في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1953، توقف الزمن بالنسبة للمريض «هنري مولايسون». فمنذ أن كان السيد مولايسون صغيرًا، عانى من نوبات الصرع، واشتدت حدّة النوبات بحلول عامه السابع والعشرين، حتى أنها كانت تعيق أداء مهام حياته، لذا قرر أن يسمح لأطبائه بإزالة جزء بحجم إصبع الإبهام من الأنسجة على جانبي دماغه. وقد كان إجراءً جراحيًا تجريبيًا في ذلك الوقت، في محاولة للسيطرة على نوبات الصرع الشديدة.

بعد إجراء الجراحة، خفّت حدّة النوبات بالفعل، لكن ظهرت مشكلة أخرى، وهي أن السيد «مولايسون» لم يستطع الاحتفاظ بأي ذكريات جديدة. كان بإمكانه أن يتذكر طفولته، وبعض الحقائق عن والديه، وحتى الأحداث التاريخية التي وقعت قبل الجراحة التي أجريت له، لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بأي ذكريات جديدة بعدها. فعندما يلتقي بشخص ثم يغادر هذا الشخص الغرفة، في غضون دقائق، لا يتذكر الشخص أو رؤيته من الأساس، مثل حالة «كريم عبد العزيز» في فيلم «فاصل ونعود».

ما كان مأساة بالنسبة للسيد «مولايسون»، أدى إلى واحدة من أهم نقاط التحول في دراسة علم الدماغ في القرن العشرين، وهو فهمنا أن المهام المعقدة مثل التعلم والذاكرة ترتبط بمناطق منفصلة من الدماغ. وكان ضعف الذاكرة الحاد الذي أصابه موضعًا للدراسة لمدة خمسة عقود حتى وفاته في ديسمبر/كانون الأول عام 2008، والذي أدى إلى وضع المبادئ الأساسية حول كيفية تنظيم وظائف الذاكرة في الدماغ.

ما الذي نعرفه عن الذاكرة؟ هذا الجزء المهم الذي يكوّن شخصياتنا ذاتها؟ ما هي أنواع الذاكرة؟ وما هي آلية عملها؟ وكيف نتذكر يوم ولادة أطفالنا وضحكاتهم الأولى بالتفصيل، ورغم هذا ننسى أين وضعنا ريموت التلفزيون، أو أين اختفت المفاتيح؟

ما هي أنواع الذاكرة البشرية؟

كان التصور القديم عن الذاكرة أنها تشبه كومة من المجلدات يُحتفظ بها في مكان واحد على رفوف المكتبة، أما الآن عرفنا أن وظيفتها ترتبط بالعديد من الأجزاء المختلفة في الدماغ، وأن الذاكرة البشرية ليست شيئًا واحدًا، وإنما تنقسم إلى أنواع مختلفة وأكثر تعقيدًا من ذلك؛ لا تقع ذاكرتنا في مكان واحد معين في الدماغ، ولكنها عملية تتم على نطاق واسع منه، وتعمل فيها مناطق مختلفة بالتزامن مع بعضها البعض.

ويعرف هذا النموذج من الذاكرة كسلسلة من ثلاث مراحل، بدلًا من أن تكون عملية واحدة، ويُطلق عليه نموذج «أتكينسون-شيفرين»، نسبة للعالمين ريتشارد أتكينسون وريتشارد شيفرين عام 1968، وهو لا يزال النموذج الأكثر شعبية لدراسة الذاكرة.

أولًا: الذاكرة الحسّية

خلال كل لحظة من حياة الإنسان، تتلقى المستقبلات الحسّية، وهي الحواس الخمسة للإنسان، المعلومات ثم يعالجها الجهاز العصبي. خلال هذه المرحلة الأولية من الذاكرة، تُخزَّن المعلومات الحسّية لفترةٍ وجيزةٍ جدًا من الزمن، لمدة قد لا تزيد عن نصف ثانية للمعلومات البصرية، ونحو ثلاث أو أربع ثوانٍ للمعلومات السمعية.

