حزقة حزقة
ترقَّ عينَ بَقه

هكذا كان يغني النبي محمد لحفيديه الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت النبي، حين كان يُرقصهما بين يديه، وكان الحسين يرقى حتى يضع قدمه على صدر النبي وهو يغني له هذه الكلمات، بحسب المتواتر في المصادر.

ومعنى البيت: اصعد يا صغيري يا حزقة يا عين البقة (كناية عن صغر حجمه).

في الأدب العربي القديم، هناك ما يعرف بأشعار الترقيص، وهي أشعار غنائية فلكلورية كثيرة، كان الآباء والأمهات يغنونها حين يداعبون ويُرقِّصون أبناءهم بين أيديهم، فيما يعرف في العامية المصرية بـ«الهشتكة»، وكان صحابة النبي يُرقِّصون أبناءهم، كما كان آباؤهم وأمهاتهم يُرَقِّصونهم.

تلك الأشعار كانت تؤدى بألحان ارتجالية بلا موسيقى، أو بمعنى أوضح طريقة أداء غنائية، ولكنها مفقودة لأنها كانت ارتجالية؛ فهي قطعًا ليست أشعارًا عادية، من حيث اللغة الأدبية، وتضم شوارد متنوعة من لهجات القبائل الخاصة، وبها تحرر من قيود الشعر التقليدية، بحسب ما يذكر الباحث اللبناني الشهير أحمد أبو سعد في دراسته «أغاني ترقيص الأطفال عند العرب».

 إلا أن هذه الأغنيات لم يكن دائمًا هدفها دعابة الطفل، بل اشتملت على معان وأهداف سياسية طالت صحابة النبي، كانتحال أغان ترقيصية ونسبها للأمويين أو العباسيين، وهما القبيلتان اللتان تصارعتا على الحكم.

كيف غنى الصحابة والنبي لأبنائهم ورقَّصُوهم، وكيف رقصهم آباؤهم وأمهاتهم وهم أطفال؟ وما المعاني السياسية التي حملتها كلمات بعض هذه الأغاني؟ هذا ما نرصده في السطور التالية.

حليمة تغنّي للنبي

كانت حليمة السعدية مرضعة النبي ترقصه بين يديها وهو طفل، وكذلك أخته في الرضاعة الشيماء، بحسب ما جاء في «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر العسقلاني، و«أنساب الأشراف» للبلاذري، و«السيرة الحلبية» للحلبي، وكانت حليمة تغني له:

يا رب إذ أعطيته فأبقه
وأعلِهِ إلى العلا ورقِّه
وادحض أباطيل العدا بحقِّه

وغنت له الشيماء:

هذا أخ لي لم تلده أمي
وليس من نسل أبي وعمي
فأنمِه اللهم فيما تُنْمِي

وكانت تغني له الشيماء أيضًا:

يا ربنا أبق لنا محمدا
حتى أراه يافعًا وأمردا
ثم أراه سيدًا مسوَّدا
واكبت أعاديه معًا والحسّدا
وأعطه عزًّا يدوم أبدا

أبوبكر وفطامه

أما الخليفة والصحابي أبو بكر الصديق، فحين أرادت أمه سلمى بنت صخر فطامه، وضعت شيئًا على ثديها يجعله لا يرغب في الرضاعة، فأصدر ما يفهم منه أنه يريدها أن تغسل ثدييها وبكى، فضمته إلى صدرها وقبلته ثم راقصته وغنت له، بحسب ما جاء في «أنباء نجباء الأبناء» لابن ظفر الصقلي:

يا رب عبد الكعبة
أمتع به يا ربّه
فهو بصخر أشبه
صخر، هو والد أبي بكر

الزبير بن العوام الماجد الفياض

ونرصد في «المنمق في أخبار قريش» لابن حبيب، أن صفية بنت عبد المطلب كانت ترقص طفلها الزبير بن العوام، الصحابي الشهير فيما بعد، وغنت له:

إن ابني الأصغر حِبّ حَنْكَل
أخاف أن يعصيني ويبخل
يا رب أمتعني ببكري الأول
الماجد الفياض المؤمل

