعريّ رُغم ما فيه من خيال يظهر فيه الإجلال والمهابة للرسول والدين الإسلاميّ، وقد خصّ عمر بن الخطاب بقصيدة بعنوان: «شجرة الأرز – Le Cédre» والتي كانت أيضًا بمثابة رد على الخطابات المعادية للإسلام من تيارات الإسلاموفوبيا التي انتشرت في فرنسا وأوروبا بعد اغتيال القنصلين الفرنسي والبريطاني في 15 يونيو 1858 في جدة (المملكة العربية السعودية) خلال مذبحة راح ضحيتها ثلاثة وعشرون شخصًا.

ألقى الرأي العام في ذلك الوقت باللوم على المسلمين في هذا الحدث المأساوي، وبصورةٍ أعمّ، كان يُنظر إلى الإسلام في أوروبا على أنه مصدر تعصب ومصدر دافع لهؤلاء الإرهابيين، ومع ذلك كانت بعض الأصوات بالفعل تحتج على هذا الخطاب المعادي للإسلام، وكان القلم العظيم والشهير لفيكتور هوجو واحدًا منهم.

تعامل الشاعر في القصيدة السالف ذكرها مع الإسلام من منظور إنساني عالمي؛ بهدف التأكيد أن معارضة الإسلام للمسيحية تتعارض مع قوانين الطبيعة والتاريخ. فيقوم هوجو في هذه القصيدة ببناء حوارين صوفيين بين القديس يوحنا الإنجيلي والخليفة عُمر، وأيضًا بين مدينة جدّة ذات البُعد الرمزي بالنسبةِ للإسلامِ والمُسلمين وحتى الأساطير التي اعتقدت بوجود قبر حواء هناك قبل تدميره عام 1928، وبلدة اليونان التي ترمز هنا إلى مهد الحضارة الأوروبية. 

هذا الاهتمام برموز الدين الإسلامي جعل الاعتقاد يروّج بأن فيكتور هوجو قد اعتنق الإسلام، بخاصة وأن مواقفه من الكنيسة لم تكن بالإيجابية المطلوبة؛ فمثلًا عندما توفي ابنا هوغو «تشارلز وفرانسوا فيكتور – Charles and François Victor»، أصر على دفنهما دون صليب أو كاهن، وأوصى بالشيء نفسه في وفاته وجنازته.

ومع ذلك كان يؤمن بالحياة بعد الموت، بل ويصلي- تمامًا كمسيحيّ ملتزمٍ- كل صباح ومساء، مقتنعًا كما كتب في «الرجل الضاحك – Man who laughs»: «صلاتك تعرف طريقها أفضل منك»؛ فهوجو لم يكن مهتمًا بماهية الدين قدر اهتمامه بالدين كفكرة، وعُرِف عنه تضاد مواقفه من الأديان وعدم الإفصاح الصريح عنها في إبهامٍ غريب غير معروف سببه إلى الآن، ولكن يمكننا القول إنه وضع لنا بعض الإشارات بين الأقواس في كتاباته وأدبه، يحدد هوجو فيها بعض معتقداته الدينية وأفكاره حول طرق العبادة، فمثلًا راح يكشف عن إيمانه الراسخ بالمكانة التي يحتلها الدين على مدار العصور، مُعتقدًا أن الدين- أي دين- هو جانب مهم من جوانب الإنسانية. 

يتضح هذا جليًّا في كيفية تصوير الشخصيات ذات المُثُل الدينية كالأساقفة على سبيلِ المثال في «البؤساء – Les Misérables» في هيئة يغلب عليها الاستقامة واللطف والإخلاص المتناهي، في مثالٍ على احترام هوجو للدين ورموزه. لكن على الرغم من هذا الاحترام، فقد عُرِفَ عن هوجو كراهيته الشديدة للأديرة بعد أن وصفهم بأنهم آفة على المجتمع، رُغم إقراره بعظمة مكانتهم في التاريخ، لكنهم-وفقًا لهوجو- قد تجاوزوا فائدتهم.. ولكن.. هل تمرُّد هوجو على الكنيسة بالتوازي مع مدحه لبعضٍ من الرموز الإسلامية يعني اعتناقه الإسلام؟

الحقيقة أن ما من أحدٍ يملك عين اليقين ليُجيبنا على هذا السؤال، فالإيمان هو ما ثَبُت في القلبِ واستقرّ، والقلوبُ- شئت أم أبيت- لا يرى ما فيها سوى بارئها، مهما استندت إلى أدلّةٍ وبراهين، فهي لن تكفي أبدًا على البرهنة بإيمان شخصٍ من عدمه، ما يسعنا فقط هو التفكُّر فيما آلت إليه أحوال كثيرين مما ظننا أن أحوالهم لا تؤول إلا إلى حقولٍ افتُرِشَت بالأزهارِ والثمار، بل إن في أحيانٍ كثيرة ساقتهم أقلامهم وأقدارهم إلى غاباتٍ ملؤها الشوك عن آخرها، ليذهبوا ويتركوا خلفهم سيل عرم من القيل والقال، لن ينتهي أبدًا.