هنا، يأخذ عقلك لقطات سريعة للعالم من حولك، يتجاهل بعض اللقطات غير المهمة، ويحتفظ باللقطات المهمة التي قد يستفيد بها في وقت لاحق، وهذه اللقطات تُخزّنها الذاكرة الحسّية بشكل تلقائي، حتى أن هذه العملية تعتبر عادةً خارج نطاق سيطرة الوعي.

في الخطوة التالية، يتم تمرير هذه المعلومات من الذاكرة الحسّية إلى الذاكرة قصيرة الأمد عبر عملية الانتباه، وهي العملية المعرفية التي يختار فيها الوعي التركيز على جانب واحد من البيئة حوله بينما يتجاهل الأشياء الأخرى، مما يساهم في التركيز على المحفّزات التي نهتم بها في هذه اللحظة تحديدًا.

ثانيًا: الذاكرة قصيرة الأمد

تعمل الذاكرة قصيرة الأمد كنوع من الأوراق اللاصقة التي نكتب عليها ملاحظات سريعة، لاسترجاع مؤقت للمعلومات التي يتم معالجتها في أي وقت من الأوقات، ويمكن اعتبارها أنها القدرة على تذكر المعلومات ومعالجتها في ذات الوقت. وهي تحتفظ بكمية صغيرة من المعلومات، عادةً نحو 7 عناصر أو أقل، في حالة نشطة ويسهل الوصول إليها لفترة قصيرة من الزمن، عادةً من 10 إلى 15 ثانية، أو في بعض الأحيان تصل إلى دقيقة.

على سبيل المثال، من أجل أن تفهم معنى هذه الجملة، يجب أن تكون بداية الجملة حاضرةً في عقلك أثناء قراءة المتبقي منها، وهذه هي مهمة الذاكرة قصيرة الأمد. بعض الأمثلة الشائعة الأخرى على عملها هي الاحتفاظ بجزء من المعلومات مؤقتًا من أجل إكمال مهمة ما، مثل محاولة تذكر حجة مقنعة أثناء نقاش محتدم حتى انتهاء الشخص الآخر من الحديث، وربما تقاطعه قبل أن تنسى هذه الحجة.

وكذلك في الترجمة الفورية حيث يتعين على المترجم تخزين المعلومات بلغة في حين يترجمها شفويًا إلى لغة أخرى. ومع ذلك، فإن هذه المعلومات تختفي سريعًا ما لم نبذل جهدًا واعيًا في محاولة الاحتفاظ بها، وهي خطوة ضرورية نحو انتقال المعلومات إلى المرحلة التالية وهي الذاكرة طويلة الأمد.

غالبًا ما يُستخدم مصطلح الذاكرة العاملة بالتبادل مع الذاكرة قصيرة الأمد، على الرغم من أن الذاكرة العاملة تشير أكثر إلى العملية ككل من تخزين ومعالجة المعلومات، والتي تكون الذاكرة قصيرة الأمد مجرد عنصر واحد منها.

ثالثًا: الذاكرة طويلة الأمد

يمكن تسهيل وتحسين نقل المعلومات إلى الذاكرة طويلة الأمد عن طريق التكرار العقلي للمعلومات، أو بشكل أكثر فعالية من خلال إعطائها معنى وربطها بالمعارف الأخرى المكتسبة سابقًا. كما يمكن أن يؤخذ الدافع بعين الاعتبار أيضًا، فإذا كانت المعلومات موضع اهتمام قوي للشخص، فمن المرجح أن يتم الاحتفاظ بها في الذاكرة طويلة الأمد بسهولة أكبر.

وظيفة الذاكرة طويلة الأمد، كما هو واضح من اسمها، هي تخزين المعلومات على مدى فترة طويلة من الزمن. وعلى الرغم من انطباعاتنا اليومية من النسيان الدائم، إلا أنه من المرجح أن الذاكرة طويلة الأمد تضمحل بقدر ضئيل جدًا مع مرور الوقت، ويمكنها تخزين كمية غير محدودة من المعلومات.

تنقسم الذاكرة طويلة الأمد عادةً إلى نوعين: الذاكرة الصريحة (التعريفية)، والذاكرة الضمنية (الإجرائية).