فاطمة تغني للحسن والحسين

كانت فاطمة بنت النبي ترقص ابنها الحسن وتفتخر أنه يشبه أباها (النبي) ولا يشبه زوجها علي بن أبي طالب، بحسب ما جاء في «المحبر» لابن حبيب، حيث كانت تغني:

وا بأبي شبه أبي
غير شبيه بعلي

وكذلك كانت ترقص أخاه الحسين (بحسب ما جاء في «العقد الفريد» لابن عبد ربه) وتغني:

إن بني شبه النبي
ليس شبيها بعلي

وكان من الشائع أن الحسين يشبه النبي، ولكن يشاع أيضًا أن أباه علي بن أبي طالب كان يشبه النبي هو الآخر، فهو ابن عمه قبل أن يكون زوجًا لابنته.

أم البنين تخاف على ابنها من الحسد

وكانت أم البنين الواحدية ترقص ابنها العباس بن علي بن أبي طالب وتقول (بحسب ما جاء في المنمق):

أعيذه بالواحد
من عين كل حاسد
قائمهم والقاعد
مسلمهم والجاحد
صادرهم والوارد
مولودهم والوالد

ترقيص الصحابة لأهداف سياسية

يذهب كثيرون وعلى رأسهم الدكتور طه حسين (راجع كتاب «في الشعر الجاهلي») أن الشعر العربي شهد ظاهرة انتحال كبيرة، أي تأليف أشعار ونسبها لأشخاص ومواقف غير حقيقية لأهداف سياسية أو اجتماعية أو غيرها.

ولا يستبعد أحمد أبو سعد أن يكون كثير من أشعار الترقيص قد نسجت وأسقطت على بعض الصحابة لتعظيمهم خلال فترات الفتنة الكبرى وما بعدها من صراع على الحكم.

 وفترة الفتنة الكبرى كانت مرحلة مهمة في الصراع بين الهاشميين (وفي قلبهم العباسيين) والأمويين، لبيان أن بعض الأطراف الفاعلة في الصراع كانت عظيمة منذ نعومة أظفارها، بهدف تبجيلهم وإضفاء هالة من العظمة عليهم في نفوس الناس.

وفي هذا الاتجاه نرصد ترقيص العباس بن عبد المطلب، ومعاوية بن أبي سفيان، والزبير بن العوام، وعمرو بن العاص، وعثمان بن عفان، وغيرهم ممن ارتبطت أسماؤهم بالأحداث السياسية التي ذكرناها، ونلحظ في الأغاني المنسوبة لترقيصهم أنها اشتملت على معان تخدم شخصياتهم كسياسيين، كما سنوضح لاحقًا.

عثمان يضرب رؤوس الأعداء والعباس يحمي قومه

جاء في «المنمق» و«أنساب الأشراف» أن البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب، كان ترقص ابن بنتها عثمان بن عفان، متمنية أن يكون بطلًا يضرب بسيفه رؤوس الأعداء ويهزم رئيسهم، وتغني:

ظني به صدق وبر
يأمره ويأتمر
من فتية بيض صُبُر
يحمون عورات الدُبُر
ويضرب الكبش النعر
يضربه حتى يخر
بكل مصقول هبر

كما روي أن نتيلة النمرية زوجة عبد المطلب بن هاشم، جد النبي، أتته بابنه العباس، وقالت له: يا أبا الحارث، قل في هذا الغلام مقالة، فأخذه منها وجعل يرقصه ويغني:

ظَنِّي بعبَّاسٍ حبيبي إن كَبِر
أن يمنع القومَ إذا ضاعَ الدُّبُرْ
وَيَنْزَعَ السَّجْلَ إذا اليومُ اقْمَطَرْ
ويسقي الحاج إذا الحاج كثُر

أي يظن عبد المطلب أن ولده سيحمي قومه إذا هو طعن في السن، ويمنع عنهم عدوهم وقت الهزيمة، ويغلب خصمه في المساجلة، ويسقي الحجيج إذا كثروا، وينحر البعير الضخم السنام لضيوفه، وأن يكون الحكم الفصل عند اشتداد الأمور ويلبس الأثواب والأزر اليمانية، ويكشف الكروب ويكون أشجع من عبد كلال وحجر المعروفين بالشجاعة، واللذان لو جمعا لم يبلغا عُشرَه.

