وائل حلاق أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا بنيويورك. تتركز كتبه ودراساته حول الفقه والشريعة الاسلامية. وهو أيضًا صاحب الكتاب الذي أثار جدلًا كبيرًا في الآونة الأخيرة «الدولة المستحيلة» الذي رأى فيه البعض نبوءة الكاتب باستحالة عودة الدولة الإسلامية مرة أخرى، ورآه آخرون أطروحة غاية في الأهمية تستحق النظر والبناء عليها. يرى حلاق نفسه أن الكتاب هو مقال في الأخلاق أكثر منه أطروحة صلبة هو فقط يستعرض التناقض بين الإسلام وقيم الدولة الحديثة ولا يقدم إجابة للسؤال الذي افترضه البعض.

لحلاق عمل آخر ضخم وهو «الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات» يتجاوز 500 صفحة. ويعد كتاب «ما هي الشريعة؟» الذي صدر عن «مركز نماء» بترجمة طاهرة عامر وطارق عثمان، مدخلًا مهمًا لفهم ما انطلق إليه حلاق في أطروحاته المختلفة. فهو يسرد في هذا الكتاب ماذا تعني الشريعة والإشكالات المتعلقة بفهمنا وتصورنا عن الشريعة، والمشكلة الدائمة المتعلقة بالحكم عليها من منظور منظومة الدولة الحديثة التي لم تظهر إلا في القرون الأخيرة نتيجة لظروف وسياقات محددة.

ما الحداثة؟

في صفحات الكتاب الأولى، يتحدث حلاق عن بعض الإشكاليات المفاهيمية التي تعيق تصور ماهية الشريعة، وتثير الحساسية تجاه المصطلح نفسه لما يحمله من دلالات مأخوذة من سياقها الأوسع نتيجة خطاب كولونيالي واستشراقي تشكّل بطريقة تصعيدية لتجفيف الشريعة واستبدالها بالقوانين والمؤسسات الغربية. فهو يحاول تفكيك هذه الإشكاليات والدلالات.

نشأت فلسفة الحداثة على عدة منطلقات أبرزها:

1. العلمانية: تقليص دور الدين وجعله في المجال الخاص به، بينما تترك المساحة السياسية للتصورات البشرية الحرة. وعلى أساسها نشأت الدول القومية الحديثة التي تقوم على القطيعة مع مؤسسة الكنيسة وإبعادها عن الحياة السياسية؛ أي إنشاء حيز سياسي مستقل عن الحيز الديني.

فبينما امتزج التحديث السياسي في أوروبا مع عملية بطيئة لتحرير النظام الإمبراطوري من سلطة الكنيسة، تكون الحيز السياسي في العالم الإسلامي تدريجيا وفقًا للالتزام بإنشاء إمبراطورية مرتبطة بعقيدة جديدة والحفاظ عليها ومحاولة إبقاء منظومتها الأخلاقية حاضرة في الحكم.

2. العقلانية والرشادة التامة للأفراد: تصور أن البشر لديهم قدرة كاملة على اتخاذ القرارات بعقلانية ورشادة تامة، وأن الحقيقة الاجتماعية حقيقة بسيطة يمكن الوصول إليها من خلال العقل البشري الحر وأدوات المعرفة الحسية.

3. الموضوعية: افتراض أن البشر يمكنهم التوصل إلى نفس النتائج بخصوص موضوع معين وبالتالي مشاعر البشر وسياقاتهم الثقافية لا تؤثر على قدرتهم على الوصول لنفس النتائج الخاصة بتفسير الواقع الاجتماعي، فالواقع هو ما يمكن الوصول إليه بالحس والملاحظة.

ومن هذه المنطلقات، نشأت المركزية الأوروبية التي ترى نفسها المصدر العلوي والأساسي لتحديد المقصود بالحياة الطبيعية والصالح لغيرهم من المجتمعات. بالتالي، عندما يشرع الغرب بمحاولة فهم الشريعة، فإنه يكون محكومًا بهذه التصورات عن الآخر والحقيقة الاجتماعية.

إشكالات مفاهيمية

تعمل اللغة على تكوين تصور خطأ أثناء محاولة فهم الشريعة، فالترجمة الإنجليزية لكلمة «شريعة» هي «Islamic Law»؛ فعندما قامت أوروبا بالنظر في شأن الشريعة وجدتها مخيبة للآمال ومحبطة تمامًا ولا تضاهي أي نسخة من القانون الأوروبي، بل وعديمة الكفاءة والفاعلية من وجهة النظر التقنينية، وكان يعتقد على نطاق واسع أنها تطبق فقط على الأحوال الشخصية، وذلك بما أنها قد عزلت نفسها مبكرًا عن الدولة والمجتمع.

كما ذكرنا سابقًا، فهذا جزء من خطاب استعماري. لكن هناك سببًا لا يمكن إهماله لهذا الخلط، هو أن العقل الغربي قد ترجم مصطلح «شريعة» إلى «قانون»، بما يحمله المصطلح من دلالات، فالقانون محكوم بمبدأ المراقبة والعقاب الذي يفتقر – مقارنة بأنماط التشريع الإسلامي – لعامل الواجب الأخلاقي الحاسم.

علاوة على ذلك، يرمز مصطلح الشريعة إلى الدين (ثقافة دينية، قانون ديني، حضارة دينية). ونظرًا للعلمانية الكامنة في الأفكار الأوروبية التي تفترض لا عقلانية كل ما هو ديني، تمّ التركيز على دينية المصطلح بينما تضاءل التوكيد على الكيفية التي تؤدي بها الشريعة وظيفتها في السياقات الاجتماعية.

