كيف يقرأ أدباؤنا العرب الواقع اليوم، في ظل الصراعات المختلفة القائمة، هل يتمكنون بالفعل من أن يكونوا مرآة لمجتمعاتهم وانعكاسًا صادقًا لآلام شعوبهم وآمالهم؟ أم أنهم يسعون جاهدين للخروج بالقرّاء والناس جميعًا إلى سماوات الأدب الرحبة والخيال المحلّق بما يكتبونه من روايات وقصص وقصائد؟ لا شك أن كل كاتبٍ وأديبٍ عربي يبقى مهمومًا بهموم وطنه متورطًا – شاء أم أبى – في الدفاع عن قضاياه، حريصًا على الكشف عن مشكلاته وأزماته، وهو في ظل هذا السعي الدؤوب يعبّر بوسيلته الوحيدة الباقية وهي الكتابة التي يطاردها هي الأخرى بعض المشاكل وتتناوشها الكثير من العقبات من مصادرة نشر أو محاصرة رأي أو حتى سجن واعتقال!

ما نستطيع أن نؤكد عليه هو أن الإبداع العربي بخير، يتواصل رغم كل الظروف الصعبة والمعقدة التي تحيط به، ورغم شكاوى وأزمات الناشرين المختلفة، لا زالت هناك فرص متاحة وكتابات واعدة وجريئة، وتجارب قوية ومختلفة، ولا تزال المطابع تمد سوق النشر والمكتبات بالعديد من المؤلفات التي تنتظر القارئ المهتم والشغوف بالأدب والمعرفة، الذي يدرك هو الآخر أن تلك إحدى وسائله الباقية للخروج مما يحيط به.


القصة القصيرة

لنبدأ بالقصة القصيرة، حيث لاحظ كثيرون أنها تشهد انتعاشا وثراءً مختلفًا هذا العام، لا سيما مع انطلاق جائزة «الملتقى» للقصّة القصيرة في الكويت، والتي أفرزت جائزتها قائمة طويلة ضمّت وحدها عشرة أسماء هامة من كتّاب القصة في الوطن العربي صدرت مجموعاتهم القصصية بين عامي 2015-2016، وصل إلى القائمة القصيرة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا خمس كتّاب، والتي حصل عليها الكاتب الفلسطيني «مازن معروف» بمجموعته القصصية «نكات للمسلحين».

ولا شك أنه من المتعذر الإلمام بنتاج الكتابة الأدبية العربية كلها في عامٍ من الأعوام، إلا أننا يمكن أن نرصد ظواهر عامة تكررت أو برزت في أكثر من عملٍ أدبي على امتداد الوطن العربي في هذا العام، ولعل أبرز تلك الظواهر في الكتابة القصصية كان هو الجنوح إلى «التجريب» لدى عددٍ من كتّاب القصة بصفةٍ عامة، وهو ما نجده بوضوح في مجموعة «مصحة الدمى» لـلكاتب المغربي «أنيس الرافعي» (التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى) والصادرة عن دار «العين» بالقاهرة، بدءًا من عنوانها الجانبي (فوتوغرام حكائي) والتي يقترح فيها الكاتب طريقة مغايرة لتلقي القصص التي كتبها وقراءتها وذلك من خلال وسيط آخر.

مجموعة «مصحة الدمي» للكاتب أنيس الرافعي

وتدور قصص المجموعة بشكل عام داخل أجواء كابوسية داخل مكان يفترض أنه «مصحّة» ويتخذ من عالم المستشفيات أسماءً لفصول كتابه، نجد في القصص بشكلٍ عام تبلور رؤية الكاتب وطريقة عرضه لجعل تفاصيل العمل/القصص عاكسة للواقع بشكل ما، وكأنه يريد أن يقول أن كل ما حدث ويحدث هو تساؤلات وأفكار تدور داخل النفس البشرية العادية، وما «الدمى»، و«المصحّة» وكل تلك الحالات المختلفة إلا انعكاسات ومعادلات موضوعية للنفس وتجليات مختلفة لها، ولعل هذا ما استطاع «أنيس الرافعي» أن يمسك به بشكل جيد ويعبّر عنه، وهي كذلك مجموعة قصصية لا تسلم نفسها بسهولة للقارئ، ولا يعتمد فيها على الطريقة التقليدية أو المباشرة في القص، بل عمد لاستخدام أكثر من طريقة والخوض بأكثر من فكرة وتقديم عالم قصصي مختلف.