وإذا تأملنا في الشخصيتين، عثمان بن عفان، والعباس بن عبد المطلب، سنجد أن كليهما كان ذوا مكانة روحية لدى الأمويين، والعباسيين، الحزبين السياسيين المهيمنين على السياسة والحكم طوال قرون.

 فبني أمية اتخذوا مقتل عثمان، وهو منهم، نقطة انطلاق للاستيلاء على الحكم، فيما عرف بأحداث الفتنة الكبرى.

أما العباس بن عبد المطلب، فهو الصحابي وعم النبي، ووالد الصحابي المعروف عبد الله بن عباس، وهو الذي تنسب الدولة العباسية إلى اسمه، وقد خاض أحفاده حروبًا وثورات حتى هزموا الأمويين واستولوا على الحكم.

وبالتالي فإن تبجيلهم ووصفهم بهذه الأوصاف السياسية يعزز مكانة المتصارعين على الحكم الذين جاؤوا من بعدهم من قبيلتيهما.

ابن الزبير ومعاوية وابن العاص

نفس الأمر قد نرصده مع جيل أصغر من الصحابة، وهو الجيل الذي أشعل الصراع الأموي العباسي، حيث نجد الأوصاف التي رُوّج لها عنهم وهم كبار، موجودة فيهم منذ كانوا أطفالًا.

وروي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها كانت تُرقص ولدها عبد الله بن الزبير بن العوام، وتصفه بالسيف كثير اللمعان، وتظن بأنه سيحكم الخطبة ويفرج الكربة في وقت الضيق والحروب حيث تعدو الخيل، بحسب ما جاء في «كنز الدرر وجامع الغرر» لابن أيبك الدواداري.. وفي ذلك كانت تغني أسماء وهي تراقصه:

أبيض كالسيف الحسام الإبريق
بين الحواري وبين الصديق
ظني به ورب ظن تحقيق
والله أهل الفضل أهل التوفيق
أن يحكم الخطبة يعيي المسليق

ولا يخفى على القارئ أن معاني الفروسية والشهامة والنجدة التي تحتويها الأبيات، هي نفسها التي كان ينسبها أصحاب عبد الله بن الزبير إليه، حين ثار على بني أمية وبويع بالخلافة، كما أن ذكر هذه الأبيات في المصادر التي وثقت سيرته يأتي ملتصقًا بالأحداث السياسية التي مر بها.

في المقابل نجد أن هند بنت عتبة كانت تتوسم في ولدها معاوية ابن أبي سفيان أمارات السؤدد والزعامة والمُلك، وكانت وهي تُرقصه تنوه بشرفه وتذكر ما تتوقع له في المستقبل من عزة، حيث تقول (كما جاء في المنمق):

إن بني معرق كريم
محبب في أهله حليم
ولا بطخرور ولا سئيم
صخر بني فهر به زعيم
لا يخلف الظن ولا يخيم

وينسب لها أيضًا أنها كانت تراقصه وتغني:

ثكلت نفسي وثكلت ماليه
إن لم يسد في قومه معاوية

بالطبع معلوم من هو معاوية والظروف التي أتت به إلى الحكم والخلاف التاريخي حوله، ولا يخفى كيف أن أبيات كهذه تؤدي غرضًا واضحًا في رسم صورته المطلوبة في أذهان الناس.

وكان ضمن فريق معاوية ابن أبي سفيان وقت الفتنة الكبرى الصحابي عمرو بن العاص، الذي أيضًا تدب الخلافات التاريخية حوله، ومما ينسب إليه أن والده العاص بن وائل كان يرقصه في طفولته ويغني له أشعارًا تمتلئ بالعظمة، حيث تتوقع أن يسود في قومه وأن يهزم خصومه بعد أن يقود الجيوش ويلتهم أحشاءهم، بحسب ما جاء في «أنباء نجباء الأبناء»، حيث يقول:

ظني بعمرو أن يفوق حلما
وأن يسود جمحا وسهما
وينشق الخصم الألد رغما
وأن يقود الجيش مجرا دهما
يلهم أحشاء الأعادي لهما