حسن أزاد: باحث دكتوراه الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا.
حسن أزاد: باحث دكتوراه الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا.

ما الذي تشترك فيه جماعات مثل بوكو حرام وطالبان والدولة الإسلامية؟ التطرف؟ الخلافوية؟ العنف؟ كل هذه الأشياء بالكاد عرضية لهذه الجماعات. إن ما هو أساسي فيها؛ أنها جميعًا تشكيلاتٌ حديثة تماما. وبالنظر إلى ميلها إلى إثارة دهشتنا بتضادّها مع الحداثة، فما الذي أعنيه بقولي هذا؟

قبل كل شيء، إنه لمن المهمّ أن نسأل أنفسنا ما الذي نفهمه من الحداثة؟ نحن نفترض أن الحداثة تعني العقل والعلم والحرية والعدالة والمساواة بين الأجناس والأنواع والأعراق المختلفة. وما هذه إلا محض تهيؤات؛ فهي لا تعدو كونها مُثُلًا أسقطها خطاب غربي حادّ اللهجة، حيثُ يُرى الغرب كخالها ومزود بها سلفا.

إن حجتي تقوم على ركيزتين أساسيتين للنقاش: أولا: إعادة التشكيل الكولونيالية لمؤسسة الشريعة، وثانيا: الظروف الملازمة للدولة الحديثة.

ولربما سيدهش القارئ/ـة كما لو كان غريبا بعض الشيء إن قلت أن هذه المثل هي أبعد من أن تكون محققة في الغرب نفسه. بأن هنالك لا مساواة هائلة بين الأجناس والأنواع والأعراق في الغرب، وبأن الحرية الغربية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو استهلاكية تأتي على حساب حريات شعوب تعيش في بلدان غير غربية.

وبأن هذا الشح في الحرية يجري ببعد وعمق يمتدان حتى زمن أعيد فيه تصميم طريقة تفكير الناس ألا وهو الكولونيالية (الحقبة الاستعمارية). على سبيل المثال، فإن أي دراسة جادة لتاريخ الكولونيالية ومشاريعها التعليمية في البلاد المستعمَرة ستكشف المدى الذي وصلت إليه أوروبا في إعادة تشكيل أساليب استكشاف المعرفة للسكان الأصليين بأسلوبها الخاصّ في التفكير، وهو نمط تفكير تمتد جذوره حتى عصر التنوير، بأساليبه التمييزية الخاصة في الاستدلال.

هذا الاستدلال -الذي تشوبه تناقضات وتضاربات داخلية- فُرض على بقية العالم كسردية هيمنة (صاغها الفيسلوف الفرنسي ميشيل فوكو) يُقاس عليها مدى عقلانية بقية العالم.

لكن ما علاقة هذا كله بعنف الجماعات آنفة الذكر؟ مما لا شك فيه أن العنف عنف؛ أم أنني بالتأكيد لا أجادل لأجل فهم نسبي لما يسوّغ الخطأ والصواب باسم منطق تمييزي؟

إن حجتي تقوم على ركيزتين أساسيتين للنقاش، ينبغي تناولهما بحذر. أولا: إعادة التشكيل الكولونيالية لمؤسسة الشريعة، وثانيا: الظروف الملازمة للدولة الحديثة.


مؤسسة الشريعة التاريخية

وصف وائل حلاق، مؤرخ الشريعة المرموق، ربما بدقةٍ، التغييرات بعيدة المدى التي أحدثتها الكولونيالية على مؤسسة الشريعة التاريخية، وهي مؤسسة كانت متجذرة جوهريا في وجدان الناس وكانت إيتيقية/أخلاقية بعمق بطبيعتها.

لم تكن الشريعة الإسلامية التاريخية ذات طابع عقابي؛ ومن المهم تقدير تاريخ الشريعة لأن جهود الجماعات الحديثة لتأسيس دولة إسلامية تدور حول تنفيذ الشريعة. من هنا، فإن الكثير من عنفها قد يرجع إلى فهمها لمصاحبات الشريعة، في كل من الوقت الحاضر وتحت كنف الدولة الإسلامية الحُلم.

لقد كانت غاية شريعة ما قبل الحداثة تحقيق التماسك المجتمعي، بواسطة قضاة محليين لم يكونوا تابعين للدولة بأي حال، من خلال توسطهم بين، ومن أجل، الأطراف المتنازعة. وفي أزمنة ما قبل الحداثة، فإن العقوبات التي يشترط بدهيا ارتباطها بالشريعة، بالكاد كانت تنفذ، هذا إن كانت تنفذ على الإطلاق.

لكي أكرر، فالشريعة كانت مؤسسة أخلاقية بشكل أساسي، وكان هدفها المحوري الحفاظ على الانسجام الاجتماعي وكانت تقوم على تقوية أواصر المحبة والثقة بين المجتمعات ابتغاء وجه الله.

