لحظات تُسكت الأنفاس، وصمت ما قبل الهدف، ثم فرحة تعم الأرجاء وانتفاض جماهير من أماكنهم بأيديهم أعلام مُحلقة، وسط صافرات ممتزجة بأصوات تشجيعية عالية مُبهرة. حتماً هي أجواء تصيب كل من يشاهدها بالفرحة حتى لو لم يكن من المهتمين بكرة القدم.

فهو السحر الذي جذب الجميع. لكن ماذا إن تحولت لحظة إسكات الأنفاس لسكتة دائمة؟!

أحياناً لا تأتي الفرحة في المباريات كما ينتظرها البعض، بل قد تأتي مُحملة بحالات صحية خطرة ونوبات عصبية وكثير من التقلبات النفسية. فماذا يحدث للجسد في لحظات توتر مشاهدة مباريات كرة القدم؟

قوة تأثير الساحة المستديرة على الرجال

يظهر المتفرجون في حالة توحد مع الفريق، بل توحد مع حركة الكرة ذاتها يميناً ويساراً، مع إرسالها للمرمى تُرسل أجسادهم معها للأمام دون وعي، لدرجة تجعلهم وكأنهم هم من يلعبون المباريات بأنفسهم … وترجع هذه الحالة لجزء في الدماغ يسمى «الخلايا العصبية المرآتية»، وهي خلايا عصبية تجعلك تشعر أنك جزء من الفريق، وتمكن الأفراد من وضع أنفسهم مكان الآخرين وتخيل ما يمر به الأشخاص لفهم وجهات النظر خارج منطقهم المعتاد.

لذا تتضخم المشاعر بمشاهدة الفريق المنتمين إليه، ويزداد الاندماج مع اللاعب حد الشعور باللعب نفسه داخل أرض الملعب، فتندفع الأجساد مع كل مرة يسدد فيها اللاعب أو مع أي لعبة ضائعة.

ويقول ديفيد إيزيل «David Ezell»، الطبيب النفسي الأمريكي:  من حُسن الحظ أننا لا يمكننا أن نشعر في الواقع بالإحساس الدقيق للألم عندما يصطدم اللاعبون بعضهم ببعض، أو أن يقع لاعب آخر وهو على وشك رمي الكرة، ولكن الخلايا العصبية تسمح لنا بتجربة اللعبة إلى حد ما، كما لو كنا هناك بالفعل ونشارك فيها.

ماذا يحدث للجسد عند مشاهدة كرة القدم؟

تؤثر المواد الكيميائية على مزاج الأشخاص بشكل عام، وعندما يتابع الشخص فريقه يخسر، ويرى أداءً ضعيفاً للعب، يفرز الدماغ هرمون «الكورتيزول»، وهو عبارة عن هرمون تصنعه الغدد الكظرية ويطلقه الجسم في حالة تعرضه لضغط. وإفراز هرمون الكورتيزول عادةً يتسبب في استجابة للتوتر، ليشمل ارتفاع معدل ضربات القلب والتنفس. وقد تنتج الدماغ كمية أقل من السيروتونين، مما قد يؤدي إلى زيادة الغضب والاكتئاب.

فيقول مايكل جرابوسكي، أستاذ  دكتور في كلية مانهاتن: «عندما تشعر بالقلق قبل أو أثناء لعبة ما، فهذا ليس خيالك، لأن الدراسات أظهرت أن عشاق الرياضة يمكن أن يشعروا بقلق شديد قبل مباراة كبيرة، تمامًا مثل اللاعبين. فهي حالة مرتبطة بالناقلات العصبية، والمواد الكيميائية التي ينتجها الدماغ لتنظيم حالتك المزاجية».

ووفقًا للدكتور جيسون دي هانكس، مدير التخدير في المركز الجراحي الأمريكي NYC Surgical Associates: «عندما نشعر بالتوتر، ترسل أدمغتنا إشارات تتسبب في إطلاق الأدرينالين من الغدد الكظرية». ويبدأ معها القلب في النبض بشكل أسرع، ثم يرتفع ضغط الدم ويؤثر على أهم أجزاء الجسم مثل القلب والعضلات، كجزء من استجابته للقتال أو الهروب، ومعها تستجيب أعضاء أخرى أقل أهمية، مثل الجهاز الهضمي، الذي يقطع إمداده بالدم مما يؤدي لمخاطر صحية كُبرى».

أما في حالات الفوز فيحدث العكس تماماً عند مشاهدة فريقك المفضل يلعب بطريقة ممتعة، ما يؤدي لزيادة هرمون التستوستيرون الذي يزيد من إفراز الدوبامين «هرمون السعادة» الكيميائي المرتبط بالمكافآت والمشاعر الإيجابية، حينها يتعرض الجسم لحالة مثيرة سعيدة من إفراز هرمون الأدرينالين، وتظهر معها بهجة في السلوك الجسدي. كذلك يُفرز هرمون الإندورفين  المسئول عن تحسين المزاج والشعور بالسعادة، في لحظات إحراز الأهداف وفوز الفريق الذي ننتمي إليه، وينتهي معه التوتر، ويعلو الهتاف والقفز والفرح.

