محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2017/10/09
الكاتب
ستيفان سالومون
لا يعني انخفاض عدد المهاجرين الذين يصلون إلى السواحل الإيطالية أن الناس توقفوا عن الفرار من الاضطهاد أو العنف أو الفقر، بل إنهم ببساطة لم يتمكنوا من الوصول. فأين هم؟

في الأشهر الأخيرة؛ كانت القضية السياسية الرئيسية هي كيفية خفض عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى شواطئ أوروبا في سفن متهالكة من بلدان غير مستقرة سياسياً في شمال أفريقيا. وكانت الغالبية العظمى من المهاجرين، الذين يفوق عددهم الـ 134 ألف مهاجر ممن وصلوا عن طريق البحر إلى أوروبا هذا العام، قد وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية (حوالي 103 آلاف مهاجر)، معظمهم قادمون من ليبيا التي مزقتها الحرب.

ويبدو أن إيطاليا قد وجدت حلاً لخفض هذه الأعداد. فوفقًا للأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية؛ انخفض عدد المهاجرين من 23.524 (يونيو/حزيران 2017) إلى 5.600 (أغسطس/آب 2017). في حين أنها رصدت في العام الماضي أكثر من 25 ألف وافد شهرياً، وفي أغسطس/آب 2015 فاق عددهم 130 ألف وافد.

يعتمد هذا الانخفاض في الأعداد إلى حد كبير على «مذكرة تفاهم»، وهي اتفاق سياسي غير رسمي بين إيطاليا وليبيا يهدف إلى «مكافحة الهجرة غير الشرعية» و«تعزيز أمن الحدود» بين البلدين. وعلى الرغم من أن الاتفاق قد أُبرم بالفعل في فبراير/شباط 2017، إلا أن الدعم التقني والمادي، فضلاً عن تدريب موظفي الأمن الليبيين؛ لم يؤتِ أُكُلَه إلا بعد بضعة أشهر من انتهائه. وقد وصف «ماركو مينيتي» وزير الداخلية الإيطالي انخفاض عدد المهاجرين الواصلين بأنه نجاح سياسي.

في فبراير/شباط من هذا العام، دعمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إعلان «مالطة» الذي يضع تصورًا لـ «التدريب والمعدات والدعم لحرس السواحل الوطني الليبي والوكالات الأخرى ذات الصلة»، وفي أبريل/نيسان تم تخصيص 90 مليون يورو لليبيا في الصندوق الائتماني للاتحاد الأوروبي للتنمية في أفريقيا.


استراتيجيات الانتشار

إن الإجابة عن مكان وجود المهاجرين غير الشرعيين تستلزم أولا معرفة منّ تُمول الحكومة الإيطالية تحديدًا. يبدو الأمر متناقضا؛ فبالرغم من التغطية الإعلامية الواسعة، إلا أنه لا يكاد يكون هناك أي معرفة عن الجماعات والفصائل التي تُدعم ماليًا بالفعل.

تنص «مذكرة التفاهم»، المبرمة بين حكومة المصالحة الوطنية في ليبيا والحكومة الإيطالية، على أن تذهب الأموال إلى حكومة المصالحة الوطنية الليبية. ومع ذلك؛ نظراً لتقسيم السيطرة على الأراضي الليبية بين الميليشيات المسلحة المحلية و«المدن ذاتية الحكم» والحكومتين المتنافستين والأصوليين الإسلاميين، فإن اقتصار توزيع الأموال على حكومة المصالحة الوطنية الليبية لن يؤدي إلى تقليل المغادرين من ليبيا بشكل ملحوظ.

وهكذا، سّعت وزارة الداخلية الإيطالية لتوسيع استراتيجيتها لتشمل المستوى المحلي، بما في ذلك رؤساء البلديات في العديد من المدن الليبية. علاوة على ذلك، توجد تقارير موثوقة عن تدفقات مالية إلى مجموعات في أجزاء أخرى من ليبيا، بما في ذلك القبائل التي تسيطر على الحدود الليبية الجنوبية.