والحق أن هذا الفشل المزعوم في الفصل بين القانوني والأخلاقي جعل الشريعة أكثر كفاءة وفاعلية في المجتمع، وأقل كراهة من أي كنيسة أو قانون، وأهلاً لضرب لافت من الانصياع الطوعي. فالأساس في الشريعة هو تقويم الفرد، فالالتزام بأحكام الدين وتعاليمه مرتبط بالتقوى وإيمان ديني ومختلف تمامًا عن القانون بمعناه الحديث الذي يتضمن استقلالًا عن الديني والأخلاقي.

فبينما تتجه الدولة الحديثة لإصلاح المجتمع من أعلى لأسفل وفرض سلطانها على المجتمع، تتضمن الشريعة بنية اجتماعية وأخلاقية مشتبكة مع المجتمع من قاعدته ومرتبطة بنيويًا وعضويًا بالعالم حولها، مكونة مجتمعًا أكثر ترابطًا وتجانسًا قائمًا على الأخوة الدينية ورابطة العقيدة والخير العام، وتاركة للمجتمع الحرية في إنتاج أنماط مختلفة ومتجانسة من الثقافات.

رحابة الفقه مقابل ضيق القانون

يستعرض حلاق في ثنايا الكتاب انتشار المعرفة الشرعية خلال المجتمع، فمجالس العلم والحلقات تعقد بشكل مستمر وفي متناول جميع الأفراد المهتمين، بالإضافة لخطب الجمعة التي يلقيها الأئمة. كما أن الوصول لجميع المفتين صغيرهم وكبيرهم هو أمر متاح للجميع دون كلفة مادية تقريبًا. يقول حلاق:

لقد كانت الشريعة في مختلف تجلياتها مختلطة بالأعراف والممارسات المحلية لقد كانت أسلوب حياة. ففي مستوى مذهبي، لم تكن التعاليم القانونية (أي: الفقه) تفرض نفسها على الأخلاق الاجتماعية، وإنما كانت تدل عليها وتروج لها وتدعو إليها؛ فالقاضي لم يكن سوى ثمرة مباشرة لعالمه الاجتماعي والأخلاقي، ولقد مثل المفسر الذي قام الفقه على يديه بالتوسط والعمل على إنفاذ واجب التناغم الاجتماعي. وفي المستوى الإجرائي، كان مجلس القضاء (المحكمة) يحتكم في عمله إلى العدالة والاستقامة الأخلاقية بوصفهما بنى اجتماعية ما قبل رأسمالية غير بيروقراطية، نابعة مباشرة من واقع الممارسة الاجتماعية.

يتطرق حلاق أيضًا لمسألة الاجتهاد اعتمادًا على مبادئ الشريعة، فبالرغم من تعدد الأحكام في المسألة الواحدة والممتدة من الإباحة للتحريم، إلا أن منظومة أصول الفقه قد تمكنت من تطوير آليات فقهية لضبط هذا التنوع وتحديد أي الآراء هو الأصح.

وبالرغم من الجهود المبذولة لتحجيم تعدد الآراء الفقهية، فقد ظل هذا التعدد إحدى سمات الفقه الأكثر جوهرية التي كان لها أثر جيد على القضاء؛ فلا مكان للعدالة معصوبة العينين هنا. وهذا على النقيض من التكويد القانوني (التقنين) في الغرب لدمج القوانين وصهرها في كل متجانس ومن ثم دمج أولئك الخاضعين لها بالتبع. فالفقه له قواعده الخاصة التي يدار بها، فهو لا ينخرط في هندسة الواقع ولا ضبط المجتمع كما القانون الحديث بوصفه أداة للهندسة الاجتماعية.

تطرق حلاق أيضًا لمسألة الطلاق والخلع وكيف حصلت منها المرأة على حقوقها، وإن تنازلت عن بعضها في حالة الخلع. فهي تحتفظ بالمهر المعطى لها ولا تشارك في الإنفاق على المنزل وتحتفظ بميراثها من أسرتها وكذلك بالهبات من الزوج أو الوقف.

وكذلك يتطرق حلاق لعدم التقيد التام بالنص مستدلًا بحصول الأقليات الدينية على حقوق أكثر من المنصوص عليها.

الفصل الثاني والأخير، يتحدث بشكل موجز عن تقنين الشريعة والمواجهة بين الشريعة والدولة (سواء الكولونيالية أو المحلية) وكيف حسمت المعركة لصالح الأخيرة. لكن تظل الفكرة المركزية في الكتاب هي توضيح مفهوم الشريعة وكيف أنه مركب ديناميكي ومنظومة حياتية متفاعلة مع المجتمع ومندمجة معه.

الكتاب من الكتب الثرية جدًا في محتواها بالرغم من حجمه الصغير نسبيًا، ويحتاج إلى قدر من التركيز لتحقيق أفضل استفادة منه مع كتابة أهم الملاحظات والأفكار. في الكتاب بعض المصطلحات الأكاديمية، لكن المترجم مشكورًا أثرى الكتاب أكثر بتوضيح هذه المصطلحات بشكل بسيط للغاية.

أنصح بقراءة مع هذا الكتاب «مدخل إلى الشريعة الإسلامية» لوائل حلاق والصادر عن دار نماء أيضًا. فهو معد لغير المختصين و«يقدم مقدمة موجزة حول الإسلام وشريعته» حسب المؤلف.

قراءة ممتعة!

المراجع
  1. وائل حلاق، ما هي الشريعة؟، ترجمة: طاهرة عامر وطارق عثمان، مركز نماء للبحوث.
  2. برتران بادي، الدولتان، مدارات للأبحاث والنشر.
  3. «مدخل لدراسة النظرية السياسية»، كورس لأكاديميا الشرق.
  4. وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة: عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث.