تراوحت المفاهيم الغربية عن الإله، من الصانع المتعالي الظاهر عن العاَلم عند أرسطو، إلى وحدة الوجود عند إسبينوزا. إلا أنه قد غلب على الفكر الغربي النزعة التأليهية؛ وهي الاعتقاد بوجود إله خالق مدبر للعالم، لا حدود لعلمه ولا لقدرته. وتتداخل المفاهيم المتعلقة بالله في الفلسفة مع ما يناظرها في الدين، مثل: طبيعة الصفات الإلهية وكيفية التعرف عليها، والعلاقة بين المعرفة والمنطق، والعلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان.

في كتابه «المفاهيم الغربية عن الله» الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات، ترجمة محمد سيد سلامة، يناقش الكاتب براين مورلي تلك المفاهيم ومصادرها التي تتراوح بين التجربة الدينية، الوحي، العقل. وقد خلق هذا تنوعًا في المفاهيم عن الإله. أما الوحي، قد يكون تجارب داخلية قابلة للوصف أو غير قابلة للوصف كما عند الصوفية. وعادة ما ينظر إلى من يسلمون لسلطة الوحي أنهم أكثر المصادر دقة وتفصيلًا للمفاهيم الإلهية.

ولكن كيف تطورت هذه الأفكار عبر التاريخ، كيف كان ينظر البشر عبر التاريخ إلى الله، ما صفاته، حدوده، طبيعته؟ هذا ما سنعرضه هنا.

تطور فكرة «الله» في العصور القديمة

اليونانيون

سعى اليونانيون لفهم الطبيعة الحقيقية للكون وأحداثه المتغيرة والثابتة؛ فقد التمس الفيثاغوريون النظام والثبات في الرياضيات، وأضفوا عليها طابعًا دينيًا. يرى أفلاطون أن الله هو الكائن الأعلى المتسامي ذو الكمال المطلق، قد وهب العالمَ النظام والغاية. أما أرسطو، فقد جعل الله هو الفاعل السلبيُّ لما يحدث من تغيير في العالم، حيث تتحرك كل الأشياء سعيًا للكمال الإلهي، والله هو الكائن الأعلى.

الفكر المسيحي المبكر

رفض المسيحيون الأوائل الديانة اليونانية باعتبارها ديانة تحمل تصوراتٍ لا تليق بالله. وأن المسيحية والتي تعتبر ديانة توحيدية، ترى أن الله خلق العالم من العدم. وهنا ذهب أوغسطين إلى أن الله عالم بكل شيء وقادر على كل شيء، وعلى الرغم من الصفات المتعددة، فإن الله بسيط على نحو فريٍد، وفي نهاية الأمر، أكَّد أغسطين أن الله يحيا في الأعلى وهو الأقوى والأقوم والأخير، وبينما يرى أرسطو أن الموجود الأعظم يجب أن لا يعي سوى نفسه فقط، أما الرؤية المسيحية المعاكسة ترى أن الله يحب مخلوقاته حبَّا عظيمًا إلى درجة أنه تجسَّد في المسيح.

الفلسفة الإسلامية

ذهب الفارابي وهو الأفلاطوني المحدِّث الإسلامي، إلى أن الكليات تكون في الأشياء، وأنها لا توجد منفردة عن الجزئيات، وأن الأشياء ممكنة من حيث الوجود والعدم، وعليه فلا بد أن يكون الله موجوداً لأنه الأساس لوجود جميع الأشياء، ومن خلاله تتولد المعرفة في البشر. وفرق ابن سينا بين الله واجب الوجود والموجودات الأخرى؛ فالله يجب أن يكون أزليًّا وبسيطًا بلا كثرة.

أما الغزالي، فيرى أن الحواس والعقل عُرْضَةٌ للخطأ، وبالتالي لا سبيل إلى الحقيقة إلا من خلال الوجود الإلهي، ومنها ذهب إلى أن العالم يوجد فقط بمشيئة الله وحده؛ فلا يمكن أن يكون العالم مستقلًّا بذاته.

ونذهب لمفهوم آخر عن الله قال به ابن رشد، فقد أضاف أن العقل الكلي يصدر من الله، ويتشارك البشر في هذا العقل الكلي، وأن عقول العوام تفهم الرموز الدينية بطريقة حرفية، وهذا ما يؤدي إلى فهم شيء على أنه صوابٌ فلسفيًّا في الوقت الذي يكون فيه غير صحيح من الناحية اللاهوتية، والعكسُ بالعكس.

