تجلس في منزلك بأمان، وتشاهد حلقة من المسلسلة الشهير Breaking Bad على شبكة NetFlix الشهيرة، ثم قمت بعدها باستخدام جوجل في البحث عن معلومات عن بطل المسلسل براين كرنستون، وقمت بزيارة صفحته الرسمية على الفيسبوك واشتركت بها وتابعته أيضا على تويتر. كل هذا وأكثر تم تسجيله في ذاكرة تلك المواقع، وكل تلك البيانات تم تقديمها على طبق من ذهب لشركات الإعلانات، والتي ستقوم برمجياتها بتحليلها ومن ثم تعرض لك على مختلف المواقع إعلانات موجهة تتوقع ما قد ترغب في شرائه أو مشاهدته بعد أن شاهدت المسلسل؛ حلقة أخرى، مسلسل آخر لنفس الأبطال، عطر مستخدم في المسلسل، ماركة ملابس الأبطال، أي شيء آخر يمكن أن تقوم بدفع أموال فيه بينما لا تريده، بل تُدفع دفعا لشرائه عبر توجيهك بعد استغلال بياناتك.

فأنت تظن أنك تستخدم الويب، وتستفيد، وتتواصل مع الآخرين، بدون أن تدفع مالا بشكل مباشر مقابل الخدمات. بينما تقوم الشركات باستغلال نمط استخدامك وبياناتك وتعاملاتك لتوجيه أفكارك وصياغة إعلانات أكثر جاذبية تربح من ورائها المليارات. لكن، ليت الأمر بهذه البساطة فقط، فالمعركة أكبر مما تعتقد. فهناك صراع دائم بين كبرى الشركات على سوق إعلانات الويب. صراع يهدف فقط لاستنزاف أموالك بشكل غير مباشر، حتى وإن كان يبدو لك ظاهريا أنه لصالحك. صراع يذكرنا بقصة الرواية الأشهر لـ “جورج أوريل” التي ثبّت فيها النظام الديكتاتوريي “شاشة رصد” في بيوت ومقاهي وشوارع كل المواطنين ترصد خطواتهم بل وخطراتهم، وتعرف كل شيء عنهم، تظهر صورة الديكتاتور عليها مبتسما يقول لك: الأخ الأكبر يراقبك.


بين أبل وجوجل وأمازون

يحتدم الصراع على أشده بين هؤلاء العمالقة الثلاثة على عرش وادي السيليكون، مقر أكبر الشركات التقنية العالمية. وهو صراع على أموال المستخدم لكنه في طبيعة الأمر صراع غير حقيقي، فالشركات التقنية العملاقة لا تستطيع الاستغناء عن خدمات بعضها البعض. يمكنهم فقط التنافس على أخذ المبلغ الأضخم من جيب المستخدم. وفي هذا نجد أن أبل هي الأسوأ بالفعل. فعلى الرغم من سماحها للشركات الأخرى بتطوير ونشر تطبيقاتها على نظام هواتفها المغلق والمقيد، إلا أنها تقوم بتقييد صلاحيات وإمكانيات تلك التطبيقات بشكل مبالغ فيه. فلا يمكنك مثلا شراء الأفلام والكتب والموسيقى من تطبيقات أمازون وتطبيقات جوجل، وذلك بالطبع بهدف إجبار المستخدم للشراء من متاجر وتطبيقات أبل حصريا، أو إجبار الشركات على مشاركة جزء من أرباح تلك المنتجات مع أبل للسماح ببيعها مباشرة، وهو ما رفضته جوجل وأمازون.

ولا يقف الصراع هنا، فقد قامت أبل مؤخرا في النسخة التاسعة من نظام نشغيل هواتفها iOS9 بإدراج خاصية منع الإعلانات في قلب المتصفح الرئيسي، وذلك بحجة تقديم تجربة ويب متناسبة مع قيمة ومعايير الشركة. بينما حقيقة الأمر تقول أن الهدف الرئيسي من الخاصية هو منع إعلانات جوجل. وتعتبر هذه ضربة حقيقية لسوق إعلانات جوجل والتي تبلغ أرباحها من الإعلانات على أجهزة أبل نسبة 75% من أرباح الإعلان على الأجهزة المحمولة.


منع الإعلانات وصراع المتصفحات

نأتي الآن للصراع الآخر، الصراع بين المستخدم العادي ومقدم الإعلان، الصراع المتمثل في تطبيقات منع الإعلانات، والتي أصبحت منتشرة على كل المنصات والمتصفحات بلا استثناء. وتطبيقات منع الإعلانات هي برمجيات بسيطة أنتجها مبرمجون بتقنيات مفتوحة المصدر بهدف مساعدة المستخدم النهائي على التخلص من هيمنة الإعلانات على تجربة استخدامه للويب. وتنتشر تلك التطبيقات كإضافات على المتصفحات وتطبيقات على أسواق برامج المنصات المختلفة كـ google play و app store.

