ألا تعي أن الهدف من «نيوسبيك» ليس إلا تضييق أفق الفكر؟ سنجعل جرائم الفكر أمرًا مستحيلًا، فلن تكون ثمة كلمات للتعبير عن ذلك الفكر.
جورج أورويل، رواية «1984»

في ذلك الاقتباس من رواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل، يشرح «سيم»، الموظف بوزارة الحقيقة، لبطل الرواية، الهدف من لغة «نيوسبيك – Newspeak» التي يعكف على وضع معجمها الجديد، حيث يرى الحزب الحاكم أن حذف كلمات اللغة الإنجليزية التقليدية وإحلال أخرى بمصطلحات جديدة سيجعل المواطن عاجزًا عن التعبير عن أفكاره التي تتعارض مع النظام، في نوع من الهندسة اللغوية.

كتب أورويل رواية «1984» عقب الحرب العالمية الثانية، ليودعها تصوره للمصير المظلم الذي كان ينتظر أوروبا تحت حكم الأنظمة الشمولية البائدة، كتنهيدة ارتياح لزوالها وصرخة تحذير من صعود أخرى في الوقت نفسه. قدمت الرواية عملية التلاعب التآمري بلغة الجماهير، ومعها عقولهم وأفكارهم، كجانب من ديستوبيا الأنظمة الشمولية، وهو أحد الاتهامات الموجهة إلى ظاهرة «الصوابية السياسية»، وإن كانت للأخيرة جوانب أكثر إثارة للجدل وأهداف أكثر جذبًا للتعاطف من الحزب المتخيل.


معنى «الصوابية السياسية»

يطلق مصطلح «الصوابية السياسية – Political Correctness» على الانضباط والرقابة اللغوية بهدف تجنب أدنى إساءة إلى الأقليات والمهمشين والمضطهدين اجتماعيًا وتاريخيًا، تكريسًا لتصورات تيارات سياسية وحقوقية متداخلة عن المجتمع المثالي، للقضاء على التمييز اللفظي والقوالب النمطية السلبية. إلى جانب الاستهداف المفترض لتغيير الأفكار عبر إبدال المفردات، تتشابه «الصوابية السياسية» مع ديستوبيا «1984» في الطبيعة السلطوية القهرية والافتعالية أحيانًا لذلك الإبدال، إذ لا يُقبل النقاش غالبًا بل يُشنع على المعترض بما يلائم الموقف، وهو مما يخيف شريحة لا تعارض أغلب الإبدالات ذاتها بل الأجواء المحيطة بالظاهرة.

من بين التغيرات التي شهدها المعجم اليومي، مؤخرًا، سواء الاعتباطية والعمدية، بوعي المتحدث أو بغير وعيه، يسهل رصد الإبدالات الخاصة بالمجموعات محل اهتمام التوجه الصوابي. على سبيل المثال، استُبدل مصطلح «المعاقين» ذو الحمولة الاجتماعية السلبية بمصطلح «ذوي الاحتياجات الخاصة» ثم إلى «ذوي القدرات المختلفة»، وتحولت «الشغالة» هربًا من حمولتها الطبقية إلى «الست اللي بتيجي تساعد ماما»، كذا تحوّلت «البغيّ» إلى «عاملة جنس»، وتحول «الأعمى» إلى «الكفيف»، وتحول «الشاذ جنسيًا» إلى «مثلي الجنس»، وتحول «إدمان المخدرات» إلى «إساءة استعمال المواد المخدرة».


تطور المصطلح وفصول المعركة

جاهز؟

تحكى عدة حوارات سياسية كأمثلة مبكرة على استخدام مصطلح «الصوابية السياسية»، ترتبط أكثرها بأروقة الحزب الشيوعي السوفيتي بعد الثورة الروسية (1917)،وترتبط أخرى بالأروقة الأمريكية المقابلة لاحقًا، حيث استخدم المصطلح لمدح ممارسات وسياسات موافقة للتوجه رغم افتقارها إلى الصوابية الأخلاقية أو المنطقية مثلًا.

