إنني قادر على فهم قوانين الرياضيات، ولكن حيال أبسط الوقائع التاريخية التي تتطلبُ الحدس، أجد نفسي في وضعية صعبة، مثل أغبى الأغبياء.
كارل ماركس

يرجعُ أصل فلسفة التاريخ إلى رغبة البشر في أن يجدوا أجوبة لسؤالين جوهريين هما: لماذا حدث؟ وكيف حدث؟ ومن هنا بدأ الإنسان يجتهد من أجل معرفة القوانين المسيرة لهذه الحوادث والتواريخ، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر حدثت طفرة في الدراسات التاريخية في العصر الحديث، نتيجة لحالة الوعي الأوروبي، وكرد فعل طبيعي لسيادة النظرة المسيحية في تفسير التاريخ ووقائعه، حيث اعُتبر أن التاريخ هو تحقق المشيئة الإلهية، وكما الحال في الإسلام ولكن في عصوره الوسيطة، شهد المعرفة والفكر الإسلامي بزوغ مدارس متعددة عبرت عن أوجه التفسير المختلفة كالمعتزلة والمدرسة الخلدونية وغيرهم.

وكانت دوافع تطور هذه المدارس التاريخية هي عملية العودة للماضي الإغريقي والروماني والشك فيه، والتطاحن الحربي بين الكاثوليك والبروتستانت، ورحلات الاستطلاع والاستكشاف للعالم الجديد، والصراع السياسي والاجتماعي بين بلدان أوروبا، ثم الأفكار التنويرية بداية من جوفينو فيكو، مرورًا بمونتسيكيو وروسّو وفولتير، كما أدى اكتشاف قوانين طبيعية يسير وفقها الكون إلى التفكير في إيجاد تفسيرات ونظريات يستطيع من خلالها تفسير الماضي واستشراف المستقبل. وبناءً على تباين التفسيرات للتاريخ ظهرت لنا عدة مدارس حديثة لتفسير التاريخ.


1. المدرسة الإنسانوية (Humanism)

تُعبر فكرة الإنسانونية عن الإنسان حيث جعلته محور فلسفتها، ونتجت عن تطور الوعي الأوربي خلال عصر النهضة وتحول الإنسان من سلطان الكنيسة لسلطان العقل، ومن النظم السياسية الامبراطورية إلى الدويلات القومية الوطنية، وأصبح الإنسان محور أفكار نخبة عصر النهضة، بعد أن كانت الميتافزيقيا «ما وراء الطبيعية».

وتقوّضت مركزية الله في تفكير الإنسان وحلّت محلّها مركزية الإنسان نفسه، ولا يعنى ذلك إنكار المؤرخ الإنسانوي لوجود الله بل جعل من الإنسان مركز الثقل الروحي، وأن الإنسان تحركه الفردانية فهو كائن أناني يقدم مصلحته الشخصية ومستعد للتخلي عن جزء من حريته الشخصية طوعًا للدولة حتى ولو كان نظامًا استبداديًا مقابل المحافظة على فرادنيته المتمثلة في ثروته وعائلته وبدنه، والدولة عند المؤرخ الإنسانوي لا علاقة لها بالدين؛ لأنها تستمدُّ سلطانها من البشر لا من الله، والسياسة مجردة من أي قداسة دينية؛ لأنها فعل إنساني خالص، وترتَّب على هذه النظرة المتمحورة حول الإنسان في الجانب الديني ثورة تمثَّلت في ظهور البروتستانتية، وتمخض في الاقتصاد النظام الرأسمالي.

ومن توجهات المؤرخ الإنسانوي محاولة دراسة الماضي دراسة مستفيضة، خاصة النصوص الدينية ومحاولة تأويلها، وتعلقه بالماضي جعله يستنبط علوم جديدة منها علم الآثار والنميات «المسكوكات » والبرديات، والنقوش، كما أن المؤرخ الإنسانوي تخلى عن فكرة «العصر الذهبي»، وهدم الفكرة القائلة بأن الماضي أحسن من الحاضر، والحاضر أحسن من المستقبل، وهي الفكرة السائدة في كل مجتمعات ما قبل الحداثة، بل إنه يرى العكس صوابًا، وابتدأ المؤرخ الإنسانوي كتابته باللاتينية ثم عدل عنها ليكتب باللغات القومية.