كما نجد نوعًا آخر من الكتابة والتجريب في قصص مجموعة «عسل النون» للكاتب المصري «محمد رفيع» (وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى) والتي تدور في عوالم تمزج بين الخيال ومساءلة الواقع وطرح عدد من الأفكار الوجودية في قصصٍ تتحدث عن «الحكاية» نفسها باعتبارها وسيلة هامة للتواصل، وعن استخدام «الفانتازيا» لطرح رؤى مختلفة للعالم مستمدة من الحكايات الشعبية والأساطير مثل ما يفعله في قصة «نرسيس الجديد» التي يحاكي فيها أسطورة «نرسيس اليونانية» ولكنه يضيف إليه أفكارًا تتعلق بالتقدم العلمي والتكنولوجي وما يمكن أن يفرزه ويؤثر فيه، إلى القصص التي خصصها للحديث عن المرأة التي تعتبر هي محور عنوان المجموعة «عسل النون» وما تتعرض له من مشكلات وعقبات في هذا الواقع المأزوم.

كذلك تحضر الفانتازيا والخيال بقوّة وبطريقة أكثر ثراءً في مجموعة «شريف صالح» الأخيرة «دفتر النائم»، والتي نجد فيها عوالم تمتزج فيها الخيالات بالأحلام، فيما يبدو حضور «الواقع» بشخصياته وأحداثه طفيفًا عابرًا، مما يمنح فضاء التأويل مساحةً أكبر، ليجد القارئ نفسه إزاء نماذج للقصّة المختلفة المكتوبة باحتراف، يندمج القارئ في عالمها بسرعة، ويجد نفسها خارجًا منها بسرعة أيضًا، محملًا بكمٍ من التساؤلات والرغبة في استكشاف عالمه بطريقة مختلفة في كل مرة، وهو ما تفعله الكتابة الإبداعية الناجحة دومًا.

أربعة وعشرون نصًا قصصيًا تمتاز بالتنوع والتكثيف في آنٍ معًا ندور فيها حول عوالم الحلم والخيال والفانتازيا بين الطفل الذي يضيع من أبويه في «رحلة النهار والليل» أو القطار الذي لا يصل إلى الفتاة التي أحبها في «تووووت» أو ست الحسن التي تغوي الشاب فيفقد شعوره بالزمن في «كوخ ست الحسن»، وغيرها من القصص التي لا يبدو العالم فيها متشابها، أو يمكن الإمساك بتفاصيله كلها، بل على العكس تظهر المفاجأة طوال الوقت مهما بدا العالم المرسوم واقعيًا، كما تأتي النهايات طوال الوقت مفاجئة ومباغتة!

مجموعة «من هنا تمر الأحلام» للكاتبة إيناس التركي

وإذا كان عالم الفانتازيا والخيال في «تجريب» شريف صالح يبقى مرتبطًا بالواقع، فإن «إيناس التركي» تحرره تمامًا من أي صلاتٍ له بالواقع وتعيده لعالم حكايات الطفولة السحري، بكل ما فيه من رحابة واتساع في مجموعتها الجديدة؛ «من هنا تمر الأحلام» التي تنسج فيها الكاتبة قصصها وحكاياتها اعتمادًا على الخيال الحر وحده، الذي يجعل «القمر يرسل للشمس محصول كل ليلة، ويجعل الشمس توزع الحكايات على السحب العابرة في السماء، وتفرشها عبر السماوات بالتساوي، وتنهمر بها قطرات غيثٍ تحمل كل قطرةٍ منها قصةً ترويها» ويكون الري هنا موازيًا للروية!