ظهرت فكرة «الصوابية السياسية» أيضًا في «الكتاب الأحمر الصغير» للزعيم الشيوعي الصيني «ماو تسي تونج» المنشور عام 1964. في السبعينيات، انتشر المصطلح بين الحقوقيين اليساريين الأمريكيين باستخدامات تنوعت ما بين السخرية والإرشاد، مثل الحديث عن الجنسانية الصائبة سياسيًا (السحاق غالبًا) وغير الصائبة خلال «حروب الجنس النسوية».

مع تمدد اليسار الليبرالي وتطور ملفات النسوية ودراسات المثليين والمركزية الإفريقية وغيرها، التي تركز نشاطها داخل الحرم الجامعي، نشبت معارك حول تعديل المناهج الدراسية وإكسابها طابعًا أكثر تقبلًا للأعراق والفئات والتوجهات الجنسية المختلفة، بتأثير واضح من أجواء التعددية الثقافية الناقمة على الممارسات العنصرية في الغرب والمنادية بالتمييز الإيجابي للمهمشين والمقموعين، وهي الأجواء التي ساعدت على الاحتفاء بأطروحات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغيرهما. بدأ القلق يتسلل إلى بعض المفكرين الأمريكيين مبكرًا قبل تصاعد الخطاب الصوابي في الألفينيات، بل حتى قبل تبلور المصطلح واستقراره نسبيًا في التسعينيات.

استعداد

في عام 1987، نشر الأكاديمي الأمريكي آلن بلوم كتابه «انغلاق العقل الأمريكي: كيف خذل التعليم العالي الديمقراطية وأفقر أنفس طلاب اليوم». أثار كتاب بلوم ردود فعل متباينة، إذ حذر فيه من تنامي النسبوية الثقافية المعادية لمفهوم الحقائق المطلقة، وهو ما رآه تقويضًا للحس النقدي وتثبيطًا لحركة الفكر. في إحدى الفقرات يتذكر بلوم حال الجامعة في الماضي بحسرة، ثم يرصد ظاهرة هيمنت على اهتمام الطلاب:

عند مجيئي كانت هنا مجموعات كبيرة من مختلف الحقول والتوجهات السياسية، تجتمع دوريًا لمناقشة المشاريع التي تعمل عليها. لم يكن لهذا الوعظ الأيديولوجي وجود، بل اشتباكات فكرية جادة حول موضوعات ذات اهتمام مشترك. كان النقد الأفضل يأتي عادةً من شخص يتبنى الموقف السياسي المضاد. أما الآن فمجرد صراعات حول كلمات وأكواد أيديولوجية أو ما شابه من هراء، ولا شيء آخر.

بعد سنوات قليلة، أصدر المحرر الصحفي والناقد ال روجر كيمبل كتابه «الراديكاليون المعينون: كيف أفسدت السياسة تعليمنا العالي» عام 1990، ليعارض هيمنة «سياسات المظلومية» على الجامعات الأمريكية التي سقطت في براثن أيديولوجيين متعصبين يعملون على تفكيك الثقافة الغربية التقليدية. بعد عام صدر «التعليم المتعصب: سياسات العرق والجنس في الحرم الجامعي» للباحث والأكاديمي دينيش ديسوزا. عبر دراسة شملت ست جامعات كبرى، حاول ديسوزا إثبات قيام مجموعة من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس باستخدام اتهامات العنصرية والتعصب الجنسي والطبقي للجامعة لفرض آرائهم السياسية المتعلقة بمعايير القبول والتوظيف والمناهج الدراسية مع تهميش أهداف التعليم الليبرالي.

يتضح من كتابات بلوم وكيمبل وديسوذا أن «الصوابية السياسية» كانت قد تمددت في فراغ الحرم الجامعي بأكمله مع مطلع التسعينيات وبدأت تضيق بها الجدران. بعد أشهر قليلة من صدور كتاب كيمبل، أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب سراح «الصوابية السياسية» لينتقل الجدل إلى الصحف الشعبية وبرامج التلفاز، فخلال حفل تخرج جامعة «ميتشيغان» الأمريكية عام 1991،عبر الرئيس عن استيائه قائلًا:

اضرب

بالفعل، أشعلت خطبة الرئيس حماس التيار المحافظ وليبراليي اليمين الذي أطلق حملات مضادة للحساسيات الخطابية وتعديلات المناهج وملفات أخرى. استمر تمدد «الصوابية السياسية» بمعناها الوصائي ونبرتها الحادة إلى شتى التفاصيل اليومية والمجالات سواء المهنية والفنية وغيرها، فاستمرت الانتقادات الموجهة إليها في التصاعد والتنوع في الجدية والحدة فوصلت بعضها إلى اعتبارها جزءاً من مؤامرة تستهدف تقويض أسس الحضارة الغربية.