ومن مواطن قصور المؤرخ الإنسانوي أنه كان غارقًا في التفاؤل بالصورة الحسنة للطبقة البرجوازية، وغلَبَ على تاريخه الأدب والبلاغة، ولاحتكاكه بالطبقة البرجوازية الحاكمة وقتها أصبح مقرّبًا من السلطة فمجَّد سلطانها مهما طغى من أجل القضاء على التشتّت السياسي، ومن أهم رواد تلك المدرسة لورانزو فالا، بياتوس رينانوس، هوقو قروتيوس، جان بودان.


2. المدرسة العقلانية (Rationalism)

أدى ظهور الاختراعات الحديثة وتملك الإنسان للآله، والإيمان بالعقل ومقاومة الخرافات، والتصدى لرجال الدين واستبداد الحكام، والوقوف ضد الحروب مهما كانت دوافعها، إلى تقدم وتغير في رؤية التاريخ؛ فقد اعتمد مؤرخو المدرسة العقلانية في شرح رؤيتهم على اللغات القومية المحلية، ولم يعد يوجد خط فاصل بين التاريخ والفلسفة، وأصبح في تفسيرهم للتاريخ يعتمدُ على الرؤية الشاملة، خلافًا للإنسانوي الذي اعتمد على العامل السياسي في تفسير رؤيته، كما استحدث نظامًا جديدًا لتحقيب التاريخ فجعله قديمًا ووسيطًا وحديثًا عكس رجال الدين الذين قسّموه لتاريخ وثني وتاريخ مسيحي، ومن مواطن قصور العقلانية العداء الشديد لرجال الدين والبابوية، وغلبت بلاغة العقلانيين على مضمونهم التاريخي، ومن أهم المؤرخين المعبرين عن العقلانية فولتير، وإدوارد جيبونن، وسان سيمون.


3. المدرسة الرومنطقية (Romanticism)

بدأت هذه المدرسة في الظهور في ألمانيا، ونتجت عن تطور الأفكار حول الثورة الفرنسية فاعتبرها البعض فتحًا لقرن الحرية، واعتبرها البعض الآخر وبالاً أصاب أوروبا، فأقام الحروب، وخرب الديار والعمران، وبين تلك النظرة وسابقتها نضجت الفكرة الرومنطيقية والتي تكونت هذه المرة من مؤرخين ينتمون لطبقة النبلاء؛ لذا وجدوا في العصر الفيودالي -عصر السيد الإقطاعي والأقنان- مبتغى دراستهم، فاستعادوا الذكريات مع الحروب الصليبية، ومغامرات النبلاء الفرنسان، ومجَّدوا الطبقة المعدمة، وكرهوا الطبقة البرجوزاية الحاكمة في تلك الفترة، وتميّزوا بكتابة التاريخ بشمولية، فأرخوا للفن والاقتصاد والثقافة، وكانت لغتهم الشعرية هي ما جذَبت القراء لقرائتها وانتشارها بين العوام، وأرادوا من كتابتهم أن يُكتب التاريخ مجردًا من التحليل والتفسير.

لكن من مواطن قصور الرومنطيقيين التركيز الشديد على اختيار الأحداث السياسية الملهبة للحماس والإثارة لجذب القارئ، وطغيان اللغة الشعرية على المضمون التاريخي، وتضخّم الأنا في كتاباتهم،من أشهر مؤرخيها شيلنغ وهردر، وفيخته، وغوته، وأوغستان تياري،وشانو بريان.


4. المدرسة الوضعية (Positivism)

خضعَ علمُ التاريخ لهيمنة الوضعيين، والذي تمثّل في إسقاط القوانين الخاصّة بعلوم الطبيعية على الإنسان، وتعد ألمانيا الموطن الأصلي لتلك المدرسة، فقد تميزت تلك الفترة بسيطرة العلوم التجريبية على حل القضايا، وآمنت هذه المدرسة بأن العلم الوحيد هو علم الطبيعة القائم على الرياضيات والتجربة، ولا يهتمّ بتاريخ الجزئيات، وإنما بالتاريخ ككل، والأهم أن الحدثَ التاريخيَّ بالنسبة للوضعي التجربة يمارسها فيحاول أن يستوثق من الحدث ويثبته تاريخيًا.

