عام 1831، وبعد أن انتهى فيكتور هوجو من رائعته «أحدب نوتردام»، نظر كل من قرأها عبر النافذة المطلة على ساحة نوتردام، بجانب الأحدب المكلوم، فيما وقف هو في مشهد النهاية بندوب وجروح لا يمكن شفاؤها، وخوف من جماهير الساحة، وقد منعه الخوف من إنقاذ أزميرالدا من الإعدام… وعلى قدر تراجيدية تلك اللحظة وصعوبتها ليس فقط لرحيل أزميرالدا دون ذنب، لكن لأنك ربما توقعت أن يخرج الأحدب من مكمنه محطمًا جحافل المجتمعين في الساحة لينقذها، لكنه لم يفعل، وقد كانت تلك الصدمة الكبرى.

اشتعلت النيران وعلى حين غرة ودون أن يتوقع أحد، في جدران واحدة من أقدم المعالم التاريخية في العالم، بخطأ ربما لم يحسب من قام به ما قد ينتج عنه، مجرد عامل من بين فريق يُنفذ مهمة تجديد وإحلال، تسبب في حريق أثار الكثير من البراكين، وفي داخل كل بركان حديث يطول.


بدايات التاريخ المسجلة

في عام 1163، قرر الملك لويس السابع أن يشيد تحفة معمارية تحمل الطراز المعماري القوطي، للمسيحيين الكاثوليك في فرنسا ولمن حولها من بلدان أوروبا، وذلك لأن فرنسا لم تكن دولة ذات حدود سياسية محددة كما كان الوضع الآن، وأتمها المعماريون عام 1345 لتكون معلمًا شاهدًا على التاريخ أمام نهر السين.

ولأنها أحد معالم باريس الهامة، فقد كان لكاتدرائية نوتردام نصيب من الأحداث الهامة التي وقعت في العاصمة باريس، لكن حدثًا في خضم تاريخها الطويل، جمع أكثر من معنى في آن. فالثورة الفرنسية التي قادها الشعب ضد حكم الملك لويس، كانت سببًا في تحرر فرنسا من قمع الملكية، وكانت كذلك جزءًا من التاريخ المأساوي للكنيسة التي شهدت أول حادث دمار لها عام 1790، حين وصلت الثورة وتوابعها إلى ذروتها، ليكون ذلك سببًا في انحدار طويل شهده تاريخ الكاتدرائية، دام لما يزيد عن الثلاثين عامًا، وبدأت في العودة من جديد في عشرينيات القرن التاسع عشر.

عاصرت الكاتدرائية على مدار التاريخ أحداثًا هامة في التاريخ الأوروبي، من الاندماج بين أباطرة أوروبا إلى تتويج الأمراء ملوكًا، وحتى غزو باريس وسقوطها وعودتها؛ فتُوج هنري السادس ملك إنجلترا ملكًا على فرنسا عام 1431، حينما تغولت الإمبراطورية البريطانية في قلب أوروبا. وبعدها بما يقارب المائة عام، شهدت الكنيسة زفاف ملك إسكتلندا «جيمس الخامس» على الأميرة الفرنسية مادلين عام 1537، والذي احتضنته وهي محاطة بصيحات الجماهير وتصفيقهم، كما كان المعتاد، في تلك الوقائع.


الأهمية التاريخية: فقدان وعودة

بمرور الوقت، وانتقالاً نحو القرن التاسع عشر، فقدت الكاتدرائية الكثير من أهميتها التاريخية بالنسبة لفرنسا ولعموم أوروبا، حتى أنها تحولت إلى ما يمكن تسميته مخزنًا كبيرًا للمؤن، كما روت بعض المصادر التاريخية، إلا أن قيمتها كمعلم مسيحي للمسيحيين الكاثوليك ظل كما هو، فهي دار عبادة، وكذلك مستقر لحفلات الزفاف المسيحي في فرنسا، وذلك لأنها دُمرت إبان أحداث الثورة، ولم تدخل في ذاكرة الإحياء من جديد سوى عام 1821.

