ظلام رقمي دامس؛ هذا ما كان يشعر به العالم ليلة أمس ولمدة 6 ساعات كاملة. أو على الأقل نصف سكان كوكب الأرض ممن يستخدمون شبكة التواصل الاجتماعي الزرقاء «فيسبوك»، وخدماتها الأخرى مثل «ماسنجر» و«واتساب» و«إنستجرام»!

نحن لا نعرف بعد تحديدًا السبب الكامن وراء حدوث هذا الانقطاع الهائل، ولكن على الأقل لدينا بعض المعلومات حول كيفية حدوثه. حسنًا ما الذي حدث تحديدًا؟

ما الذي حدث لشركة «فيسبوك»؟

أفادت شركة Kentik، وهي شركة مراقبة شبكات في سان فرانسيسكو، أنه في الساعة 05:39 مساءً بتوقيت القاهرة، يوم الإثنين 4 أكتوبر، قام شخص ما داخل شركة «فيسبوك» بتحديث سجلات بروتوكولات التوجيه الحدودية Border Gateway Protocol، أو اختصارًا (BGP)، ومن هنا بدأت المصائب، فما دور تلك البروتوكلات تحديدًا؟

بالتأكيد مر عليك مصطلح نظام أسماء النطاقات، أو DNS، وهو ما يمكن وصفه بدفتر عناوين الإنترنت، ودوره ترجمة أسماء المواقع التي تكتبها في المتصفح URL مثل ida2at.com إلى عناوين بروتوكول الإنترنت IP، وتلك العناوين يمكن اعتبارها المنزل الذي تعيش داخله تلك المواقع على شبكة الإنترنت.

مشاكل نظام DNS شائعة ومنتشرة كثيرًا، وفي الغالب تكون السبب وراء انقطاع أو سقوط موقع معين من الشبكة، ويمكن أن تحدث بسبب مختلف أنواع الأسباب الفنية، التي غالبًا ما تتعلق بأخطاء ومشاكل في الإعدادات، ولكنها في معظم الأوقات تكون واضحة نسبيًا ويمكن حلها سريعًا. ولكن ما حدث في حالة «فيسبوك»، أمس، كان أكثر خطورة.

المشكلة الأساسية هنا أن موقع «فيسبوك» قد سحب السجلات الرقمية الأساسية لبروتوكولات التوجيه الحدودية BGP التي تحتوي على عناوين IP الخاصة بأسماء النطاقات للشبكة DNS. إن كان DNS هو دفتر عناوين الإنترنت، فإن بروتوكول BGP هو نظام الملاحة، الذي يقرر كيف تسير البيانات وأي طريق تسلكه، بينما تسافر في رحلتها من جهازك وحتى الوصول إلى سيرفرات المواقع المختلفة.

ببساطة يمكن اعتبار تلك السجلات الرقمية الأساسية بأنها تقوم بدور خرائط جوجل GPS، ولكن بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الذكية الأخرى المتصلة بالإنترنت، تلك السجلات تخبر الأجهزة المختلفة كيفية العثور على موقع «فيسبوك» على شبكة الإنترنت.

بمعنى أبسط، عندما تبحث عن عنوان موقع «فيسبوك» Facebook.com داخل متصفح الإنترنت الخاص بك، فإن تلك السجلات تخبر جهازك أين يبحث عن سيرفرات الشركة، وعندما يصل الجهاز إلى تلك السيرفرات تظهر لك صفحة دخول «فيسبوك» الزرقاء المعتادة.

بينما ما حدث أن تلك السجلات اختفت فجأة، كأن شخصًا ما أحرق كل تلك الخرائط، فأصبح جهازك، وهاتفك الذكي وأي شيء متصل بالإنترنت، لا يستطيع إيجاد «فيسبوك». المشكلة ليست في جهازك أو هاتفك، المشكلة هنا أكثر تعقيدًا، لأن موقع «فيسبوك» اختفى بالمعنى الحرفي للكلمة من على شبكة الإنترنت. كأن الظلام هنا أصاب الشبكة الاجتماعية الزرقاء بأكملها، فأصبحت مخفية عن أعين الأجهزة على الإنترنت!

وبالطبع، مع اختفاء موقع «فيسبوك»، جاء اختفاء باقي الخدمات، مثل تطبيقي المراسلة «ماسنجر» و«واتساب»، وتطبيق مشاركة الصور «إنستجرام». وهذا ترك مليارات المستخدمين دون أي شبكات تواصل اجتماعي، كأننا رجعنا بالزمن عشرين عامًا!

المشكلة الأكبر، أن هذا الانقطاع لم يؤثر على الخدمات المعتادة لشركة «فيسبوك»، لكنه أصاب كذلك أدوات «فيسبوك» الداخلية التي يستخدمها موظفو الشركة للعمل والتواصل فيما بينهم. وذلك لأن البريد الإلكتروني والأدوات الخاصة بالمنصة تُدار جميعًا من داخل الشركة، وعبر نفس النطاقات التي اختفت من على شبكة الإنترنت بالكامل. تعطل كل تلك الأدوات أدى بالفريق إلى استخدام أدوات خارجية لإكمال أعمالهم، لكن ظلت المشكلة الرئيسية دون حل.

هل هي عملية اختراق كبرى؟

تلك التغييرات قد جاءت من داخل الشركة بالفعل، لأن «فيسبوك» تتحكم في تلك السجلات داخليًا، وهنا حدث خطأ ما تسبب في محو تلك الخرائط التي تحدثنا عنها مما سبب مشكلة الانقطاع. وقد أشار الفريق الهندسي لشركة «فيسبوك» أن المشكلة كانت بسبب تعديل إعدادات على أجهزة التوجيه الرئيسية داخل سيرفرات الشركة.