كما تشير بعض الأبحاث إلى أن المشجعين لديهم أيضًا استجابات فسيولوجية مماثلة لاستجابات اللاعبين الذين يدعمونهم. على سبيل المثال، خلال كأس العالم لكرة القدم 2010 FIFA، كان لدى مشجعي كرة القدم الإسبانية مستويات أعلى من هرمون التستوستيرون والكورتيزول عند مشاهدة مباراة، على الرغم من أن هذا لم يكن مرتبطًا بانتصار فرقهم.

وبالمثل في كأس العالم لكرة القدم 2014، وجدت الأبحاث أن المشجعين البرازيليين الذكور والإناث الذين كانوا أكثر اندماجًا مع فريقهم عانوا من مستويات عالية من الكورتيزول، وهذا يعني أن لديهم مستويات أعلى من التوتر، خاصة في مواقف التعاسة والإحباط.

فعادةً يتم إطلاق الكورتيزول عندما نشعر بضغوط يمكن أن تؤثر على أجسادنا، وأول ما يتأثر بإفراز هذا الهرمون هو جهاز المناعة. لذا توصي الدراسة المشجعين المستمرين لسنوات طويلة في مشاهدة المباريات ومعها استمرار إفراز أجسادهم هرمون الكورتيزول، بأنه يجب عليهم إدراك أن الإفراط في التعرض لهذا النوع من التوتر على المدى البعيد يمكن أن يضر بصحتهم.

في البطولة نفسها في كأس العالم لكرة القدم 2014، أظهر بحث ألماني أن المستشفيات سجلت حالات دخول أعلى خلال البطولة بسبب النوبات القلبية بين الرجال والنساء.

المخاطر الصحية لتوتر المشجعين

ووفقاً لدراسة حديثة في المجلة الكندية لأمراض القلب، تعرض مشجعو لعبة الهوكي لارتفاع ملحوظ في معدل ضربات القلب، لدرجة تُعادل أقوى التمارين الرياضية، الأمر نفسه يسير على مبارايات كرة القدم.

 كما تبين أن هناك صلة بين الأحداث الرياضية والنوبات القلبية، وعلى سبيل المثال حالة المشجعين الإسبان الذين عانوا من مستويات أعلى من هرمون الإجهاد الكورتيزول أثناء مشاهدة فريقهم يلعب في نهائي كأس العالم 2010 ضد هولندا.

أما في كأس العالم 2006 في ألمانيا، فقد درس الباحثون العلاقات بين التوتر العاطفي وإحداث القلب والأوعية الدموية. وخلالها تتبعوا التغيرات بالقلب لدى 4279 مريضاً في منطقة ميونيخ الكبرى، وفي هذه الأيام لعبت ألمانيا عدد من المباريات في أيام محددة وتلاها فترة 6 أشهر لم يتم لعب كرة القدم في المدينة.

ولوحظ خلالها أن مشاهدة مباراة كرة قدم مُرهقة نفسياً أو موترة، تزيد  بشكل عام من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية الحادة بأكثر من الضعف. الخطر هُنا أكبر بالنسبة للرجال، فكانت احتمالية تعرضهم لأزمة قلبية في يوم المباراة 3.3 مرة أكثر من الأيام الأخرى.

وفي بطولة كأس العالم 2018 في روسيا، أصيب مشجع رياضي ياباني يبلغ من العمر 52 عاماً بألم في الصدر أثناء مشاهدة بث مباشر لمباراة اليابان ضد بلجيكا، وظهرت الأعراض على الرجل مباشرة بعد أن أحرزت بلجيكا هدفاً وتعادلت المباراة بنتيجة 2-2 في الدقيقة 74. ولكن لحسن الحظ، تعافى الرجل، لكن أطباءه نصحوه بعدم مشاهدة المباراة المقبلة لمنتخب بلاده.

وعن ارتباط مشاهدة مباريات كرة القدم وخطر الإصابة بالأمراض القلبية، تقول إحدى الدراسات في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، إن خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ينخفض بشكل عام في حالة فوز الفريق، والعكس عند الخسارة يتعرض الأفراد لمخاطر الأزمات القلبية.

ومن مشاعر الغضب والإحباط لحالات الصمت والاكتئاب، أثبتت دراسة عن «الديناميكيات العاطفية لمشجعي كرة القدم في الفوز والخسارة»، أن المشجعين الخاسرين يتعرضون إلى درجات أكبر من الشعور بالملل والغضب، والتجاهل والاستياء، بل يصل إلى الشعور في بعض الأحيان للإحساس بالإذلال، ومعهم ينخفض الشعور بالاسترخاء وتحدث تغيرات بمستويات المشاعر السارة.

وفي  أكبر مكتبة طبية بالعالم المكتبة الوطنية للطب NLM في ماريلاند بالولايات المتحدة،  أجريت دراسة ربطت بين الإجهاد البدني والعاطفي وزيادة حدوث متلازمة الشريان التاجي الحادة (ACS). منها تبين أن الأحداث الرياضية مثل مباريات كرة القدم يمكن أن تسبب للمشاهدين تجربة غير صحية للقلب والأوعية الدموية.