الذاكرة الصريحة هي ذاكرة الحقائق والأحداث، وتشير إلى تلك الذكريات التي يمكن تذكرها وأنت واعٍ، أو يمكن أن نُطلق عليها ذاكرة معرفة ما هي الأشياء، وتنقسم إلى الذاكرة العرضية وهي تذكر أحداث معينة، والذاكرة الدلالية وهي معرفة المفاهيم والحقائق في العالم من حولك.

أما الذاكرة الضمنية هي ذاكرة المهارات المُكتسبة، والتي لا نحتاج فيها إلى الانتباه أو الوعي، وخاصةً استخدام الأشياء أو حركات الجسم، مثل ربط الحذاء أو العزف على الجيتار أو ركوب الدراجة، يمكن أن نُطلق عليها ذاكرة كيف تفعل الأشياء.

تُخزَّن هذه الأنواع المختلفة من الذاكرة في مناطق مختلفة من الدماغ، وتخضع لعمليات مختلفة تمامًا لكل نوع، وهو ما سنحاول معرفته في آلية عمل الذاكرة وكيفية تخزين هذه المعلومات.

ما هي آلية عمل الذاكرة البشرية؟

يمكن القول إن الذاكرة ببساطة هي القدرة على تسجيل وتخزين واسترجاع المعلومات وقت الحاجة، بمعنى أن هذه العمليات الثلاث هي العمليات الرئيسية في تكوين ذاكرة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، هناك عملية أخرى تُسمى تعزيز الذاكرة، والتي يمكن اعتبارها إما جزءًا من عملية الترميز أو من عملية التخزين، ويتم التعامل معها كعملية منفصلة بحد ذاتها. ما معنى هذا الكلام؟

عملية تسجيل الذاكرة

عملية تسجيل الذاكرة أو الترميز هي عملية بيولوجية، تبدأ من إدراك المحفّزات الخارجية من خلال الحواس، حيث تبدأ عملية صُنع الذكريات مع انتباهنا للأشياء المهمة بالنسبة لنا، والتي تقوم بتنظيمها منطقتان من الدماغ هما المهاد والفص الجبهي، إذ يسبب حدث مهم أن تُطلَق الخلايا العصبية في الدماغ بصورة أكبر وأسرع، مما يجعل هذه التجربة التي نمر بها أكثر ثقلًا وأهمية، فتزداد احتمالية أن يتم ترميز هذا الحدث كذكرى.

على سبيل المثال، في طريقي للعمل كل يوم، أشاهد وأسمع عشرات وربما مئات الأشخاص والسيارات في الشارع، أصوات ومشاهد كثيرة للغاية، ليصبح من المستحيل أن أسجل كافة الأحداث من حولي، أو حتى أن أسجل أفكاري الداخلية التي تراودني استجابةً لهذه المحفّزات.

لذا، فإن المبدأ الأول المهم لعملية التسجيل هو أنها عملية انتقائية، فنحن نسجل بعض الأحداث في بيئتنا، ونتجاهل البعض الآخر. والمبدأ الثاني هي أنها عملية خصبة، نحن نسجل باستمرار أحداث حياتنا اليومية، في محاولة لفهم العالم من حولنا.

عادةً لا يمثل هذا الأمر أي مشكلة، لأن أيامنا مليئة بالفعل بالأحداث الروتينية، لذا لسنا بحاجة إلى الانتباه لكل شيء يدور من حولنا، ولكن إذا حدث شيء ما يبدو غريبًا عن هذا الروتين، مثلًا وأنا أسير في الطريق شاهدت فيلًا، حينها سوف يسترعي الأمر انتباهي بالتأكيد، وسأحاول أن أفهم لماذا أرى فيلًا يسير في الشارع.

في يومي العادي، سأكون قادرًا على تذكر الأحداث بشكل معقول لو سألني أحدهم عنها، ربما أتذكر سماع مهرجان شعبي في المواصلات مثلًا، ومع ذلك، لنفترض أن نفس الشخص طلب مني أن أتذكر نفس اليوم ولكن بعد شهر كامل، بالطبع لن أملك أي فرصة حقيقية لأتذكر أي شيء. من المرجح أن أكون قادرًا على إعادة تخيل أساسيات الطريق الذي أسير فيه يوميًا، ولكن ليس بالتفاصيل الدقيقة لذلك اليوم تحديدًا.