ويتميّز المؤرخُ الوضعيُّ في كتابته للتاريخ بأربع مراحل: مرحلة تجميع الوثائق، ونقدها، وضبط الأحداث، وأخيرًا سرد هذا الحادث، مع الاهتمام بكتابة الهوامش والحواشي أسفل الصفحات أو في نهاية ورقتة التاريخية، ويستخدم الرسم البياني والإحصائي في إثبات وجهات نظره، وهو يرى أن يتحرّر المؤرخ من انتماءاته السياسية والثقافية والدينية والقومية وما شابه، ومن قصور المدرسة الوضعية رفضهم النتائج الفلسفية التي تتجاوز النظريات العلمية الطبيعية التجريبية. كما أنهم سقطوا في التحزّب للقومية. ومن أشهر المؤرخين الوضعيين أرنست لافيس، ليوبولد فان رانكه، أوغست كونت.


5. المدرسة التاريخانية (New Historicism)

عُرفت التاريخانية بأنها دراسة الأحداث التاريخية كما هي دون إخضاعها للمثالية الأخلاقية والسياسية، بل تُدرس كظواهر تاريخية مختلفة في السياق، وترى هذه المدرسة أن الحقيقة التاريخية تظل دائمًا حقيقة نسبية، وأن علوم الطبيعة تُفسر، لكن علوم الاجتماع تُفهم، ولا تنظر التاريخانية إلى الوثائق باعتبارها شئ مقدّس لتفسير وتأويل الحدث التاريخي، ويستطيعُ أن يصلَ المؤرخ التاريخاني إلى حقائق جزئية، ولكنه لن يدركُ الصورة الكلية للحدث التاريخي، وقد ظهرت أفكار المدرسة في أدبياتهم عن سِير المشاهير، ودراسة الذهنيات وتأثيرها على الفرد والمجتمع من خلال سياقها التاريخي وتأثيرها للأحداث.

لكن مما أُخذ على التاريخانية أنهم أرخوا للحدث في جزئيته، ورفضوا التعميم في دراساتهم للظواهر، كما أنهم رفضوا وجود أية حقيقة موضوعية، والسقوط في النسبية في الحكم على الأحداث التاريخية،أي رفض إطلاق أي حكم على الفاعل التاريخي، وهو ما يؤدى للعدمية أو التسامح المطلق مع الفاعل التاريخي، ومن أشهر روادها ولهام دلتاي، هنري ريكارت، ماكس فيبر، بينيديو كروتشي، روبين جورج كولينفورد، هنري مارو وغيرهم .


6. المدرسة الماركسية المادية (Historical materialism)

تأسست هذه المدرسة على يد كل من كارل ماركس(1818-1883) وفريدريك إنجلز (1820-1895). شملت الماركسية فيما بعد عطاءات مفكرين ماركسيين كثيرين من أمثال لينين، وتروتسكي وستالين وماوتسي تونغ وغيرهم. وليست الماركسية نظرية مادية فحسب، بل هي نظرية جدلية تعتبر أن كل ظاهرة تحمل في أحشائها الشيء ونقيضه، واعتمدت هذه المدرسة على دراسة التاريخ الشامل، وجعلت من العامل الاقتصادي دور مهم في صنع الأحداث التاريخية،والتركيز على الطبقات الكادحة في الدراسة، وتراتبية المجتمع تراتبًا اقتصاديًا.

غير أنها انزلقت في بعض الأمور؛ فقد تحوّل المؤرخ لبستاني يرسم الأشجار بالصورة التي يراها لا بالصورة التي خُلقت عليها، كما أن المؤرخ يحاول إرجاع كل الظواهر الاجتماعية إلى العلة الاقتصادية،فيظهر التضخيم في دور صراع الطبقات، ويصبح هو المحرك الوحيد للتاريخ، فضلاً عن شيطنة أصحاب رؤوس الأموال، وليّ الحقائق التاريخية التي تخدم «الكادحين».


7. المدرسة البنيوية (Structuralism)

اشتُق لفظ البنيوية من البنية إذ ترى أن كل ظاهرة، إنسانية كانت أم أدبية، تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب علينا أن نحللها (أو نفككها) إلى عناصرها المؤلفة منها، بدون أن ننظر إلى أية عوامل خارجية عنها، ويعتقدُ مؤسّسوها أن تاريخ البشر مِن صنع أفكارهم بمحض إراداتهم.