عام 1844، وحينما بدأ التفكير في باريس بشكل عام، على اعتبارها وجهة سياحية هامة للكثيرين، بدأ التفكير في تطوير الكاتدرائية، والتخلي عن المفهوم الذي غلب عليها في السنوات الماضية، واختير حينئذ المعماري الفرنسي «فيوليت لا دوك»، لتطوير الكاتدرائية وتحسين صورة المعمار القوطي الذي قامت عليه.

وبالفعل، ما قام به فيوليت كان له مفعول السحر، فأضيفت العديد من التماثيل والوجهات المزينة واللوحات إلى جنبات الكاتدرائية، لتتخذ صورة مغايرة لما كانت عليه قبل البدء في أعمال الترميم،والتي انتهت بحلول عام 1870.

وعلى الرغم من المكانة الدينية الهامة التي شغلتها الكاتدرائية بالنسبة للكثيرين، إلا أن مؤرخي فترة التطوير ذكروا أن المعماري فيوليت لم يكن كاثوليكيًا ولم يكن مسيحيًا من الأساس، بل كان معماريًا مُحبًا للفن القوطي، وقد تعامل معها من وجهة نظر معمارية خالصة.

وقد ظهرت أهمية المكانة الدينية لدى الكثير من الكاثوليك حول العالم، بعد الحادث مباشرة، حيث تحدث البعض عن أنهم لا يمكنهم تخيل رؤية كنيسة كاثوليكية أخرى في العالم، بعدما أصاب نوتردام، بجانب ردود الأفعال المتألمة من كثيرين ممن اعتادوا زيارة الكاتدرائية كل عام، والذين يبلغ عددهم ما يقارب 14 مليون شخص سنويًا.


فرنسا تحت الغزو… ونوتردام تشهد

دخلت القوات الألمانية إلى فرنسا تحت قيادة هتلر، ليتكرر من جديد سيناريو السقوط الفرنسي الذي لم ينسه التاريخ الحديث، ولكنه ربما لم يُسبِّب تغيرًا ملحوظًا في التركيبة الديموغرافية المعتادة والمعروفة عن فرنسا، لأن الغزو وفي كل مرة كان أوروبيًا خالصًا، فلم يكن هناك تغير يمكن توقع حدوثه.

وقد كانت حادثة النوافذ الزهرية أحد الشهود على الحرب في باريس، فقد صممت تلك النوافذ في كل من الجناحين الشمالي والجنوبي من الكنيسة، تحديدًا عام 1260، ليقع عليها الاختيار وقتها كأفضل قطعة فنية قبطية في العالم، وقد ظلت تلك القطع الفنية الرائعة، باقية وحاضرة على جميع الأحداث التاريخية في باريس، حتى دمرت عام 1940، إبان الغزو الألماني لباريس. وقد كان الحدث وقتها مريعًا لكل محبي الكاتدرائية، والذين عايشوها وعايشوا تاريخها على مدار قرون، لا سيما وأن تلك القطعة الفنية ظلت محتفظة بمركزها بين أفضل القطع الفنية القبطية حتى ذلك التاريخ.

وقد كانت نوتردام محظوظة كذلك لتشهد الاحتفال الفرنسي بعدها بخروج القوات الألمانية من فرنسا عام 1944، حينما سقط هتلر وحلفاؤه في شرك الهزيمة.

قد يكون الحدث في حد ذاته خارج دائرة الاهتمام بالنسبة للكثير من البشر حول العالم، حتى أن هناك الكثير من الأوروبيين أنفسهم، لم يأخذ الأمر منهم أكثر من مجرد تغريدة عبر موقع تويتر، لكن الشاهد أن احتراق معلم تاريخي مثل كاتدرائية نوتردام يعتبر حدثًا هامًا وتاريخيًا، لا يختلف كثيرًا عن الدمار الذي لحق بها إبان الثورة الفرنسية، كما أن الحادث يحمل منظورًا قدسيًا كبيرًا للمسيحيين الكاثوليك حول العالم، وستحفظه ذاكرة نوتردام كثيرًا كما حفظت ما قبله.