لم يكن الاتفاق غير الرسمي المبرم بين إيطاليا وليبيا هو الأول من نوعه. ففي عام 2008، أبرمت حكومتا البلدين آنذاك معاهدة الصداقة والشراكة والتعاون التي وضعت جهوداً لمنع الهجرة غير الشرعية. واستناداً إلى تلك المعاهدة، اعترضت إيطاليا المهاجرين في أعالي البحار وأعادتهُم إلى ليبيا. إلا أنه في الحكم التاريخي في قضية «هيرسي»، رأت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن اعتراض المهاجرين وإعادتهم قسراً إلى ليبيا ينتهك حظر عدم الإعادة القسرية والطرد الجماعي.

لذا، هل تعتبر الاستراتيجية الحالية للاحتواء مجرد نبيذ قديم في زجاجات جديدة؟ وبدلاً من توجيه الأموال إلى ديكتاتور واحد، ألا تعتبر إيطاليا الآن مجرد ممول لثُلة من أمراء الحرب؟ والحقيقة: أننا لا نعرف (وربما لا تعرف الحكومة الإيطالية أيضاً).

ويمكن وصف غياب المعرفة بأنه عرَض جانبي للطريقة التي تتحكم بها الدول المتقدمة عالمياً في الهجرة (غير الشرعية). فإلى حد كبير، حلّت اتفاقات غير رسمية محل معاهدات رسمية. كما حلّ محل التعاون بين حكومتين شبكات تتألف من شركات خاصة ومسئولين حكوميين من وزارات مختلفة ومنظمات غير حكومية ومنظمات شبه عسكرية. جميع هؤلاء الأطراف يسعون لتحقيق مصالحهم التي غالباً ما تكون متضاربة.

وقد تؤدي المصالح المالية الخاصة إلى نشوب صراعات عنيفة بين فصائل مختلفة من الميليشيات والتي هي جزء من الشبكة، كما هو الحال في قتال «مصراتة». وقد تستخدم أحد الأطراف؛ مثل الجنرال «حفتر»، الشبكة لتحويل صورته من أمير الحرب إلى سياسي حقيقي. لا يوجد طرف محدد هو المسئول: بل هي الشبكة.

هذا التعقيد المُصمم بعناية في بنية الشبكة، يجعل اقتناص معلومات حقيقية حول عمليات وأعمال الشبكة صعباً للغاية. هالة من السرية تسود، وأي شخص يتخطى الفحص الأمني ​​في وكالة الحدود الأوروبية من شأنه أن يؤكد ذلك.

وهذا يسلط الضوء على نقطة أخرى، وهي أن توزيع المسئولية والهياكل الواضحة ليس مجرد عرض جانبي، بل استراتيجية شرعية. فعلى سبيل المثال، فرضت الحكومة الأسترالية عقوبات جزائية (السجن لمدة تصل إلى سنتين) على الموظفين الذين يسربون أي معلومات عن مراكز المعالجة الإقليمية في ناورو.


مساحات من العنف غير المقيد

فيما يتعلق بتعامل الدول الكبرى مع ملف الهجرة غير الشرعية، فقد حلّت اتفاقات غير رسمية محل معاهدات رسمية، وأصبح التعاون يتم مع شبكات تتألف من شركات خاصة ومنظمات شبه عسكرية.

رأَى المُنظّر القانوني الألماني «كارل شميت» أن «استعمار مساحات جديدة واسعة من قبل الدول الأوروبية يُقيّد الصراع بين القوى الأوروبية». هذه المساحات كانت خارج النظام القانوني الدولي حرفياً حيث كان العنف غير مقيد. وهو الذي ساعد وجوده في هذه الأماكن على استقرار النظام القانوني الأوروبي.

على الرغم من أننا قد لا يكون لدينا أي معرفة حول ما يحدث بالضبط، وكيف يتم تخصيص المسئوليات وما هي أجزاء الشبكة التي تنظم الهجرة، إلا أنه مع الانتشار المكثف لتقارير وسائل الإعلام والمجتمع المدني، فإنه من الصعب إنكار الوعي بالعنف المرتكب ضد المهاجرين في ليبيا.