حدثت مثل تلك المشكلة خلال العام الماضي، ورأينا عددًا من هذه الانقطاعات الكبرى لشركة «فيسبوك» وخدماتها المتنوعة، إذ كان لديهم نوع من تحديثات الإعدادات لشبكتهم العالمية التي انحرفت عن مسارها أيضًا، لكن حينها لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا. ويتوقع معظم الخبراء أن هذه المرة أيضًا هم من فعلوا ذلك، لكن الأمر تفاقم بشكل لا يمكن السيطرة عليه.

ما سبب تفاقم المشكلة أكثر، أنهم فقدوا قدرتهم على الدخول إلى سيرفرات الشركة على الشبكة، لأنها اختفت كما شرحنا، بالتالي أصبح من المحتم أن يذهبوا إلى مقر الشركة نفسه، وحل المشكلة يدويًا من الداخل. ولكن يبدو أن الموجدين هناك لم يملكوا المعرفة الكافية بكيفية حل تلك المشكلة، وكان عليهم انتظار بعض الخبراء لكي يتمكنوا من حلها!

كما أشارت تغريدة من صحفية في «نيويورك تايمز» إلى أن أحد موظفي «فيسبوك» أخبرها بمواجهتهم مشكلة في الدخول إلى مباني الشركة، لأن كروت الدخول الخاصة بالموظفين تعطلت بسبب ارتباطها بالنظام، وبهذا واجه مهندسو «فيسبوك» مشكلة في الوصول إلى خوادم الشركة بالداخل لكي يقوموا بتحميل سجلات BGP جديدة إلى شبكة الإنترنت. وهو أحد الأسباب الرئيسية في استمرار هذا الانقطاع الضخم لمدة 6 ساعات كاملة.

تسريبات فضائح من داخل فيسبوك!

المصادفة الغريبة، أن سقوط خدمات «فيسبوك» جاء بعد ساعات قليلة من بث حلقة برنامج 60 دقيقة، على شبكة CBS، التي أذاعت مقابلة مع موظفة سابقة لدى «فيسبوك» وهي فرانسيس هوجن، التي سرّبت مؤخرًا عددًا من الوثائق الداخلية التي تدين الشركة بأنها على علم بأن منتجاتها تسبب أضرارًا ضخمة للمستخدمين، وأن الشركة تعطي الأولوية للأرباح بدلًا من أن تأخذ خطوات أكثر جدية للحد من الإساءة على منصاتها المختلفة، بما في ذلك المعلومات المضللة والكاذبة وخطاب الكراهية.

تشير الوثائق إلى أن خوارزميات «فيسبوك» تضخم وتركز على الكراهية والمعلومات الكاذبة والاضطرابات السياسية، لكن الشركة تخفي ما تعرفه بالطبع. ظهرت تلك الوثائق أولًا، الشهر الماضي، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، لكن لم يُكشف حينها عمّن سرّبها، ولكن في حلقة برنامج «60 دقيقة»، كشفت فرانسيس هوجين عن هويتها لتشرح لماذا قدمت تلك الوثائق التي تدين شركة «فيسبوك».

الإنترنت بأكمله يتداعى!

عندما تختفي منصة بحجم «فيسبوك» من شبكة الإنترنت، فإن هناك تداعيات ضخمة تحدث على طول الطريق. على سبيل المثال، مواقع الويب التي تهدف إلى إخبارك إن كانت الخدمات المختلفة معطلة، مثل Is It Down Right Now، وقعت تحت ضغط هائل بسبب كمية الأشخاص الذين يحاولون رؤية حالة «إنستجرام» و«فيسبوك».

كما أفادت شركة «CloudFlare»، وهي شركة تقدم تشغيل خدمات DNS، بأنها اضطرت إلى الاستعانة بموارد إضافية لكي تواكب محاولات ملايين المستخدمين في إعادة تحميل موقع «فيسبوك»، أو «إنستجرام» أو «واتساب»، مرارًا وتكرارًا.

ولكن ربما المستفيد الأكبر من هذا السقوط كان منصة «تويتر»، برغم أنها عانت أيضًا من بعض البطء بسبب انتقال ربما مليارات المستخدمين إليها، حتى أن الحساب الرسمي للمنصة، وحساب مؤسسها جاك دوروسي، كان سعيدًا وبدأ باستغلال الوضع ونشر بعض التغريدات الساخرة.

 ولكن في حدود الثانية عشرة صباحًا، بدأت خدمات «فيسبوك» بالعودة تدريجيًا. الأمر لا يتعلق كثيرًا بالقصة الدرامية لكيفية انهيار وسقوط الإنترنت بأكمله، أو باختراق من هاكر صيني يبلغ من العمر 13 عامًا، أو مثل هذه النظريات المنتشرة حاليًا، بل يمكن القول إنه متعلق أكثر بنظام واحد ضخم ومترابط، وربما ينهار النظام كأي شيء آخر بسبب بعض الأخطاء الفنية أو البشرية، وربما لا نشعر بمثل تلك المشاكل دائمًا لأن هناك أشخاصًا يراقبون الوضع ليلًا ونهارًا، ولكن عندما تجتمع أكثر من مشكلة في نفس الوقت فسنشعر حتمًا كأن العالم ينهار!