فكر عصر النهضة

لم يَعُدِ الإيمان يستند على العقل، ولم يعد العقل يخضع لإشراف الإيمان، وشكَّل هذا التطور مفهوم الله ومفهوم الأولوهية؛ فإذا كان البشر لا يمكنهم الوصول إلى الله دون مساعدة، فالله إِذَنْ هو الذي يجب عليه أن يختار بعضًا ليكونوا معه على الحق. وهذا ما فتح الباب لأسئلة لاهوتية وفلسفية جديدة بخصوص علاقة بين الإنسان والإرادة الإلهية: فكيف يمكن أن يكون الناس أحرارًا ومسؤولين عن أفعالهم، إذا كان القدر في نهاية المطاف يحدد المصير؟

وقد أجاب جون كالفن، أحد رواد الإصلاح الديني، بأن هناك فرقاً بين إرادة الله القابلة للمقاومة وإرادته غير القابلة للمقاومة؛ والمراد هنا أن الأخيرة تكون من الخيارات الإنسانية التي أذن بها دون أن تتعارض مع إرادته الكاملة، كما أكد ذلك مارتن لوثر موضّحًا أنه توجب على الله أن يتجلى ويفصح عن نفسه من خلال الوحي والفعل، ويجب على الإنسان أن يقاوم إغراء تجاوز حدود ما أوحي إلينا، خاصة أن الله لم يُوح إلا بما نحن في حاجة إلى معرفته فقط، ولم يوُح إلينا بكل ما نودُّ معرفته.

تطور فكرة «الله» في العصور الحديثة

فكر عصر التنوير

بدأت الفلسفة تنفصل عن الدين؛ حيث تحرك كل منهما في اتجاه معاكس للآخر فيما يتعلق بالعقل؛ باعتباره المصدر الرئيس للمعرفة. كما تصاعدت النزعة الربوبية: وهي التصور الذي يرى أن العقل وحده ودون أن يكون في حاجة إلى وحي أو إلهام قادر على الوصول إلى المبادئ الأساسية الصحيحة بين الدين والأخلاق.

أما ديكارت فقد سعى إلى تأسيس كل المعارف على أرضيِة لا يمكنه الشك فيها، وهي أنه كائن مفكر، ويتوقف نجاح منهجه بصورةِ أساسية على خيرية الله، وقدرة الله المطلقة تستلزم أن الله قادرٌ على كل شيء بما في ذلك المستحيل العقلي. أما جون لوك فذهب إلى أن الوحْي يوحي لنا عن الله ما لا يمكن معرفُته استقلالًا بالعقل وحده.

ورأى إسبينوزا أن الفلسفة يجب أن تبدأ من الله، لا من النفس؛ ذلك لأن الله هو الأول في ترتيب الأشياء، ولا يمكن أن يوجد إلا كل واحد أو جوهر واحد للأشياء، وليست هناك حاجة لإثبات وجود الله فوق الحاجة لإثبات وجود الجوهر الواحد. فالله، بالنسبة إلى إسبينوزا ليس هو العلة الخارجية الموجودة للعالم، ولكنه مع ذلك العلة الدائمة الذاتية للعالم.

الفلسفة الحديثة

رفض كانط أن تكون المعرفة التجريبية طريقًا لمعرفة الله، بل أكَّد أن الله لا يمكن البرهنةُ على وجوده على الإطلاق، ولا يمكن أيضًا إثبات عدم وجوده، بينما اعتبر هيجل فكرة الله أمْرًا محيرًا بالنسبة إلى عقليتنا، فإن الله بالنسبة إلى هيجل هو جوهر العقلانية، وعلى هذا النحو، فإن أصل بنية ذلك العقل (أو الروح) قابل لأن يُعرف. لقد تحدى هيجل الآراء التي كانت سائدة منذ أرسطو، وهي أن الله والحقيقة لا يتغيرانِ، وأن المنطق يتعامل مع الثنائيات بمعزل عن بعضها.

أما شوبنهاور فقد قال: بإمكان معرفة الشيء في ذاته والشيء في ذاته هو الإدارة. لقد رفض شوبنهاور الاعتقاد التفاؤلي لهيجل بخصوص انتصار العقلانية في نهاية المطاف. وقال فيورباخ: «إن الناس هم الذين خلقوا مفهوم الله وفرضوه على الواقع». وجعل كارل ماركس الدين شيئًا مختلفًا وأداة للقمع (أفيون الشعوب)، فالناس عنده خلقوا الدين ليواجهوا به المعاناة الناجمة عن عدم المساواة في المجتمع.