إذن ما الذي نشهده اليوم؟

نتيجة للتفكيك الكولونيالي لمؤسسات الشريعة التاريخية، والتي شملت الوقف والمدارس الدينية، واستبدالها برموز قانونية أوروبية، توقف تدارس الشريعة وممارستها بالطريقة التي كانت عليها طوال قرون مضت.

تخيلوا الطب وهو يحاول أن يؤدي وظيفته دون الاستثمار بمليارات الدولارات في مجال البحث العلمي؛ فضلا عن مؤسسات الأطباء والممرضات والمستشفيات، التي تعمل على مستويات مختلفة بطواقم مئات آلاف النساء والرجال الذين يجري تدريبهم بمنطق ومنهجية الطب الحديثين كلَّ سنة. دون كل هذا، ستتقلص المؤسسة الطبية الحديثة بحيث لا تكون أكثر من مجرد دجل على الناس؛ فما الذي يتبقى من مؤسسة الشريعة حينئذ؟

وبالإضافة إلى تفكيك المؤسسات المالية التي دعمت دراسة ورعاية الشريعة، كأي فرع من فروع المعرفة، فإن التقليد الذي كان لدى المسلمين متمثلا بإرسال ألمع أبنائهم إلى المدرسة الدينية، كي يصبحوا علماء مسلمين شرعيين، قد صار في طي النسيان.

ومع أن المسألة هنا ليست في أن كل من يتعلمون الشريعة في الوقت الحالي بلداء؛ إلا أن التاريخ الطويل للانخراط الفكري الجادّ من قبل أناس واسعي الحيلة بحقّ، قد تأثر بالإزاحة الكولونيالية للتعليم التقليدي بالتعليم الغربي الحديث. من هُنا باتت الألمعية مضربا للمثل في العالم الإسلامي إن تعلّم أولئك الطب والهندسة فقط. وللمصادفة، يبدو أن حصة كبيرة ممن كان لهم أن يصبحوا إسلاميين لديهم شهادات في الهندسة.


الشريعة والدولة الحديثة

لقد باتت الدولة الحديثة أشد الدول تطبيعا وطبيعية للتشكيلات السياسية، ومع ذلك فإنها بالكاد تتضمن شيئا من الطبيعية والحتمية فيها. فقد نجمت هذه الدولة عن كتلة من الأحداث التاريخية في أوروبا، ليس أقلها دبلوماسية القوى الأوروبية في تنافسها على الثروة في المستعمرات. وكما قال وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة، إن الدولة الحديثة لها خصائص شكل، كمركزية القانون بوصفه أحد أكثر الجوانب بالغة التأثير.

حينما يعاد تشكيل الشريعة وفق منطق الدولة الحديثة -تذكروا أن الشريعة لم تكن أبدًا مركزية في أوقات ما قبل الحداثة- فإنها تتبع عندئذ منطق مقاس واحد للجميع. وتحت شروط الدولة الحديثة، يصبح تفكير الناس في الشريعة على أنها مجرد محظورات ومباحات، وأكثر ما يهمّ؛ تفكيرهم في العقابيات.

تصبح الشريعة نظاما عقابيا حيث ينال الناس أشد العقوبات تطرفا، أو يُحلم بأن ينالها الناس بشكل جماعي دون أي حس بالتفريق أو السياقية، كما كان الحال في شريعة ما قبل الحداثة، وهذا صحيح سواء كان القانون منفذا من قبل أجهزة الدولة المتطورة في بلدان كالسعودية وإيران وبروناي أو من قبل جماعات كالدولة الإسلامية (في وقت كتابة المقال كان الدولة الإسلامية لا يزال جماعة) وبوكو حرام وطالبان الذين يستخدمون أسلوبا أشد تخصيصا.

ولهذا السبب يجادل حلاق بأن الدولة الإسلامية عبارة عن تناقض في المصطلحات. فنظام إسلامي، بما تمثله شريعة ما قبل الحداثة الموصوفة فوق، هو نظام أخلاقي/إيتيقي بينما الدولة الحديثة أخلاقية عرضيا وحسب، إن لم تكن واقع الأمر لا أخلاقية أو متهتكة.

وهذا، إذن، مقصدي. فهذه الجماعات ليست بربريين بدائيين ينشدون عودة إلى عصر بدائي، بالرغم من رغبتهم الرجوع إلى ما نعرف أنه ماضٍ متخيل. إنها جماعات حديثة أساسا، وهي منتجات الحداثة. وعليه فإن تفكيرهم حديث على نحو لا مفر منه وما بعد كولونيالي- بانحنائهم غير الواعي لتاريخ الكولونيالية- وعلى الرغم من أننا نعاني لإيجاد أي تشابه نَسَبيّ بيننا وبينهم؛ إلا أنهم، بكلمات المنظرة السياسية روكسان يوبين، العدوّ الذي في المرآة.

ذلك أن، ثمة جوانب منّا فيهم، وجوانب منهم فينا. برغم؛ أننا نختار أن نرى ذلك ونسعى لمعالجة الأمور، ما يجعلنا مختلفين عنهم بالكلية.

المراجع
  1. Modernity according to the Islamic State, Boko Haram, the Taliban et al