ومع ذلك، إذا رأيت الفيل أثناء طريقي هذا اليوم، سيظل هذا الحدث في عقلي لفترة زمنية طويلة، وربما لبقية حياتي. سأحكي لأصدقائي ولعائلتي عن ذلك الفيل الذي يمشي وحيدًا في الشارع، وفي وقت لاحق عندما أرى أي فيل في أي مكان آخر، ربما أتذكر هذا اليوم وهذا الفيل تحديدًا.

بالإضافة إلى ذلك، عندما ترتبط الذكريات الحية مع حدث عاطفي قوي، فإنها غالبًا ما تترك تأثيرها الدائم علينا، مثل يوم ولادة طفلك، أو يوم زفافك، أو حتى الأحداث المأساوية.

تحدث عملية التسجيل على مستويات مختلفة: الخطوة الأولى هي تشكيل الذاكرة قصيرة الأمد من الذاكرة الحسّية، ثم التحول إلى الذاكرة طويلة الأمد، من خلال عملية تعزيز الذاكرة، وتبدأ العملية من خلال إنشاء أثر الذاكرة استجابةً للمحفّزات الخارجية.

تنقسم عملية التسجيل إلى عدّة أنواع رئيسية: التسجيل الصوتي وهو معالجة وتسجيل الأصوات والكلمات وغيرها من المدخلات السمعية، والتسجيل المرئي وهو عملية تسجيل الصور والمعلومات الحسّية البصرية، والتسجيل عن طريق اللمس وهو تسجيل كيف يبدو ملمس الأشياء من خلال حاسة اللمس، وأخيرًا التسجيل الدلالي وهو عملية تسجيل مدخلات حسّية لها معنى معين، أو يمكن تطبيقها على سياق معين، وليست الناجمة عن شعور محدد.

عملية تخزين الذاكرة

عملية تخزين الذاكرة هي عملية الاحتفاظ بالمعلومات المُكتسبة في الدماغ، في أنواع الذاكرة الثلاثة. كل مرحلة من هذه المراحل المختلفة من الذاكرة البشرية تعمل كنوع من المصفاة التي تساعد على حمايتنا من طوفان المعلومات الهائل الذي نواجهه بشكل يومي، وتجنبنا حملاً زائدًا من المعلومات، وتساعدنا على أن نحتفظ بعقولنا سليمة.

كلما تكررت المعلومات أو استخدمناها أكثر، ستزداد احتمالية أن نحتفظ بها في الذاكرة طويلة الأمد. ولهذا السبب، على سبيل المثال، تساعدنا المذاكرة على إحراز نتائج أفضل في الاختبارات، وهذه أيضًا هي عملية تعزيز الذاكرة، والتي تحقق استقرار أثر الذاكرة بعد تخزينه لأول مرة.

كل خبرة نمر بها تغير أدمغتنا، فنحن نسجل كل تجاربنا وخبراتنا الجديدة في هيكل جهازنا العصبي، ومع كل عملية تترك آثارًا أو بصمات جديدة، تتضمن تغيرات في الجهاز العصبي، وهي ما تُعرف باسم أثر الذاكرة أو الإنجرام (Engram). مثلما تكتب لنفسك ملاحظة لتذكرك بمهمة ما، يكتب الدماغ أثر الذاكرة، ويغير من تركيبته الخاصة للقيام بذلك.

بعد عملية التعزيز، تُخزّن الذكريات طويلة الأمد في مختلف أنحاء الدماغ، في مجموعات من الخلايا العصبية التي تستعد للإطلاق معًا بنفس النمط الذي خلق التجربة الأصلية، ويُخزّن كل مكون من الذاكرة في منطقة الدماغ التي بدأت هذا المكون. على سبيل المثال، تقوم مجموعة من الخلايا العصبية في القشرة البصرية بتخزين المشاهد المرئية، بينما تقوم الخلايا العصبية في اللوزة الدماغية بتخزين العواطف المرتبطة بها، وهكذا.