ولكن التجريب، كما نعلم، ليس مقتصرًا على الفانتازيا والخيال وحدهما، بل ثمّة «تيمات» مختلفة يستخدمها الكتّاب في قصصهم، ولعل «النوستالجيا» أو «الحنين للماضي» واستعادة زمن الطفولة القديم الذي ورد في مجموعة «إيناس» قد حضر بشكلٍ مكثف وبطريقة أكبر عند «عمرو العادلي» في مجموعته الجديدة «عالم فرانشي»، والتي يمكن اعتبارها «متتالية قصصية» عن عالم الطفولة الجميل وذكرياته الخاصة جدًا التي يرصدها الكاتب بدقة مع البطل «أيمن» منذ بداية تفتح وعيه وهو بعمر السنتين.

ولا شك أن القارئ سيلحظ تداخل عقلية وتفكير الكاتب وحضورها في وعي «الطفل»، ذلك أن أحدًا لا يعرف على وجه الدقة كيف يرى الطفل العالم، ولكننا يمكننا أن نستعيد ذلك التفكير بعد تشكل وعينا بالكامل، لذلك نلحظ الكاتب وهو يشير إلى ذلك بإشاراتٍ عابرة إلى أن ما يرصده الطفل ويحكيه يأتي في مرحلةٍ عمريه تالية، يبدو ذلك حين يشير إلى «كنت صغيرًا»، «كان عمري سنتين وبضعة أشهر»، وغيرها.

كذلك يحضر الزمن القديم بتفاصيله الخاصة جدًا، سواء وصف البيوت والجيران وما بينهم من علاقات، في تلك الأسرة الشعبية البسيطة، حيث يحضر «عامل المجاري» للمنازل، وحيث يحضر «عسكري الأمن» لأول مرة في الحارة لكي يراقب الأمن في الشارع ويحافظ عليه، كما تحضر بعض التفاصيل الخاصة بلعب الأولاد في الشارع، مثل اللعب «بالبلي الملوّن» و«النحلة» وطريقة لعب «الكوتشينة» التي تحمل صور الممثلين وتتفاوت قيمتها تبعًا لصورة النجم التي تظهر عليها، ويفرد الكاتب قصة خاصة «للطائرة الورقية» التي كانت أشد ألعاب الطفولة جمالًا وجاذبية، كذلك تحضر العملات التي عفا عليها الزمن «البريزة» و«الشلن» الذي كان يكفي تمامًا لمصروف اليوم، ولا شك حينها أن «العشرين جنيهًا» كان من الممكن أن تشتري «غويشة» ذهب.

أما التجربة الفريدة والمختلفة في آن معًا، فهي التي قدمها الشاعر «علي منصور» في إصداره الجديد «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير»، حيث جمع بين القصة والقصيدة بطريقة ذكية، بل ويكاد القارئ يلمح أثرًا من سيرة الكاتب الذاتية المكتوبة بطريقة أدبية مزج فيها الخيال بالواقع، وعاد هو أيضًا إلى ذكريات الطفولة الخاصة به مع حكايات الطفل مع شجرة المانجو، وفناء المدرسة، وحكاية الشاب المراهق مع زوجة أستاذه وحبيبته الأولى، وبدايات تجريبه للكتابة، وذكريات أيام الشباب والتحاقه باليسار، ثم ينتقل في سلاسة بعد ذلك إلى قصائد الكتاب التي لا تبعتد كثيرًا في عالمها عن عالم القصص حيث يسيطر عليها الحنين إلى الماضي ومواجهة بعض أحداث الواقع لا سيما الأحداث الراهنة في مصر وسوريا.


