لا تتوقف الصحافة العالمية عن الانبهار بتطورات شباك الإيرادات في المملكة السعودية، أحدث الانبهارات كانت تخص السينما المصرية بوجه خاص، 3 أفلام مصرية كانت ضمن أعلى إيرادات في المملكة خلال 2021، وأحدهم اعتلى القمة بفارق محترم عن أقرب منافسيه من هوليوود، لكن تأثير القوة الناعمة السعودية الجديدة سيتجاوز لغة المال.

قبل 4 سنوات فقط، سمحت المملكة السعودية بالعروض السينمائية بعد 35 سنة من المنع، وتم افتتاح أول عرض سينمائي في أبريل 2018 بفيلم Black Panther في العاصمة الرياض، لتصبح السعودية أسرع الأسواق السينمائية نمواً بالعالم، حتى بعد تباطؤ هذا النمو بسبب الإغلاقات المتكررة خلال جائحة كورونا بآخر سنتين.

بنهاية 2021 وصل عدد الشاشات بالمملكة إلى 430 شاشة، وهو رقم يعادل عدد الشاشات المصرية الآن (أكبر صناعة سينما عربية) وربما يفوقه، وعرضت هذه الشاشات 340 فيلماً بلغ مجموع إيراداتهم 238 مليون دولار (أكثر حتى من الإمارات التي كانت إيراداتها 122 مليون دولار).

أين يقف الرجالة؟

الأداء القوي للأفلام المصرية في شباك الإيرادات السعودي لم يكن مفاجئاً، فمن خلال متابعات حساب «السينما السعودية» على تويتر، وهو حساب مرتبط بالهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية؛ احتلت الأفلام المصرية موقعاً واحداً على الأقل ضمن أعلى 5 أفلام في شباك التذاكر السعودي خلال معظم أسابيع 2021.

المفاجأة كانت في احتلال فيلم «وقفة رجالة» لقمة شباك التذاكر بأكثر من 15 مليون دولار، حسب إحصائية شركة كومسكور للاستشارات وتحليل البيانات التي نشرتها مجلة فارايتي. ليتفوق الفيلم المصري متوسط الميزانية على أفلام هوليوودية ضخمة مثل «Spider-Man: No Way Home» صاحب أعلى إيرادات عالمية في 2021، وأحدث أفلام جيمس بوند «No Time to Die»، والجزء التاسع من سلسلة«Fast & Furious».

جمع فيلم «وقفة رجالة» معظم إيراداته في أقسى فترات التباعد الاجتماعي وتحديد سعة دور العرض، وبعدد شاشات أقل من التي توافرت للأفلام الأخرى. 

الـ15 مليون دولار السعودية، مع 2.6 مليون أخرى من مصر والإمارات، تجعل فيلم «وقفة رجالة» رابع أعلى الأفلام العربية في الإيرادات العالمية على الإطلاق، بعد حساب التضخم بقيمة الدولار.

 

محلياً، توقفت إيرادات الفيلم عند 25.8 مليون جنيه، ليكون بالمركز الخامس في 2021 بعد أفلام الصيف وعيد الأضحى. لكنه سيصبح أعلى فيلم مصري في الإيرادات العالمية، حتى بعد معادلة التضخم في قيمة الجنيه.

والمفارقة في حالة وقفة رجالة هي أنه ليس فيلماً يحمل أية علامة استثنائية يمكن أن تجعله يصمد في أي مقارنات، سواء تاريخياً، تجارياً، أو فنياً. العلامة الأهم التي ستتصل به هي كونه أولى علامات التأثير السعودي الجديد على صناعة السينما المصرية.

مش هو

خلف وقفة رجالة يأتي فيلمان مصريان بقائمة العشرة الأوائل في شباك تذاكر السعودية 2021: «مش أنا» للنجم تامر حسني في المركز الخامس بإيرادات 8.2 ملايين دولار، ثم «ماما حامل» في المركز العاشر بإيرادات 5.9 ملايين دولار. كلا الفيلمين يعبر بطريقته عن التأثير السعودي الجديد.

فيلم «مش أنا» انتهى في مصر للمركز الثالث بإيرادات 45.8 مليون جنيه (2.9 ملايين دولار)، ما يجعله ثاني أعلى أفلام تامر حسني بعد «البدلة» في 2018 (67.4 مليون جنيه)، كما جمع 3.2 ملايين دولار أخرى من الإمارات، وهو من توزيع شركة NStars التي وزعت في السعودية 16 فيلماً مصرياً خلال 2021، لتصبح البوابة الذهبية للسينما المصرية في السوق السعودي، وفي موقعها الرسمي تقول الشركة إنها «تتحكم بنسبة %80 من السينما المصرية كتوزيع أو إنتاج».