عملية استعادة الذاكرة

يشير مصطلح استعادة أو استرجاع الذاكرة إلى محاولات إعادة الوصول إلى أحداث أو معلومات من الماضي، والتي تم تسجيلها وتخزينها من قبل في الدماغ. خلال هذه العملية، يعيد الدماغ تشغيل نمط من النشاط العصبي تم توليده في الأصل استجابةً لحدث معين، مرددًا إدراكه أو تصوره للحدث الحقيقي. إعادة دماغك للأحداث لا تتطابق تمامًا مع الحدث الأصلي، وإلا فإننا لن نُفرّق بين التجربة الحقيقية وبين الذاكرة، ولكنها تختلط مع وعيك للوضع الراهن، لذا في كل مرة تحاول تذكر حدث ما، أنت لا تتذكر الحدث نفسه، ولكنك ترى تصور دماغك عن هذا الحدث.

النتيجة الطبيعية لذلك هي أن الذكريات لا تشبه مقاطع الفيديو أو الصور المسجلة، بمعنى أنها ليست ثابتة على مدار الزمن، وقد تُدمج معلومات واقتراحات جديدة في الذكريات القديمة مع مرور الوقت. وهكذا، يمكننا اعتبار التذكّر كفعل من إعادة التخيل الإبداعي.

بسبب الطريقة التي نسجل ونخزن بها الذكريات، فإن استعادة الذاكرة فعليًا هي إعادة تجميع العناصر المنتشرة في جميع أنحاء مناطق الدماغ. يمكن تشبيه الذكريات بقطع اللغز الكبير المنتشرة في كل مكان متربطةً معًا من خلال شبكتنا العصبية. لذلك عندما نحاول تذكر حدث ما، تتطلب هذه العلمية إعادة زيارة المسارات العصبية التي شكلها الدماغ عند تسجيل هذا الحدث، وتحدد قوة تلك المسارات مدى سرعة استعادتنا لهذه الذكرى.

تعيد هذه العملية الذكرى من مخزن الذاكرة طويلة الأمد إلى الذاكرة قصيرة الأمد أو إلى الذاكرة العاملة، حيث يمكننا الوصول إليها، ويمكن اعتبارها انعكاسًا لعملية التسجيل أو الترميز.

ماذا عن النسيان؟

إذا كنّا سنتحدث عن الذاكرة، فلن ننسى أن نتحدث عن الجانب الآخر والذي نعاني منه جميعًا باستمرار: النسيان. من نسيان أين وضعت مفاتيح البيت، إلى نسيان إعادة الاتصال بأحد أصدقائك، وهي أحداث يومية تقريبًا.

أثناء بحثك عن المفاتيح الضائعة، قد يبدو أن المعلومات حول المكان الذي تركتهم فيه قد مُسحت نهائيًا من ذاكرتك. ومع ذلك، لا يعني النسيان عمومًا فقدان أو محو هذه المعلومات من ذاكرتك طويلة الأمد؛ عادةً ما ينطوي النسيان على فشل في عملية استرجاع هذه الذاكرة، في حين أن المعلومات موجودة في مكان ما من ذاكرتك، إلا أنك لا تستطيع استعادتها وتذكرها.

يمكننا اعتبار النسيان عجزًا مؤقتًا أو دائمًا في استرداد جزء من المعلومات أو الذاكرة التي تم تسجيلها سابقًا في الدماغ، وهو عادةً يتبع منحنى لوغاريتميًا، بمعنى أن فقدان المعلومات يكون سريعًا جدًا في البداية، ولكن تقل وتيرته مع مرور الوقت. بشكل خاص، المعلومات التي تعلمناها وتدربنا عليها جيدًا، مثل الأسماء والحقائق ومفردات لغة أجنبية، عادةً ما تكون مقاومة للنسيان للغاية، وخصوصًا بعد السنوات الثلاث الأولى.

تقترح إليزابيث لوفتس، أستاذة علم النفس المعرفي والباحثة في الذاكرة البشرية، ثلاث نظريات تحاول تفسير حدوث النسيان.