قصيدة النثر

مجموعة «من هنا تمر الأحلام» للكاتبة إيناس التركي

احتفت الأوساط الأدبية والثقافية مطلع العام الجاري بصدور الأعمال الكاملة للشاعر السوري الكبير «رياض الصالح حسين»، وذلك رغم وفاته منذ أكثر من ثلاثين عامًا (1982) ولكن أعماله الشعرية كانت ولا تزال حاضرة بقوة تبث الروح وتعبّر عن الواقع حتى يومنا هذا، ولعل هذا ما تراهن عليه «قصيدة النثر» باستمرار سواء في ذلك العمل الفريد الذي بقي متداولًا عبر ثلاثة عقود من الزمان، والذي يضم الدواوين الأربعة التي كتبها الشاعر قبل أن يتم الثلاثين من عمره ويموت!

كما بقي الشعر حاضرًا عند عدد من الشعراء الشباب المعاصرين أيضًا، فعلى الرغم من عدم انتشار الدواوين والأعمال الشعرية في المكتبات وعدم تصدرها قوائم «الأعلى مبيعًا» بشكل ملحوظ، إلا أن حضور الشعر والشعراء قد أصبح ظاهرةً ملحوظة، لا سيما فيما يتناقله المهتمون بالكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي من مقاطع ومقتطفات لشعراءٍ أعجبوهم.

ولعل البداية كانت في مصر مع الثورة وانتشار «شعراء العامية» بشكل مكثّف، ولكن الأمر اختلف في هذا العام بشكل كبير، إذ لفت الانتباه عدد من شعراء «قصيدة النثر» بشكلٍ خاص، نذكر منهم الشاعر «محمد القليني» صاحب ديوان (أركض طاويًا العالم تحت إبطي) الفائز بالمركز الأول في مسابقة «أخبار الأدب» مؤخرًا، وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من متابعي «القليني» والمهتمين بشعره ربما يكونوا لم يسمعوا عنه إلا من قصيدة واحدةٍ أو اثنتين تم تداولهما بكثرة على «فيس بوك» لاسيما قصيدة (طردوني من العمل) التي انتشرت على عدد من المواقع الالكترونية وتم تسجيلها صوتيًا على موقع «أنطولوجي».

كما حضرت «قصيدة النثر» بقوة في المؤتمر الذي نظمه «أتيليه القاهرة» سبتمبر الماضي، واستقبل أكثر من ثلاثين شاعرًا، بمشاركة عربية من شعراء ونقاد من السعودية والمغرب، والذي احتوى على عدد من قراءات للشعراء بالإضافة إلى عددٍ من الأوراق النقدية الهامة التي اقتربت من «قصيدة النثر» وتجاربها في مصر والعالم العربي وحاولت أن تجمع ما تتميز به من تشكيل جمالي وما تحويه من إشكالات وتحولات في السنوات الأخيرة.

في الوقت الذي نظّم فيه «المجلس الأعلى للثقافة» في دورته الرابعة (ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي) الذي ثار لغطٌ كثير حول تنظيمه ومشاركات الشعراء فيه، و اعتذر عن المشاركة فيه عدد كبير من شعراء الوطن العربي مثل «سعيد يوسف»، و«أدونيس»، و«عباس بيضون» اعتراضًا على ما وصفوه بانحياز اللجنة المنظمة للذائقة النقدية القديمة، وعدم احتواء أسماء عديدة كبيرة من أجيال مختلفة من شعراء قصيدة النثر في مصر والعالم العربي، معتبرين ذلك وصاية من بعض الشعراء القدامى الذين يستبعدون شعراء قصيدة النثر من المشهد الشعري أصلًا .

تجدر الإشارة إلى أن الملتقى أهدى جائزته السنوية هذا العام للشاعر المصري «محمد إبراهيم أبو سنة» (79 عامًا) والذي يعد من أهم أصوات شعراء الستينيات، حاصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1989 وكان آخر ديوانٍ أصدره (تعالي إلى نزهةٍ في الربيع) منذ سبعة أعوام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.