محمد هاشم ناقرو مؤسس «NStars» يرتبط بعلاقات وثيقة مع مجموعة «روتانا» التي تسيطر هي الأخرى على التوزيع الخارجي والمبيعات للأفلام المصرية، كان ناقرو أحد مؤسسي مجموعة روتانا وشغل بها عدة مناصب منها مدير قنوات روتانا الفضائية، وبعد مغادرته للمنصب أسس عدة شركات ترتبط بعلاقات عمل مع المجموعة.

قبل هذا كله كان ناقرو موزعاً خارجياً للأفلام المصرية خلال الثمانينيات، ومنها «سكة الندامة» و«لعدم كفاية الأدلة» (1987)، «الأنثى» و«الضائعة» و«امرأة متمردة» و«جذور في الهواء» (1986)، وكلها أفلام قام بتوزيعها من خلال شركة عائلية «محمد هاشم ناقرو وإخوته»، بينما قام بتوزيع فيلم «فضيحة العمر» (1989) لصالح روتانا. في نهاية التسعينيات أصبحت روتانا لاعباً أساسياً بالسوق المصري من خلال «الشركة العربية للفنون والنشر» التي تولت جمع أصول الأفلام المصرية ثم نقل ملكيتها لاحقاً إلى روتانا.

تبدأ علاقة الموزعين الخارجيين مع الفيلم مبكراً بمجرد اتفاق النجم مع المنتج على السيناريو الذي يصبح مجرد اسم كودي للمشروع وقد يتغير بالكامل، أو ينتقل المشروع لنجم آخر يتم التوافق عليه، وبهذه المرحلة يشتري الموزع الخارجي حقوق العرض السينمائي خارج مصر، وربما تُضاف حقوق العرض التلفزيوني أو المنصات أيضاً أو أية وسائل عرض أخرى، وهكذا يصبح الموزع الخارجي شريكاً في تمويل الفيلم.

ماما نظيفة

في مصر لم تتخطى إيرادات «ماما حامل» 4.4 ملايين جنيه (277 ألف دولار)، وأضاف 443 ألف دولار من الإمارات، لكن في السعودية استمر الفيلم عدة أسابيع بقائمة أعلى 5 أفلام حتى بمنافسة الأفلام الهوليوودية الضخمة.

يمكن تفسير سخونة الإيرادات السعودية عموماً بارتفاع سعر تذكرة السينما هناك، في 2020 بلغ متوسط سعر التذكرة بالسعودية 17.6 دولاراً، وقد ينخفض الرقم قليلاً مع افتتاح شاشات أكثر في 2021، لكنه كان الأعلى بالمنطقة مقارنة بالإمارات (12.8 دولاراً)، والكويت (11.9 دولاراً)، وهو أعلى من المتوسط في الولايات المتحدة (9.2 دولارات).

وفي الدول العربية التي توجد بها جاليات مصرية ضخمة، تبدو ميول الجمهور كأنها متأخرة عن مصر بعدة سنوات، كما حدث مع فيلم «محمد حسين» (2019) الذي لم يعد بطله محمد سعد جذاباً للجمهور في مصر، ولم يصل الفيلم إلى 5 ملايين جنيه خلال موسم عيد الأضحى بمصر، لكنه جمع ما يقارب المليون دولار بالإمارات، نفس ما حدث قبلها لفيلم «عنتر بن بن بن شداد» للنجم محمد هنيدي.

في حالة «ماما حامل» يبدو الأمر غريباً، لأنه من بطولة ليلى علوي التي أصبحت نجمة تاريخية خارج حسابات الإيرادات، ومعها نجوم بأدوار مساعدة لم يتمكن أيهم من تحقيق نجاح مشابه أو حتى الاقتراب منه، كما أن نموذج اعتماد الإيرادات على جمهور الجالية المصرية لا يبدو صالحاً بالسعودية، حيث معظم الجالية بمستوى اقتصادي لا يسمح بارتياد السينما في السعودية مع ارتفاع سعر التذكرة، وربما ليس بمصر أيضاً لعدم توافر دور العرض خارج العاصمة وعدة مدن كبرى.