في العقد الأول من الألفينيات شهد جدل «الصوابية السياسية» خفوتاً نسبياً، ثم عاد للتصدر قبيل انتهاء رئاسة أوباما ومع انتقال الحكم إلى دونالد ترامب، إذ تجددت المخاوف بسبب انتشار الممارسات الإقصائية على منصات التواصل الاجتماعي وصدورها عن نجوم فن وإعلام بارزين. في الفترة الأخيرة هيمن الاستخدام السلبي على مصطلح «الصوابية السياسية» غربيًا، إذ صار يطلق على الخطابات بغرض وصمها بالسخافة والافتعال، وبالتالي نفي مصداقيتها أو جدارتها بالنقاش. في الوقت نفسه يرى فريق أن «الصوابية السياسية» أسطورة مختلقة إعلاميًا إلى حد كبير.


لماذا ينتقدون «الصوابية السياسية»؟

لقد أشعلت فكرة الصوابية السياسية الجدل في جميع أنحاء البلاد. رغم انطلاق الحركة من رغبة محمودة في إزالة حطام العنصرية والتمييز الجنسي والكراهية، فإنها تستبدل التعصبات القديمة بأخرى جديدة. إنها ترفض أي نقاش حول بعض الموضوعات، ترفض أي نقاش حول بعض التعبيرات، ترفض أي نقاش حتى حول بعض الإيماءات. […] يجول المتطرفون السياسيون في البلاد، يسيئون استخدام مزية حقوق التعبير، يزرعون الشحناء بين المواطنين على أساس الطبقات والأعراق.

يخلق رفض الصوابيون للنقاش أجواء محتقنة ويعيق تغيير الاستبطانات المفرزة للكراهية والعنصرية المستهدف إنهاؤها، كما تتجنب النضال ضد النظم السياسية وسياساتها المدنية والأمنية المسؤولة عن خلق تلك التحيزات واستمرارها، خاصة مع تبني «الصوابية السياسية» فلسفة فردانية يكاد ينحصر اهتمامها في الملف الحقوقي دون اعتبار النضال بمساحاته الأوسع والأعمق تأثيرًا، بصورة غير مجدية في نظر البعض.

تُنتقد «الصوابية السياسية» لتصاعد الروح الوصائية المهيمنة على الممارسة، حيث تجري إعادة تشكيل التصورات والقناعات لفئة لا يعترف بأهليتها، فلا يسمح لها برفض ولا يقر لها بحق في الاختلاف حتى إن كانت الأغلبية. بينما ينشد الصوابيون أهدافاً ليبرالية فإنهم يتبنون ممارسات غير ليبرالية بل تعارض أبسط قواعد الديمقراطية الغربية.

الصوابية السياسية امتداد طبيعي لفكرة أجندة الحزب الحاكم. مجموعة أخرى من اللجان المدنية تمنح أنفسها الحق في فرض آرائها على الآخرين. إنه ميراث شيوعي لكن يبدو أنهم لا يدركون ذلك.

«دوريس ليسينغ» (1919-2013)، روائية بريطانية حاصلة على نوبل للآداب

تتلقى «الصوابية السياسية» هجومًا ليبراليًا بسبب ملفات حرية الرأي والفكر والإبداع، يتعدى المفكرين إلى المبدعين أحيانًا. في مقال بمجلة «صالون» اشتكى عشرة كوميديين مرموقين (مثل «جيري سينفيلد» و«كريس روك») من ازدياد حساسية الجماهير بصورة تعيق الاستمتاع وتخنق جوهر الكوميديا. استخدم الفنانون الكوميديون – كعادتهم- تلك الحساسية وما تنتجه من أجواء مظلومية وبارانويا مجتمعية موضوعًا للسخرية، مثل إفراد المذيع والكوميدي الأمريكي «بيل ماهر» برنامجًا للسخرية من «الصوابية السياسية».