أما نيتشه، فقد رفض الإيمان بالله لضعفه وعدم قابليته للبرهنة، ورأى أن عصره يشهد موت الإله كقوة ثقافية، ومع ذلك فإنه لم يعتقد أن الله مات بمعنى أنه كان موجودًا من قبل ثم توقف عن الوجود، ولكن بمعنى أن المجتمع الحديث اعتبر فكرة الله غير ضرورية. واعتبر فرويد الله إسقاطًا للعقل، نتاجًا للتفكير الرغبائي؛ فقد وَجَدَ العقل أنه من الأسهل في التعامل مع العالم أن يضفي عليه صفات بشرية.

ومن خلال ما سبق نرى أن فيورباخ، ماركس، نيتشه وفرويد وغيرهم، لم يحاولوا أن يدحضوا الاعتقاد بالله دحضًا عقليًّا، بل سعوْا بدلًا من ذلك، لبيان الأصول والدوافع الشخصية للمؤمنين.

ما صفات الله؟

اللاجسمية

تعني اللاجسمية أن الله لا جسم، أي غير متكون مما ينتمي إلى عالم المادة المحسوسة لنا، وهذه عقيدة مركزية في الديانات التوحيدية، ويعتبر الاعتقاد المسيحي في التجسُّد حالة فريدة؛ حيث يتخد الله صورة بشرية في شخص المسيح. وبناء على ذلك لا يمكن أن يكون الله جسمًا؛ لأن ذلك من شأنه أن يحول بينه وبين كونه أزليًّا لا يتغير.

البساطة

تعني أن الله بلا أجزاء أو تمايزات حقيقية، بناء على ذلك اعتبر أفلوطين (فيلسوف مصري هلنستي توفي سنة 270م) أن الله لا صفة له.

الوحدانية

تؤكد الأديان التوحيدية أنه لا إله إلا إله واحد، وتضيف المسيحية لهذا المفهوم أن ثمة ثلاثة أقانيم متمايزة في إله واحد، أي أن الله جوهر واحد في ثلاثة أشخاص.

السرمدية

تحدث مؤلفو الكتاب المقدس عن تذكُّر الله للماضي، وعلمه بالمستقبل، وفعله في الحاضر، الله وفْقًا للفكر المسيحي المبكر موجود للأبد بلا بداية ولا نهاية، فالله لا وقْتيٌّ بمعنى أن كل شيء بالنسبة إليه متزامن، فلا يوجد ماٍض ولا حاضر ولا مستقبل، وتشمل الحجج المؤيدة لهذه القضية: أن اللازمانية تجعل الله أكثر تعاليًا.

عدم التغير (الثبات الإلهي)

أولئك الذين ذهبوا إلى أن الله خارج الزمان يمكنهم أن يقولوا: إن الله لا يمكن أن يتغير؛ لأن أي تغير لا بد أن يقع في الزمان.

العلم الشامل

إن الله عالم بكل شيء، وإذا كان الله بالأمس يعلم علمًا غير قابل للتخطئة أني سأفعل (ج) اليوم؛ فليس لديَّ بديل سوى أن أفعل (ج). يبدو ذلك نفيًا لحرية الإرادة الإنسانية، ولحل هذه المشكلة لجأ الفيلسوف المسيحي توما الأكويني إلى فكرة لا زمانية الله التي تقتضي أن علم الله لا يوصف بماضٍ ولا مستقبل.

عدم الشعور

هناك العديد من التصورات المختلفة حول إمكانية أن يتأثر الله بمؤثر خارج عن ذاته، أما أرسطو فخَلُصَ إلى أن الله لا يمكن أن يتأثر بأي شيء خارج ذاته، وإن الله لا يستغرق في المشاعر، ولكن في الفكر.

الخيرية

فرق توما الأكويني بين نظام ما هو كائن ونظام المعرفة، فكلُّ الخير يأتي من الله لكننا نفهم الخير الإلهي من خلال استقراء الخير في المخلوقات، وهذا يتطلب تشابه بين الخير الإلهي والخير الإنساني.

رؤية توماس موريس ومنطق تجسيد الله في المسيحية

قدّم موريس أهم معالجة فلسفية حديثة للكريستولوجيا (فرع في اللاهوت لدراسة طبيعة المسيح وشخصيته) دافع فيها عن المبدأ الذي تؤمن به المسيحية الأرثوذكسية القائل بأن «يسوع» كان واحدًا، وكان نفس الشخص الابن، والشخص الثاني في الثالوث الإلهي.

وتقوم حجة موريس الدفاعية على مرحلتين: المرحلة الأولى، سعى فيها لتأسيس الإمكان المنطقي العام لوجود موجود يمتلك مجموعتين من الخصائص إحداهما أعلى أنطولوجيًا من الأخرى؛ والمرحلة الثانية، وسعى فيها لبيان أنه ليس سبباً منطقياً لرفض توافق الخصائص الإلهية والبشرية المختلفة في يسوع.