خلال التجربة سُجلت بيانات نوعين من المرضى معرضين لمتلازمة الشريان التاجي الحادة ACS بداية من 2018 إلى 2020. النوع الأول من المرضى كان الذين تم قبولهم للانضمام للدراسة في اليوم الذي لعب فيه الفريق المحلي، والنوع الثاني تم إدراجه بالدراسة في أيام لا تحمل أي مباريات. ومنها تم تحديد عوامل الخطر القلبية الوعائية، وفي ذلك درجة العداء والقلق.

وأشارت النتائج أن الانتصارات أدت إلى تقليل عدد حالات الدخول إلى ACS بنسبة 30٪، بالمقابل أدت الخسارة المحلية إلى زيادة حالات دخول المستشفى بأكثر من 30٪.

أما استنتاج التجربة فجاء بأن خسارة الفريق المحلي تؤدي لإصابة الذكور بالدخول إلى ACS في حالة كانوا يعانون في الأصل من أمراض أخرى، مثل المصابين بمرض الشريان التاجي أو مرضى السمنة والاضطرابات الدهنية، أو حتى تعاطي المخدرات.

من الذكاء التحليلي لتقدير الذات: تأثيرات الكرة الإيجابية

بالمقابل هناك علاقة بين مشاهدة كرة القدم وعلاقتها بالثقة في النفس، بل تجعل الشخص أكثر ذكاءً، تبعاً لدراسة عن تعزيز كرة القدم للتأثيرات على احترام الذات لدى المتفرجين الرياضيين، يتفاعل الأشخاص مع اللعبة لدرجة سرد إحصائيات كل هدف للاعبين المفضلين، فيبرعون بالتنبؤ بالنتيجة بناءً على كيفية تطور المباراة.

إضافة لتنشيط أجزاء بالدماغ تعزز القدرات اللغوية والذاكرة مع قوة التفكير من تحليل طريقة اللعب ودراسة كرة القدم دون إدراك، فتنشط مراقبة التفاصيل داخل الملعب وخطوط الأشخاص والحكم عليها. فضلاً عن تفاعل المدرب مع اللاعبين، جميعها أمور تجعل الأشخاص أكثر تحليلاً وذكاءً على المدى البعيد.

ووفقاً لمقالة بالموقع الرياضي West London Sport، فإن الكرة تُجبر المشاهدين على ممارسة تمارين ذهنية عبر معرفة تفاصيل جميع اللاعبين بأسمائهم وتاريخهم، لذا يعتقد بعض العلماء أن مشاهدة كرة القدم تشغل الجزء المسئول عن الذاكرة والتواصل في الدماغ تبعاً للتحليل المستمر للعبة بتفاصيلها الدقيقة، سواء كانت في الملعب أم أمام التليفزيون.

وفضلاً عن الحالة المزاجية الفائقة عند فوز الفريق، تخلق كرة القدم شبكة اجتماعية وثيقة بين الأصدقاء والأقارب، ومعها يزداد الشعور بتقدير الذات، وفقاً لدكتور «دانيال وان»، الأستاذ في جامعة ولاية موراي التي يركز برنامج أبحاثها على علم نفس القاعدة الرياضية، فيقول، إن متابعة كرة القدم نشاط صحي نفسياً للغاية، ويزيد من الانتماء، وربط الأشخاص مع من يشبهونهم فيقلل من مستويات الشعور بالوحدة مقارنة بأولئك الذين لا يهتمون بالرياضة.

فيشعر المشجعون بتعزيز احترام الذات بعد مشاهدة فريقهم يفوز بمباراة كبيرة. وتبعاً لتجربة بجامعة برلين وجد الباحثون أن مشجعي كرة القدم الجامعية تمتعون بتقدير أفضل للذات بعد فوز الفريق لمدة يومين كاملين على الأقل، لأن مجرد الشعور بالتواصل مع الآخرين أثناء مشاهدة اللعبة يساعد في الحفاظ على احترام الذات والشعور بالانتماء لدى مجموعة، هذا ما قالته أستاذة الاتصالات بجامعة برلين Dr. Silvia Knobloch. بعد تجربة للطلاب توصلت من خلالها أن ثقتهم بأنفسهم زادت أثناء الحديث مرة أخرى عن المباراة خلال أيام من انتهائها في محيطهم مع الأصدقاء، سواء بالمكسب أو الخسارة، مقارنة بمن لم يشاهدوا المباراة، فيفقدون جزء من تواصلهم مع المجتمع.

في النقطة نفسها نُشرت دراسة في مجلة Communication and Sport تفيد بأن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل عشاق الرياضة يميلون إلى الاهتمام بفرقهم الرياضية المفضلة، هو شعورهم بالرضا عن أنفسهم عندما يفوز فريقهم. وتزيد من ربطهم بمجتمعاتهم المحيطة؛ لذا من الأفضل دائمًا مشاهدة الألعاب بمصاحبة أشخاص آخرين.