لم تقتصر الشكوى من الحساسية المتطرفة، مؤخرًا، على مجال الكوميديا. لقد انتشر ارتياب مبالغ في التعليقات البدهية حسنة النية، مثل استشعار الطبقية في القول بعدم ملاءمة حي شعبي لتسويق الكتب الأجنبية. في السياق نفسه أظهرت دراسة شاملة أطلقت عام 2018 أن أربعة من كل خمسة أمريكيين يرون أن «الصوابية السياسية» قد تجاوزت الحد في البلاد، وبلغ انتقاد الفرد لغة الآخرين وتضرره منها درجة مزعجة.

يرتبط مفهوم «الاضطهادات المصغرة – Microaggressions» بحساسية «الصوابية السياسية». الاضطهادات المصغرة هي تعليقات أو إيماءات مباشرة أو غير مباشرة، بقصد أو دون قصد، تنقل رسائل سلبية إلى أفراد مجموعة مهمشة، وتلك مساحة أخرى يصعب ضبطها. في بعض الأحيان تعتبر مبادرة الرجل بالمساعدة في حمل حقيبة ثقيلة عن امرأة أو تقديمها للجلوس في المترو نوعًا من «الاضطهاد المصغر»، أو سؤال زميل عمل صيني عن الرياضات القتالية.

يرى الكثيرون في الخوف من تفسير إغفال التنوع العرقي كاضطهاد مصغر/مبطن، مثلما يحدث بالفعل، محفزًا رئيسيًا وراء تزايد حضور الأعمال المتعلقة بالأقليات والمهمشين في قوائم ترشيحات وجوائز المسابقات الفنية والأدبية الكبرى رغم ما في ذلك من ظلم للأعمال الأكثر جودة.

يؤثر التحيز الواضح للمجموعات محل الاهتمام على مصداقية «الصوابية السياسية» وحجم التعاطف معها. يُتهم الصوابيون بالتشجيع على الإخلال بالعدالة لمسارعتهم إلى عرض الاتهامات المرتبطة بالفئات المهمشة كجرائم تعصب (عنصرية، ذكورية، طبقية، غيرها) وتبني تأويلات متحيزة لدوافع المتهم بدلًا من التعامل بموضوعية مع الاعتداء الذي لم يصح بعد. يمارس الرأي العام المتأثر بالخطاب الصوابي العاطفي ضغطًا كبيرًا في القضايا وعادة ما يصم المتهم اجتماعيًا فيتعدى الضرر المساحة القانونية إلى الحياة الاجتماعية والمهنية.

يميل الصوابيون بشكل عام إلى رد الانتقاد بتهم معلبة، مثل المبادرة إلى إرجاع أي انتقاد للسياسات النسوية إلى أفكار ذكورية رجعية، أو تفسير أي رفض للمثلية الجنسية بـ«رهاب المثلية»، وهو ما يوفر بالطبع عناء الاشتباك الفكري. في الوقت نفسه، ينتقد أنصار التوجه الصوابي استخدام مصطلح «الصوابية السياسية» لوصم الخطابات الحقوقية وأشباهها بالسخافة هربًا من الاشتباك معها، وهو ما يفعله ترامب بالفعل عند انتقاد لغته المتدنية مع خصومه.

تظل منصات التواصل الاجتماعي من أهم مساحات عمل «الصوابية السياسية» سواء لتصحيح الثقافة أو لتجييش الرأي العام، وقد مثلت ساحة رئيسية لمعارك «الصوابية السياسية» بمختلف أنواعها وتطوراتها، خاصة الجدال حول التطرف في الحساسية الخطابية بما لا يتناسب مع بنية اللغة العربية، إذ تحولت «الشغالة» إلى «الست اللي بتيجي تساعد ماما» تجنبًا للحمولة الطبقية، ثم إلى «الست اللي بتيجي تساعد المسؤول عن تنضيف البيت» تجنبًا للتمييز ضد المرأة، ثم إلى «الست/ الراجل اللي بتيجي/ بيجي تساعد/ يساعد المسؤول/ـة عن تنضيف البيت» إمعانًا في تجنب ذلك التمييز.