وصف الله مصر في القرآن من خلال طلب نبيه يوسف «اجعلني على خزائن الارض»، فكانت مصر هي سلة خبز العالم وخزائن الرزق لمن حولها، ومرت مصر بأزمات سياسية واقتصادية جراء تعدد المحتلين، وبعد انتهاء فترات الاحتلال دخلت مصر مرحلة الحكام الجدد بعد ثورة 1952 تغيرت التركيبة الاقتصادية المصرية، وحل محل الباشوات الذين استطاعوا أن يجعلوا اقتصاد مصر قويًا ومميزًا قبل الثورة من خلال فهمهم لآليات العمل الاقتصادي، فحلّ محلها طبقة من الضباط الذين لم يفهموا ولم يدرسوا يومًا كيفية صناعة الأموال والنهوض بالاقتصاد، مدعمين في ذلك بالنظرة الاشتراكية التي فرضت على الشعب؛ فانهارت الثروة الزراعية، خصوصًا القطن بعد تأميم بورصته، والمزارع المتخصصة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، إلا أن مصر لم تمر في آخر 70 عامًا بأزمة اقتصادية كهذه التي تمر بها اليوم، حتى مع خوضنا حرب 1973، وحتى مع الانهيار المالي العالمي 2008.

فترى ما الذي حدث لخزائن الأرض آخر عامين؟ في سلسلة المقالات هذه، سوف نقوم بتوضيح ما الذي حدث تحديدًا في اقتصاد مصر منذ عام 2014 وحتى اليوم وكيف يجري تغيير معالم الاقتصاد المصري بالكلية.

أريد أن أوضح في الحلقة الأولى ما هي خصائص ودعائم الاقتصاد المصري وما هي أركان الاقتصاد الحكومي؟


خصائص الاقتصاد المصري

الحقيقة أن الاقتصاد المصري مختلط الأنشطة، فأنت لا يمكنك أن تقول أن مصر دولة صناعية، رغم أن عدد المصانع أكثر من 200 ألف مصنع بشكل رسمي وغير رسمي، وأن مصر تستورد مواد خامًا للصناعة ومعدات للإنتاج بنسبة 80% من حجم استيراد مصر الكلي، تقريبا 50 مليار دولار سنويا.

ورغم كل ذلك لا يمكننا أن نقول أن مصر دولة صناعية، لأن حصيلة الصادرات الصناعية في مصر لا تتعدى 8 مليار دولار سنويًا، وهو ما يعني أن السوق المصري المحلي يستطيع استيعاب كل الإنتاج المحلي؛ فطبقا لإحصائيات جهاز التعبئة والإحصاء المصري: يقدر إنفاق المصريين على شراء السلع والخدمات بـ 540 مليار جنيه سنويًا، ولا يمكننا أن نقول أن مصر دولة زراعية رغم صدارة في مصر إنتاج وتصدير الفواكه وبعض الخضروات وتميز المنتج المصري نسبيًا، إلا أن مصر تظل ثاني أكبر مستورد للقمح والحبوب على مستوى العالم.

ولا يمكن أن نقول أن مصر دولة خدمية رغم تميز قطاع تكنولوجيا المعلومات وتحقيق الميزان الخدمي فائضًا، وليس عجزًا على غرار الميزان التجاري، ولكن معدل نمو شركات تقديم الخدمات ضعيف وقليل التطوير على غرار الهند المنافس الشرس لمصر في مجال الخدمات.

مما سبق يتبين أن الاقتصاد المصري مختلط ما بين الزراعي والصناعي والخدمي في محاولة لتغطية الاستهلاك المحلي، وهو ما لا يحدث في قطاعات عديدة، وهو ما يتم تغطيته بالاستيراد الخارجي. وكانت الدولة المصرية تحاول على مدار 50 سنة زيادة كل نشاط أو على الاقل محاولة تثبيت معدل نموه دون تراجع من خلال سياسات تحفيزية: فقطاع الصناعة كان هناك دعم للطاقة فى مجال للمصانع وتوفير التمويل البنكى لهم ودعم الصادرات والشراكة مع جهات دولية واقليمية لتطوير الصناعة ويقدر عدد العمالة المؤمن عليها فى المصانع 3 مليون عامل، ولكن منذ عام 2013 حتى اليوم بدء هناك انهيار للصناعة من غلق للمصانع حيث وصل عدد المصانع المغلقة فقط خلال عام 2016 الى 2000 مصنع وهى من المصانع المرخصة رسميا فى مصر وهو ما يزيد فى عدد المصانع الغير مرخصة فترى ما الذى حدث فى الصناعة المصرية؟