نظرية التداخل أو التشويش

عندما تطلب من صديقك تذكر حدث مر عليه بعض الوقت، فيرد بالإجابة الشهيرة: «هو أنا فاكر اتغديت إيه امبارح»، ليدلل على أنه لا يتذكر حتى أقرب وجبة أكلها على الغداء بالأمس. في الواقع يمكنه أن يتذكر تفاصيل هذه الوجبة بالفعل، لأن الحدث كان قريبًا، وبالطبع لم يتناول أي وجبات غداء حتى اليوم التالي، لكن لو أخبرك أنه لا يتذكر وجبة الغداء منذ أسبوع فهو محق تمامًا، لأنه بالتأكيد تناول العديد من الوجبات والأصناف المختلفة خلال هذا الأسبوع.

هنا يحدث التداخل أو التشويش، وفقًا لهذه النظرية، يحدث النسيان نتيجة لتداخل الذكريات المختلفة مع بعضها البعض. كلما كانت الأحداث مماثلة لبعضها، يحدث تداخل أكثر فيما بينها، مثل وجبات الغداء والتي تتكرر يوميًا تقريبًا.

يمكن تقسيمه إلى نوعين: التداخل بأثر رجعي، ويحدث عندما تتداخل المعلومات المُكتسبة حديثًا مع الذكريات القديمة. والتداخل الاستباقي، ويحدث عندما تتسبب المعلومات المُكتسبة سابقًا في صعوبة تشكيل ذكريات جديدة.

نظرية تحلل أثر الذاكرة

كما عرفنا، أن تشكيل الذكريات الجديدة ينتج عنه تغيرات فيزيائية وكيميائية في الدماغ، والتي تنتج أثر الذاكرة. تدوم المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد بضع ثوانٍ، وإذا لم تبذل مجهودًا للحفاظ عليها، سيتلاشى أثر الذاكرة سريعًا. ووفقًا لهذه النظرية، أنه مع مرور الوقت، تبدأ آثار الذاكرة في التلاشي حتى تختفي. إذا لم يتم استرجاع المعلومات والتدرب عليها، سوف تضيع في نهاية المطاف.

لكن المشكلة في هذه النظرية، هي إثبات الأبحاث أنه حتى الذكريات التي لم نتدرب عليها أو نحاول تذكرها تظل مستقرة في الذاكرة طويلة الأمد، كما أن المشكلة الأخرى هي أنها لا تأخذ في الحسبان لماذا تتلاشى بعض الذكريات سريعًا، في حين تبقى ذكريات أخرى لوقت أطول؟

نظرية فشل تسجيل الذاكرة

أحيانًا تكون الذكريات هناك، إلا أننا لا يمكننا أن نصل إليها، مثل نسيان المكان الذي وضعت به المفاتيح. يرتبط سببان أساسيان لهذا الفشل في استرجاع الذاكرة بفشل عملية التسجيل، وعدم وجود إشارات أو دلائل ترتبط بعملية التذكر، مثلما تربط علامة مميزة بالمكان حتى تتذكره.

كمثال على فشل عملية التسجيل أو الترميز، يمكنك إجراء تجربة بسيطة: حاول أن ترسم نفس الرسمة على ظهر عملتك الورقية التي تحملها في محفظتك، ثم قارن ما رسمته بما هو موجود على العملة، هل تفاجأت بمدى الاختلاف بين الرسمة وبين الحقيقة؟ في الواقع أنا لا أتذكر بالفعل ما هو المرسوم من الأساس. لماذا؟

بما أنك لا تحتاج بالفعل لمعرفة ما المرسوم على ظهر العملة، لأن هناك وسائل مختلفة لتمييزها من العملات الأخرى، فيركز عقلك فقط على هذه المعلومات التي يحتاجها، مثل الحجم والشكل واللون والقيمة. فلا يمكنك تذكر ما هو المرسوم على العملة لأن عقلك ببساطة لم يسجل هذه المعلومات في الذاكرة في المقام الأول.

ختامًا، ما زلنا لم نفهم الكثير عن الذاكرة البشرية، وما زالت الأبحاث جارية، ولكن في هذه الأثناء أتمنى أن تتذكر أين وضعت مفاتيحك.