وقد استطاع البنيويون أن يزيلوا الحدود بين العلوم الإنسانية، ويرى أن جميع الشعوب لها تاريخ وإن كانت بدائية وليست هناك فوارق بين الشعوب من ناحية التاريخ، وقد أثّرت هذه المدرسة في مدرسة الحوليات الفرنسية، لكنها ركّزت على الثوابت في دراسة التاريخ، وتقسيمه لبني مستقلة عن بعضها، فلم يكن مِن أهدافها إنشاء تاريخ عالميّ بقدر من تركيزها على بنية الأشياء الثابتة في التاريخ، وأصبحت البني الخفية هي المحرّك للإنسان والتاريخ، وتحوّلت البنيوية إلى شبه الميتافزيقيا مما عجّل بانحسارها بين الأوساط التاريخية، ومن أشهر رواد المدرسة ميشيل فوكو،رولان بارت، جاك لاكان وغيرهم.


8. المدرسة الحولية (The Annals)

ترتّب على الهزة الإقتصادية التي عانت منها فرنسا 1929م توجّه المزيد من علمائها ومفكريها نحو دراسة جدية وشاملة للتاريخ، وظهرت مجلة الحوليات تحت اسم «حوليات التاريخ الإقتصادي والاجتماعي». حاولت المجلة أن تنشئ تاريخًا جديدًا يجمعُ بين موضوعات الذهنيات والاقتصاد والمجتمع، تجلّى ذلك في عدد من مقالات لوسيان فافر، مثل مقاله بعنوان «تاريخ أم سياسة»، وفي تلك المجلة تم نقد نظرية أرنولد توينبى الممثّلة في «التحدي والاستجابة»، واستخدام توينبي لكلمة الحضارة وحصره للمجتمعات الحضرية والبدائية، وتقييمه بناءً على معايير خاصّة به، حتى قيل عن تقسيمه: إنه تقسيمٌ اعتباطي، وتأثر التاريخ بعلم الاجتماع بشكل كبير لطغيانه على هذه المدرسة، بل إن المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ درس الانثروبولوجيا التاريخية والفلكلور والعادات ومظاهر السحر وجعلها موضوعات أساسية ضمن التاريخ.

وأولت المجلة اهتمامًا ملحوظًا بالاتجاه الاقتصادي حتى هيمن عليها في حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، وقد لخّصَ بعض علمائها شعار الحوليات قائلاً: «لا للمسيح، لا لماوتسي، لا لتوينبي، قليلاً من ماركس وأكثر ما يمكن من العلم». ولكن مع مرور العالم بالازمات السياسية عاد التاريخ السياسي بقوة إلى واجهة الأحداث، ولقد حملت الحوليات المؤرخ حملاً شاقّاً؛ فجعلته متخصصًا في العديد من الميادين مثل الأنثربولوجيا، والاجتماع، والاقتصاد، ولكن العالم لم يثق في فكرة المؤرخ الشمولي، وللخروج من تلك الأزمة، حدث تغيير في مضمون واسم المجلة؛ ليعبر عن التاريخ كعلمٍ، ويعود لدراسة الأفكار والثقافة، ومن أشهر رواد المدرسة مارك بلوخ، لوسيان فافر،فرنان بردوال.

تلك بعض تطورات المدارس التاريخية الحديثة، وهي جلها في أوروبا، فهي إن اجتمعت مثَّلت كتلة كاملة لدراسة التاريخ، ولا يمكن معرفة التاريخ إلا من قرأته، من جميع المدارس كُلا بالرؤية التي يعتقد صوابها .

المراجع
  1. الهادي التيمومي، المدارس التاريخية الحديثة، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013م.
  2. سيد قطب، في التاريخ فكرة ومنهاج، دار الشروق، القاهرة،الطبعة الثامنة،2001م.
  3. فرانز روزنثال، الإلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التأريخ، شمس الدين السخاوي، رسالة دكتوراة منشورة،ترجمة صالح العلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1986م.
  4. وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الثانية، 2013.
  5. حسين مؤنس، التاريخ والمؤرخون، دار المعارف، القاهرة، 1984م.
  6. جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.
  7. رأفت الشيخ، تفسير مسار التاريخ، دار عين ، القاهرة، 2000م.
  8. فتح الله ولعلو،«الاقتصاد السياسي»، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1974.
  9. عبدالحميد صديقي، تفسير التاريخ، ترجمة كاظم الجوادي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1980م.
  10. ناظم عودة، جريدة (الزمان) العدد 1339.
  11. Lamont, Corliss. "The philosophy of humanism." (1966).‏
  12. Marc Bloch, Peter Putnam, Joseph R. Strayer-The Historian's Craft-Vintage (1953).
  13. Carr, Edward Hallett, Richard J. Evans, and Richard J. Evans. What is history?. Houndmills: Palgrave, 2001.‏