على الجانب الآخر سعت الدولة منذ حقبة السادات وحتى عام 2013 إلى زيادة الرقعة الزراعية، وتأمين السلع الزراعية الإستراتيجية مثل الأرز والسكر، وعدم المساس بهم. وأيضا الإسقاط الدائم لديون الفلاحين لدى بنك التنمية الزراعي، ويصل عدد المشتغلين بمجال الزراعة 5.2 مليون فلاح، حتى الزراعة اندثرت البقعة الزراعية المصرية وفتحت مصر باب استيراد الأرز في سابقة لم تحدث، وازداد معدل تبوير الأراضي وانخفاض صادرات مصر الزراعية والغذائية 20%، فترى ما الذي حدث في قطاع الزراعة؟

وأيضا سعت الدولة في حقبة الرئيس مبارك في تدعيم تكنولوجيا المعلومات، ويمكن أن نقول أن لها السبق في دخول مصر عصر التكنولوجيا من توطين للشركات الكبيرة في مصر، فأصبح لدى مصر كوادر بشرية تحتل أرقى المناصب الوظيفية في معظم الشركات العالمية الكبيرة، ولكن قطاع التكنولوجيا شهد أكبر هجرة من المورد البشري إلى دول الخليج وأوربا، وأصبحت معظم عائدات ذلك القطاع تذهب إلى حسابات بنكية في دول أخرى، فترى ما الذي حدث في قطاع التكنولوجيا؟


أركان الاقتصاد الحكومي

يتبين أن الاقتصاد المصري مختلط ما بين الزراعي والصناعي والخدمي في محاولة لتغطية الاستهلاك المحلي، وهو ما لا يحدث في قطاعات عديدة.

في الحقيقة لا يوجد ما يسمى اقتصاديًا أركان الاقتصاد الحكومي، ولكن في مصر أصبح هناك أعمدة مقدسة لإدارة المنظومة الاقتصادية في مصر، من حيث الإيرادات وموارد العملة الصعبة وأيضًا النفقات، فدولة كمصر تعتمد إيرادتها دوما على الآتي (الضرائب – المنح – الاقتراض – الإيرادات الأخرى)، ويعتبر باب الضرائب وباب الإيرادات الأخرى أكبر ممولين للدولة بما يفوق 97% من إجمالى الإيرادات. ولكن كانت كل الحكومات السابقة بعد عام 2001 تنتهج سياسات ضريبية إصلاحية ومريحة لمجتمع الأعمال، مما أدى إلى حصيلة الضرائب في عهد حكومة نظيف، وحتى الحكومات المتعاقبة لم تستطيع أن تضع توقعات عالية لزيادة حصيلة الضرائب بشكل كبير؛ من أجل تشجيع القطاع الخاص على العمل وتغيير مفهوم الجباية.

منذ عام 2014 قفزت توقعات الحكومة لزيادة الضرائب من 138 مليار في 2012 إلى 433 مليار جنيه في 2016، وهو أمر غير معقول بالنسبة لاقتصاد مصر الذي يعاني من تراجع أصلًا.

وكان البديل لزيادة الإيرادات هو محاولة زيادة باب الإيرادات الأخرى، وهو يمثل دخل قناة السويس وهيئة البترول وغيرها والبنك المركزي، ولكن في الفترة الأخيرة منذ عام 2014 قفزت توقعات الحكومة لزيادة الضرائب من 138 مليار في 2012 إلى 433 مليار جنيه في 2016، وهو أمر غير معقول بالنسبة لاقتصاد مصر الذي يعاني أصلا من تراجع. وهنا يدور السؤال: ما الذي حدث لواضعي السياسات الضريبية في مصر؟

قدس الأقداس في الموازنة العامة؛ هناك بندان أساسان في موازنة الدولة الحكومية كانا يعتبران خطًا أحمر على مدار 60 عامًا، وهما بند الدعم وبند الأجور بل إن الحكومات المتعاقبة كانت تسمى هذا الجزء بالجزء الاجتماعي، وكان لا مساس به بل العمل على زيادته، وكانت كل مناورات الحكومة تدور حول كيف يصل الدعم إلى مستحقيه وزيادة الرواتب لموظفي الحكومة، فيما بات يسمى بالعلاوة السنوية (العلاوة يا ريس). لكن في الفترة من 2014 حتى اليوم برنامج الحكومة منصب أساسًا على إلغاء الدعم سريعًا، وليس تدريجيًا وتخفيض الرواتب. فما هو الدافع وراء هدم المعبد والمساس بقدس الأقداس؟

قد يدور في ذهن القارئ سؤال: هل كانت تعتبر سياسات مبارك سليمة؟ الحقيقة الواضحة أن سياسات مبارك حققت معدل نمو 8% وصف بأنه أحد أعلى معدلات النمو في العالم وقتها، واستطاعت حكومة هشام قنديل أن ترتفع من تراجع معدل النمو من -4.6% إلى 2.4% بنفس سياسات مبارك السابقة، في حين أن الحكومات من 2014 لم تستطيع رغم كل ذلك أن ترتفع من 2.4% إلى 5% وفق تقديرات البنك الدولي.

في الحلقات القادمة سنتناول بالتفصيل كل النقاط التي حدث فيها تغيير وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وما هي آثاره؟ وهل هناك حلول أفضل؟