تسبب تطبيقات منع الإعلانات إزعاجا رهيبا للشركات المقدمة للإعلانات بالطبع. فتقوم في أغلب الوقت بإزالة تلك التطبيقات من المتاجر الرسمية كما تقوم بتعديلات في برمجيات وخوارزميات الإعلانات لتستطيع الإفلات منها. لكن، لا يمل المطورون من تحديث وبرمجة تطبيقات جديدة تتماشى مع تحديات شركات الإعلانات. ومن أشهر تلك التطبيقات Ad-Block و ublock، والتي يمكنك أن تجدها بسهولة في إضافات أي متصفح واستخدامها لإلغاء الإعلانات تماما. لكن، هل هذا هو الحل؟


الأثر الحقيقي لإعلانات الويب

حسنا، الشركات تعرض عليك إعلانات لا ترغب فيها وفي ذلك تعتدٍ على خصوصيتك واستغلالها بطريقة لا أخلاقية، وهذا سيء لك. لكن، حقيقة الأمر أعمق من ذلك بكثير.

تضمن منظومة إعلانات الويب الحالية استمرار الويب، حيث يعتمد عليها صناع المحتوى كمصدر دخل أساسي بشكل لا يمكن الاستغناء عنه. فأغلب المواقع والخدمات ومصادر الأخبار والتطبيقات وألعاب الويب ومنتجي الموسيقى الحرة وأصحاب المدونات ومنتجي الفيديو يعتمدون اعتمادا أساسيا على الربح من عرض الإعلانات مصاحبة لخدماتهم، حيث يستفيد المستخدم من الخدمة بشكل مجاني كما يرى الإعلان ويتفاعل معه فتستمر المنظومة في العمل ويستمر مقدمو المحتوى في الربح وتقديم خدماتهم.

ولهذا فقد سببت تطبيقات منع الإعلانات، كما الحرب بين الشركات التقنية، الكثير من الخسائر لمقدمي المحتوى، مما دفع الكثيرين منهم لحجب المحتوى إذا رصد الموقع أي برمجيات تمنع الإعلانات، مصدر دخلهم الوحيد. وعرض رسائل للمستخدم تطلب منه إيقافها. كما لجأ البعض بديلا عن ذلك إلى طلب التبرع بشكل ودي مباشر من المستخدمين لضمان استمراره في تقديم المحتوى المفيد له.

لكن، يذهب البعض بالقول إلى أن منع الإعلانات عن طريق المستخدم يخدم صانع المحتوى، فكيف ذلك؟ يقول أصحاب هذا الرأي أن المستخدم المتقدم المدرك لوظيفة الإعلانات، وصاحب القرار المسبق بأنه لن يتفاعل معها، من الأفضل له منعها تماما بالفعل. وبهذا تصبح احتمالية تفاعل المستخدمين الآخرين على الاعلانات أكبر، وربما يزيد الربح أيضا من وراء ذلك. هذه هي وجهة نظر أصحاب المواقع والخدمات ومقدمي المحتوى على الإنترنت. فماذا عن المستخدم النهائي؟


هل يمكننا ضبط الخصوصية الخاصة بنا؟

إعلانات الويب واقع فُرض علينا جميعا طالما ارتضينا استخدام الإنترنت، وهو الذي ليس له بديل ولا يمكن الاستغناء عنه بأي حال الآن. ولهذا يجب علينا كمستخدمين نهائيين لخدمات الويب محاولة التعامل مع هذا الواقع. يبدأ الأمر بضرورة ضبط إعدادات الخصوصية قدر الإمكان في مختلف الشبكات الاجتماعية، محاولةً لضمان أدنى تسرب للمعلومات، وكذلك عدم القيام بعرض بيانات واضحة شاملة لكل التفاصيل الحياتية على الشبكات الاجتماعية. وتوفر شبكات كجوجل والفيسبوك خيارات متقدمة لحماية الخصوصية وعدم حفظ البيانات الشخصية وأماكن الزيارات ومدخلات البحث، بل ومنع التتبع بغرض التوجيه الإعلاني للمستخدم. لكن، لا نضمن أن يكون كل هذا حقيقي، فقط علينا أن نضبطه ونأخذ الحذر قدر الإمكان.

وللأسف، فلا تعتقد أنه يمكنك أن تهرب من تلك المنظومة أو تحمي بياناتك بشكل حقيقي كامل، بقاء تلك الشركات واستمرار خدماتها، وأيضا استمرار مقدمي المحتوى في العمل، يعتمد اعتمادا تاما على الإعلانات، وعلى جذب المستخدم وتوجيهه للدفع بنفس حمقاء راضية.

المراجع
  1. Ad Blocking and the Future of the Web
  2. Welcome to hell: Apple vs. Google vs. Facebook and the slow death of the web