ما يمكن استنتاجه هو أن الجمهور السعودي دعم الفيلم لتمتعه بمكونات ترفيهية: كوميديا عائلية آمنة، إضافة لوجود ليلى علوي التي لا تزال تتمتع بجاذبية لدى السعوديين كما يحدث مع عادل إمام حتى الآن. وهكذا يمكن توقع أن هذه الخلطة ستكون ما يبحث عنه الموزعون بالسعودية خلال تمويلهم للإنتاجات المصرية الجديدة.

يتفق هذا مع نجاح «مش أنا» بمحتواه الأخلاقي المحافظ الموجه للجمهور العائلي والتيار العام، ويفسر النجاح غير المتوقع لـ «وقفة رجالة» بأن موضوع الفيلم ونجومه ملائمون لفئات عمرية أكبر تمثل القوة المسيطرة في شباك التذاكر السعودي الآن، أيضاً يبرر عدم نجاح الأفلام الأضخم مثل «العارف»، برسائله الأمنية التوعوية المباشرة ضمن الأكشن الباذخ وببطولة أحمد عز غير المرضي عنه من الجمهور المحافظ، فجمهور الشباب السعودي تجاوز هذه الخلطة القديمة وهي أيضاً لن تجذب المشاهدين الأكبر سناً.

لا يمكن توقع ميول الجمهور بدقة في سوق صاعد بسرعة مثل السعودية، وفي نطاق نشاط الموزعين التجاريين مثل NStras وEmpire (موزعة «وقفة رجالة» و«ماما حامل»)، سيكون التأثير المتوقع على صناعة السينما في مصر أشبه بموجة السينما النظيفة في بداية الألفية.

ومن الرياض إلى القاهرة

لن يكون هذا التوجه الوحيد لأن المشاهد السعودي يحتاج مقاربات أكثر تركيباً تناسب تعرضه المكثف للسينما العالمية التجارية. خلال النسخة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كشفت مجموعة «Arabia Pictures» السعودية عن مشروعاتها التي تتضمن إنتاج وتوزيع 6 أفلام مصرية.

في مقدمة هذه الأفلام الفانتازيا الكوميدية «حامل اللقب» (بطولة هشام ماجد ودينا الشربيني) الذي بدأ عرضه في بداية فبراير 2022، ثم «القاهرة – مكة» للمخرج هاني خليفة وبطولة منى زكي، والذي قد يثير حفيظة المحافظين تجاه بطلته منى زكي التي تظهر كامرأة ذات ماض سيئ تسعى للتوبة بينما يشدها عالمها القديم لمزيد من الخطيئة، و«سنووايت» الذي فازت مخرجته تغريد أبو الحسن بجائزة IEFTA خلال ملتقى القاهرة السينمائي 2020، وهو عن الحياة الرومانسية السرية لفتاة من الأقزام، إضافة إلى مشروعات 3 أفلام تجارية أخرى.

وهناك اتجاه آخر عكسي بمشروعات الشركة، بإنتاج أفلام سعودية ذات مكون فني مصري خلف الكاميرا، مثل «الشاهد الوحيد» الذي تم تصويره في مصر من إخراج المصري أكرم فريد، وفيلم الرعب والتشويق «السجين» من إخراج المصري محمود كامل.

المكون المصري بصناعة الترفيه السعودية الجديدة بدأ في 2020 بمسلسل «وادي الجن» من إنتاج منصة viu التي نقلت تصويره لمصر بسبب تشدد قرارات الإغلاق بالمملكة وقتها، وتم تعديل القصة لتتضمن ممثلين مصريين وأنتجته الشركة المصرية iProductions، وخلال 2021 قام المخرج السعودي خالد الحربي بتصوير بعض المشاهد الداخلية لفيلمه «90 يوم» في مصر لنفس الأسباب، إضافة لعمليات ما بعد الإنتاج.

ورغم الطفرة التي شهدتها المملكة بافتتاح دور العرض ودعم وجود المرأة بصناعة السينما، ظل الاختلاط بين الجنسين ممنوعاً بشكل كامل، وفي 2019 سُمح بتوقيتات عرض سينمائية محددة يمكن أن يرتادها ذكور وإناث لا ينتمون لنفس العائلة، أو كحالة فيلم «Eternals» الذي مُنع عرضه بالمملكة ودول الخليج بسبب مشهد هامشي وسايرت الرقابة المصرية هذا المنع ضمن إطار عملها الضبابي، وهذا هو الجانب الأخطر في العلاقات السينمائية الحميمة بين مصر والسعودية؛ أن تصبح أكبر صناعة بالمنطقة أسيرة لتطورات السوق الأحدث الذي لم يستقر بعد.