فقد كتب الصحفي الإيطالي «لورينزو كريموني» عن الثغرات التي احتُجز فيها المهاجرون على مدى أشهر، والعنف الجسدي والجنسي الحاد في كل مكان والإخفاء القسري على نطاق واسع. يُحتجز المهاجرون بانتظام إلى أجل غير مسمى في زنزانات مكتظة. حتى في مراكز استقبال اللاجئين الرسمية التي تديرها الدولة تكون الظروف الصحية والنظافة بائسة ومزرية، كما وصفها تقرير الاتحاد الأوروبي الذي صدر في أغسطس/آب الماضي.

تعلمت إيطاليا درساً من حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية «هيرسي»؛ تعلمت كيفية تجنب عواقب عدم الالتزام بحقوق الإنسان.

ومن الصعب عدم رؤية التشابه بين الدول التي تحتوي على المهاجرين نيابة عن أوروبا ونظرية «كارل شميت». حيث تؤسس هذه الدول – التي لا يوجد بها آليات حماية قانونية حقيقية – مساحات من العنف غير المقيد، وفي الوقت نفسه تحد من التوترات والصراعات داخل النظام القانوني الأوروبي التي قد تنتج عن توزيع اللاجئين وتخصيص المسئولية عن فحص طلبات اللجوء. فيعمل العنف بمثابة رادع. ويصبح أولئك العائدون إلى بُلدانهم التي فروا منها وقد تعرضوا للضرب والاغتصاب، بمثابة إشارات تُحذّر المهاجرين المحتملين الآخرين.

غالباً ما تكون هذه المساحات من العنف غير المقيد خارجة حرفياً عن نطاق القانون. فالحماية القانونية غير القائمة بحكم الأمر الواقع في ليبيا تجعل حقوق الإنسان وهماً. وتعتمد إيطاليا – المسئولة عن انتهاك التزاماتها بموجب قانون حقوق الإنسان – على وجود علاقة فعلية بين السيادة والفرد. وكما تنص مذكرة التفاهم، تمارس ليبيا سيطرتها عند اعتراض المهاجرين وفي مراكز الاحتجاز.

وعلى الرغم من أن إيطاليا – من حيث المبدأ – يمكن أن تكون مسئولة عن تقديم المعونة أو المساعدة للوكالات الليبية التي ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان. يتطلب إثبات مثل هذه المسئولية قناعة محورية قوية: لابد من أن إيطاليا قدمت المساعدة أو المعونة ليس فقط مع معرفتها بانتهاكات حقوق الإنسان تلك، بل أيضاً بقصد ارتكابها. ويمكن نشر هذه القناعة في بعض الحالات الفردية، لكن في كثير من الأحيان لا تكون استراتيجية نشر المعرفة ناجحة.

بمعنى آخر، تعلمت إيطاليا درساً من حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية «هيرسي»: تعلمت كيفية تجنب عواقب عدم الالتزام بحقوق الإنسان، حتى أنه قد يكون الحكم قد استُخدم كخطة للقيام بذلك. وفي عالم من الشبكات، دائماً ما تكون هذه الأخيرة متقدمة بخطوة على القضاء.

إن سياسة الاحتواء التي تتبعها إيطاليا حالياً في ليبيا لا تعدو كونها شراءً للوقت. حتى إن الافتراض الأكثر سخرية «الردع بواسطة العنف» لم يعد فعالاً اليوم. فخلاصة المعاناة المستقبلية أن الخيال الفردي يأمل دائماً أن يتجنب الوقوف في وجه معاناة ملموسة مُجرّبة في الوقت الحاضر. كأي سلوك بشري يتكيف مع سياسات الاحتواء المتغيرة عن طريق تغيير السُبل، والأمل هو المخزون اللانهائي للعقل البشري.